أرشيف المقالات

مجالس شرح كتاب الطب من صحيح البخاري (2)

مدة قراءة المادة : 14 دقائق .
2مجالس شرح كتاب الطب من صحيح البخاري (2)   قال الإمام البخاري رحمه الله: (بَابٌ: هَلْ يُدَاوِي الرَّجُلُ المَرْأَةَ أَوِ المَرْأَةُ الرَّجُلَ). ثمَّ أسند عقيبهُ حديثًا واحدًا فقال: • (5679) حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ المُفَضَّلِ، عَنْ خَالِدِ بْنِ ذَكْوَانَ، عَنْ رُبَيِّعَ بِنْتِ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ، قَالَتْ: كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَسْقِي القَوْمَ وَنَخْدُمُهُمْ، وَنَرُدُّ القَتْلَى وَالجَرْحَى إِلَى المَدِينَةِ.
• بيان ترجمة الإمام البخاري على الحديث: ترجم الإمام البخاري ترجمة استفهامية، وكثيرًا ما يصنع ذلك، ويختلف مقصده مِنْ ترجمة لأخرى، فليس مراده مضطردًا؛ لذلك يتباين الشراح في معرفة مقصده، والنكتة التي جعلته يترجم على صيغة الاستفهام.
والاستفهام أسلوب جاء به القرآن الكريم في آيات عدة لمعان عدة، منها: التشويق والإثارة، ومنها الإنكار، ومنها التعجب، ومنها مقصد البحث عن علم وغير ذلك.
ومقصد الإمام البخاري هنا بالاستفهام هو التقرير وإثبات الحكم؛ أي: يجوز أن يداوي الرجل المرأة، والمرأة الرجل، ويدل على ذلك الحديث الذي أخرجه.
طبعًا لا شك أنَّ المسألة فيها تفصيل كما سيأتي، ولا يقصد الإمام البخاري أنَّ الأمر على مطلقه، فهذا لا يقوله أحدٌ، فلا ينبغي أن تنزع الترجمة عن سياقها، ولا ينبغي أن يعمَّم الحكم وهو مخصوص بحالة حرب وضرورة.
ومن تأمل في الترجمة ونظر في الحديث، علِم أن ليس في الحديث ذكر المداوة، إلا أنَّ الإمام البخاري اعتمد على ما تقدَّم مِنْ ألفاظ الحديث في غير هذا الموضع، وكذلك ليس فيه ذكر مداواة الرجل للمرأة، ولكنه ضرب ذلك من باب القياس كما نبَّه على ذلك الشراح.

