(44) نتكاملُ أو نتآكل - مسلكيات - جمال الباشا
مدة
قراءة المادة :
3 دقائق
.
وجود التباين الفطري بين الناس في القدرات العقلية والبدنية أمرٌ مهم جدا في إيجاد التوازن في حياتهم، ولو كانوا متساويين بدرجة واحدة لاختلَّ التوازن واضطرب المجتمع.وميول الناس المختلفة هي التي تضع محدّداتٍ لشخصية الفرد التي تدفعه لتبنّي رؤية معينة وجماعة معينة قد تختلف في أولوياتها ونهجها عن الجماعات الأخرى.
فتنوّع الميول والطبائع يؤدي إلى تنوع التخصصات، وهذه الأخيرة تؤدي إلى التكامل في سد حاجات الأمة.
فهناك ميولٌ علمية بحثية، وهناك ميول دعوية حركية، وأخرى ميول سياسية فكرية، وأخرى عسكرية جهادية، وأخرى مسلكية تربوية، وهكذا.
وفي كل نوع أقسام ودرجات.
وتنتظم هذه الميول في مشتركاتٍ يتولد عنها تياراتٌ واقعية في الميدان، وهو أمرٌ إيجابيّ صحيّ وُجِد في أفضل قرن وأصلح جيل عرفه التاريخ.
فرفقُ أبي بكر، وحزمُ عمر، وكرمُ عثمان، وشجاعة علي، وعلم ابن مسعود، وقراءة أبيّ، وشاعرية حسان، وحنكة خالد في الحرب، ودهاء عمرو في السياسة...إلخ، كلها صفات متمّمة لبعضها، فيكمِّل بعضهم بعضا ولا يحطِمه أو يُسقطه، وينتظم المجتمع وكأنه لوحة فسيفسائية بديعة في تكامل أجزائها وانسجام ألوانها.
فبالرغم من اشتراكهم في أصل صفات الخير وأعمال البر إلا أنَّ تفوقًا ما في وصفٍ ما كان يميز كل فرد عن الآخرين، ويجعله مقدَّما وبارعا في مجاله أكثر منهم.
عندما تغيب هذه الرؤية التكاملية يحل محلها التعصب والشعور بالوحدوية والوصاية على الدين والدعوة، فلا يرى المرء إلا نفسه وجماعته، وكل من خرج عن فكر جماعته ونهجها فهو ضال هالك، يجب التصدي له والتحذير منه.
وأنا لا أتكلم هنا بالطبع عن الاختلاف الجوهري في بنية المنهج وأصل الاعتقاد الموجود بالفعل عند الفِرق النارية الضالة التي خالفت السنة والجماعة، بل أريد اختلاف الميول والتخصصات الذي ينتج عنه اختلاف نوع الأداء والسلوك الذي يصبُّ في اتجاه واحد وهو إقامة دين الله تعالى في الناس، بالثوابت والقطعيات كحد أدنى.
ويقابل فقه التنوع التكاملي فقه استنساخ الشخصية أو (القَولبة)، وهو أن يكون جميع المسلمين نسخة طبق الأصل من شخص معين، وهو ممتنع شرعا وعقلا وعرفا، وهو خلاف إرادة الله القدرية في تنوع البشر واختلافهم، (ولا يزالون مختلفين).
إنَّ الجانب المذموم في الحزبية المقيتة هو التعصب وقِصَر النظر وأحادية الرؤية، والخروج من سعة الإسلام إلى ضيق الجماعة، واعتقاد الوصاية على الأمة، وهو ما يلزم منه إسقاط الآخرين وازدراء جهودهم.
ومَكمن الخطر الأكبر أن يصل الاعتداد بالنفس والجماعة إلى درجة اعتقاد أنهم هم الأمة وكل من خالفهم خارج عنها.
وغياب الوعي عند الجماعات الإسلامية بفقه التكامل في الأمة أدى إلى هذا التشقق والتشرذم وذهاب الريح وسقوط الهيبة أمام الأعداء بالرغم من ارتفاع عديدها بين الأمم.
وبعبارة أخرى أقول:
هو التآكل الذي يحل محل التكامل عند غيابه ولا بد.
فإما أن نرضى بالتكامل، أو نصبر على مر التآكل.