قال الحافظ ابن حجر (852هـ): (وليس في هذا السياق تعرُّض للمداواة إلا إن كان يدخل في عموم قولها نخدمهم، نعم ورد الحديث المذكور بلفظ: ونداوي الجرحى، ونرد القتلى، وقد تقدم كذلك في باب مداواة النساء الجرحى في الغزو من كتاب الجهاد، فجرى البخاري على عادته في الإشارة إلى ما ورد في بعض ألفاظ الحديث، ويؤخذ حُكم مداواة الرجل المرأة منه بالقياس)[1].
ويقول الحافظ زكريا الأنصاري (926هـ): (جواب الاستفهام محذوف؛ أي: نعم، ومَرَّ حديث الباب في باب: مداواة النساء الجرحى، ودلالته على الجزء الثاني من الترجمة ظاهرة، وعلى الأول منها بالقياس)[2].
ومن هنا نعلَم أهمية جمع طرق الحديث في الصحيح؛ لتظهر لنا الرواية التي استنبط البخاري الحكم منها، وقد يترجم البخاري بناءً على ألفاظ جاءت في بعض طرق الحديث لم يَسُقْها في صحيحه، ومن هنا تُشكِل تراجمُه على بعض الشراح، وكأن البخاري يقول لنا: من لم يعان لا يدرك المعاني، ومن عانى في جمع الطرق وتتبع الألفاظ، أدركها.
التعريف برجال الإسناد: 1.
قتيبة بن سعيد: هو أبو رجاء البلخي، الإمام الثقة، شيخ الإسلام، روى عنه الأئمة، متفق على جلالته، كان رحمه الله صاحب سنة وغزو وجهاد، وقد أكثر عنه البخاري، فروى له (324) حديثًا، توفي (240هـ).
قال الحافظ الذهبي (748هـ): (وروى غير واحد، عن أبي العباس السراج، قال: سمعت قتيبة بن سعيد يقول: هذا قول الأئمة في الإسلام وأهل السنة والجماعة: نعرف ربنا عز وجل في السماء السابعة على عرشه؛ كما قال تعالى: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه: 5][3].
2.
بشر بن مفضل: هو أبو إسماعيل البصري، من كبار ثقات أهل البصرة، توفي بعد (186هـ).
  3.
خالد بن ذكوان: هو أبو الحسين المدني البصري، كان رحمه الله قليل الحديث، وثَّقه الأئمة، لم أقف على سنة وفاته.
4.
الربيِّع بنت معوذ بن عفراء: هي الأنصارية النجارية، لها عدة أحاديث، صحابية شهدت بيعة الرضوان، والدها الذي قيل عنه أنه قتل أبا جهل هو وأخوه، توفيت بعد (70هـ).
• اللطائف الإسنادية والصَّنعة الحديثية: فيه التصريح بالتحديث والسماع بين اثنين من رواته، وصيغ السماع الصريحة التي جاءت هنا: (حدَّثنا)، وفيه صيغ العنعنة، وهي كالتصريح بالسماع هنا، لعدم تهمة التدليس، ولأنَّ رواية العنعنة في الصحيحين محمولة على السماع كما نص على ذلك الأئمة، وهذا الأمر ليس مبناه على حسن الظن فقط، وإنما عن ممارسة ونظر، نقل الحافظ البقاعي في النكت الوفية وهو يتكلم عن فوائد المستخرجات: (ثم نَقلَ شيخُنا عن الحافظِ شمسِ الدينِ بنِ ناصرِ الدينِ أنَّهُ نيفَ بالفوائدِ عن الخمسَ عشرَةَ، فأفكرَ مليًّا، ثم قالَ: عندي ما يزيدُ على ذلكَ بكثيرٍ، وهوَ أَنَّ كلَّ علةٍ أُعلَ بها حديثٌ في أحدِ الصحيحينِ، جاءت روايةُ المستخرجِ سالمةً منها، فهي مِنْ فوائدِ المستخرجِ، وذَلِكَ كثيرٌ جدًّا، واللهُ الموفقُ)[4].

وفيه رواية الرجل عن المرأة. وقد دار الحديث بين بلخ - وهي مدينة من مدن خرسان (أفغانستان حاليًّا) - والبصرة، والمدينة.
• أطراف الحديث في الجامع الصحيح: أخرجه البخاري في ثلاثة مواطن، هذا أحدهما.
والثاني: أخرجه برقم (2882): حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ المُفَضَّلِ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ ذَكْوَانَ، عَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ، قَالَتْ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَسْقِي وَنُدَاوِي الجَرْحَى، وَنَرُدُّ القَتْلَى إِلَى المَدِينَةِ)
.
وهذا المتابعة فيها فوائد، منها: • متابعة علي بن المديني لقتيبة بن سعيد. • وفيه التصريح بالتحديث بين بشر بن المفضل وخالد بن ذكوان. • وفيه تصريح الربيِّع بأنهنَّ كن يباشرنَ مداوة الجرحى وسقيهم، ودلالة هذا اللفظ على تبويبه ظاهرة هنا.
الموطن الثالث: أخرجه برقم (2883): حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ المُفَضَّلِ، عَنْ خَالِدِ بْنِ ذَكْوَانَ، عَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ، قَالَتْ: كُنَّا نَغْزُو مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَسْقِي القَوْمَ، وَنَخْدُمُهُمْ، وَنَرُدُّ الجَرْحَى وَالقَتْلَى إِلَى المَدِينَةِ.

وهذه المتابعة فيها فائدة، وهي: • متابعة مسدد لقتيبة وعلي بن المديني. وفي ضوء ذلك نعلم أنَّ التكرار فيه فوائد، منها حديثية، ومنها فقهية، لذلك أعجب كل العجب ممن يزهد في معرفة طرق الحديث في الصحيح، أو يهمل معرفتها والعناية بها بدعوى التكرار، فكما ترون لا يوجد تكرار حقيقي عند التأمل، فاستفدنا من إعادة الحديث ما يلي: • التصريح بالسماع، وفي ذلك فائدة عظيمة، لا سيما إن كان الراوي متهمًا بالتدليس أو مختلف في سماعه.   • وكذلك زيادة في الألفاظ، وهذه المسألة تنفع الفقيه جدًّا، لذلك بوب البخاري تبويبات متغايرة بناءً على اختلاف ألفاظ الحديث.
• قوة إسناد الحديث، فتعدد طرق الحديث يزيده قوة.
• ذكر من رواه من أصحاب الكتب التسعة: أخرجه الإمام أحمد (27017)، عن بشرٍ به.
ولعل سائلًا يسأل ويقول: لِمَ لم يُخرِّجه الدارمي ولا مسلمٌ ولا ابن ماجه ولا أبو داود ولا الترمذي ولا النسائي[5]، على الرغم أنَّ كتبهم مصنفة في الأحكام، وهذا حديث فيه تأصيل لحكم شرعي؟ الجواب: لم يتركه من تقدَّم ذكرهم لشبهة أو لريبة؛ لأنَّ الحديث ليس أصلًا في بابه حتى يُقال ذلك، وكذا لأنَّ شواهد الحديث مستفيضة وكثيرة، فقد جاء معنى الحديث من حديث أنسٍ، وابن عباسٍ، وأم عطية، وأم زياد الأشجعية، رضي الله عنهم جميعًا، فثمة سعة في التخيير والانتخاب، ولكن ورد معنى الحديث من رواية غير واحدٍ من الصحابة؛ مما جعل الأئمة ينتخبون من رواية بعضهم، وهذا ظاهر في صنيع الترمذي رحمه الله إذْ قال: (بَابُ مَا جَاءَ فِي خُرُوجِ النِّسَاءِ فِي الحَرْبِ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ هِلاَلٍ الصَّوَّافُ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ الضُّبَعِيُّ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْزُو بِأُمِّ سُلَيْمٍ وَنِسْوَةٍ مَعَهَا مِنَ الأَنْصَارِ يَسْقِينَ الْمَاءَ وَيُدَاوِينَ الجَرْحَى.
وَفِي البَاب عَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ، وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ)
[6]، فالترمذي اكتفى بتخريج حديث أنسٍ رضي الله عنه، ثم أشار إلى ورود حديث الربيع، ثمَّ إنَّ هذا السؤال يتوجه على إعراض الشيخين عن الحديث وليس العكس.
• بيان الكلمات الغريبة الواردة في الحديث: قولها: (نرد القتلى)؛ أي: نحملهم ونرجعهم إلى المدينة.
• المعنى العام للحديث: أنَّ نساء الصحابة كن يخرجنَ مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إلى الغزو والجهاد، وكان جهادهنَّ خدمة المقاتلين من الرجال وسقيهم ومداواة جرحاهم، ورد قتلاهم إلى المدينة، وهذا الخبر يسمى بالموقوف لفظًا المرفوع حكمًا؛ لأننَّا استفدنا من قولها هذا إقرار النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم على ذلك.
أهم ما يستفاد من الحديث: 1- جواز إخراج النساء إلى الغزو؛ لخدمة الرجال ومداواة جراحهم، وأنَّ خدمة الرجال وإعانتهم تحسب لهنَّ غزوًا وجهادًا، يقول العلامة الشوكاني (1250هـ): (وقولها: كنا نغزو: جعلت الإعانة للغزاة غزوًا، ويمكن أن يقال: إنهنَّ ما أتين لسقي الجرحى ونحو ذلك، إلا وهنَّ عازمات على المدافعة عن أنفسهنَّ، وقد وقع في صحيح مسلم عن أنس أن أم سليم اتخذت خنجرًا يوم حنين، فقالت: اتخذته إن دنا مني أحد من المشركين بقرْتُ بطنه، ولهذا بوب البخاري: باب غزو النساء وقتالهنَّ)[7].
2- أنَّ الضرورات تبيح المحظورات؛ فالاختلاط بالمرأة ممنوع، مس المرأة للرجل الأجنبي والعكس ممنوع، إلا أنه رخص به هنا للضرورة؛ لأنَّ الساعة ساعة حرب، فإذا انشغل الرجل بمداواة الجرحى ورد القتلى، قلَّ سواد المسلمين في ساحة المعركة، وربما انكسرت شوكتهم؛ قال الحافظ القسطلاني (923هـ) رحمه الله: (واستشكل مباشرة المرأة الرجل بالمداواة، وأجيب: باحتمال أن تكون المداواة لمحرم أو زوج، وأما الأجانب فتجوز عند الضرورة بقدر ما يحتاج إليه من اللمس والنظر)[8].
3- فضل نساء الصحابة وحرصهنَّ على الأعمال الصالحة ومزاحمة الرجال في أبواب الخير.
4- لا ينبغي إهمال من يحتاج إلى رعاية من طعام وشراب ومداواة.
5- فيه دليل على أنه يجوز للمرأة الأجنبية معالجة الرجل الأجنبي للضرورة، ولكن حال لا تباشر بالمس مع إمكان ما هو دونه، وهكذا الرجل في مداوة المرأة عند الضرورة، لا يمسها بيده ولا يكشف عن جسدها ما دام قادرًا على مداواتها من غير مس أو كشف.
أما كشف الرجل على المرأة والمرأة على الرجل من غير ضرورة، فإنه محرمٌ شرعًا. وقد يرخص للطبيب الكشف على المرأة إن كان الطبيب حاذقًا في طبِّه، وليس ثمة طبيبة تمتلك خبرته، يقول العلامة ابن باز رحمه الله: (إذا كان هناك أطباء مختصون في معرفة أمراض النساء المانعة من الحبل، ولم يوجد من يقوم مقامهم من الطبيبات، فلا بأس أن تعرض المرأة نفسها فيما يتعلق بالمرض الذي لم يعرفه النساء، وهكذا الرجل إذا كان به مرض لم يعرفه الأطباء من الرجال، وكان هناك طبيبات يعرفنَ هذا المرض، أو يُرجى أن يعرفنَ هذا المرض، فلا بأس.
فالمقصود أن التطبب عند الرجل من المرأة عند الحاجة، والتطبب من الرجل عند المرأة عند الحاجة؛ لا حرج فيه، أما إذا وجد من يكفي، فإن الطبيب يكون للرجال، والطبيبة تكون للنساء، حذرًا من الاختلاط الذي قد يضر الجميع، وحذرًا من الفتنة.
لكن عند الضرورة يجوز أن يطب الرجل المرأة، ويجوز للمرأة أن تطب الرجل عند الضرورة الداعية إلى ذلك، والله المستعان)
.
وأما الذهاب المرأة إلى الطبيب وكشفها عن جسدها؛ لإجراء عمليات تجميلية أو ما يُعرف بشد الصدر، أو إزالة الشعر، فلا شك أنَّ ذلك محرَّمٌ، وجُرمه عظيمٌ جدًّا، والله المستعان.


[1] فتح الباري 10/ 136. [2] منحة الباري 9/ 8. [3] السي ر11/ 20. [4] النكت الوفية 1/ 151. [5] طبعًا النسائي أخرجه في الكبرى، إلا أن عند الاطلاق يقصد بتخريجه النسائي تخريجه له في المجتبى. [6] سنن الترمذي 1575. [7] نيل الأوطار 7/ 282. [8] إرشاد الساري 8/ 361.



شارك الخبر

ساهم - قرآن ١