التجني على الأولين
مدة
قراءة المادة :
6 دقائق
.
التجني على الأولينبسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وسلم؛ وبعد:
يجد القارئ للساحة الدعوية سمة تغلب على بعض الدعاة أو طلاب العلم ألا وهي ظاهرة - دعنا نسميها - "التجني على الأولين"؛ وأقصد بها: أن هذا الداعية أو العالم إذا لاح له فهم في مسألة أو في قضية بعد دراسة يظن أنها مستقصية؛ يقول لقد غابت هذه المسألة عن السابقين أو أنهم لم يولوها أو يعطوها حقَّ قدرها!!!
ونحن نقول له هنا: على رسلك أيها الحبيب:
• إذا أنت لم تجد أحدًا من الأولين أولى هذه القضية الكبرى – كما تدعيها – فأظن أن هذا الأمر راجع لقلة اطلاعك أو قصر شمول نظرك وبحثك في هذه المسألة، ولو بحثت وتمعنت قليلًا ولم تتسرع لوجدت أصلها مبحوثًا في كلام الأولين، فكلام الأولين كان يتسم بالبلاغة في التعبير عن المسائل فتجد مسألة كبرى يتناولها طلاب العلم اليوم في أبحاث ومقالات كان يكتفي أسلافنا بذكرها بكلمة أو بجملة بسيطة، وهذا أصله مأخوذ من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم.
• من أجل ألا يأتي هذا اليوم ويتسع فيه نسبة التقصير إلى أسلافنا؛ كان كثير من العلماء المعاصرين يمجدون علم السلف ويمدحونه أمام طلابهم، وإن حديث أن علق أو استدرك على من سبقه تجده يعبر عن المسألة بأدب جم وخلق عظيم معترفًا بفضل علمهم ثم يبدأ بمناقشة المسألة، وخير من نستدل به في هذا الأمر هو شيخ البلاغيين المعاصرين الأستاذ الدكتور محمد أبو موسى فكتبه ومحاضراته تطفح بالاعتراف بالفضل للأولين، حتى إن ناقشهم أو رد عليهم بعض الأقوال ورجح رأيًا آخر.
• كتب في ذلك أيضًا ابن رجب الحنبلي كتابه "بيان فضل علم السلف على علم الخلف"، فقد قال ابن رجب رحمه الله: (فمن عرف قدر السلف عرف أن سكوتهم عما سكتوا عنه من ضروب الكلام وكثرة الجدال والخصام، والزيادة في البيان على مقدار الحاجة لم يكن عيًا ولا جهلًا ولا قصورًا، وإنما كان ورعًا وخشية لله واشتغالًا عما لا ينفع بما ينفع...
فمن سلك سبيلهم فقد اهتدى، ومن سلك غير سبيلهم ودخل في كثرة السؤال والبحث والجدال، والقيل والقال فإن اعترف لهم بالفضل وعلى نفسه بالنقص كان حاله قريبًا...
وإن ادعى لنفسه الفضل ولمن سبقه النقص والجهل فقد ضل ضلالًا مبينًا وخسر خسرانًا عظيمًا[1].
• ولو اطلع أحدنا على مقدمة كتاب "المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر" لابن الأثير بتحقيق الشيخ محي الدين عبد الحميد، فقد قال الشيخ محي الدين وهو يعدد الأسباب التي دعته إلى التحقيق بدلًا من التأليف: وثالثها: أن أثبت لهؤلاء الذين يتنقصون من قدر آبائنا وينالون منهم أن لأولئك الآباء من المجد والمنزلة ما يفخر به الأبناء، وليس يضير الغادة الهيفاء ضنانة أهلها وبخلهم ولؤم أنفسهم ولا يغض من جمالها أن تظهر في أطمار مهلهلة ولكنّ على من تكون من نصيبه أن ينفض عنها غبار الإهمال، ويجلوها في فاخر الديباج؛ ليظهر له بديع ما أنعمها الله من فتنة وجمال[2].
• وقال الشيخ محي الدين في مقال آخر: وقد خلق الله في نفسي حب السلف والتفاني في الدفاع عن علومهم وأفكارهم، والحرص على إذاعة فضلهم وعظيم منتهم علينا وعلى من يأتي بعد من الأجيال المتلاحقة[3].
• وقال أيضًا في مقدمة كتاب الأدب السائر: ولكنا نذكر لك ههنا عملنا في هذا الكتاب لتدرك مقدار الجهد المضني الذي بذلناه في إخراجه على هذه الصورة التي نتمنى أن تخرج عليها كتب العربية، بل كتب الثقافة الإسلامية عامة؛ لتنقطع ألسنة الأفاكين الذين يتهمون آباءنا بقلة الإنتاج الصحيح، وإذا اعترف أحدهم لهم ذكر في جانب اعترافه هذا أن الإنتاج محدود لا أثر فيه لشخصية المنتج، ولا برهان فيه على الاستقلال والحرية الفكرية، في الوقت يسطو هو على إنتاجهم وعصارة أذهانهم فينتحلها وينسبها لنفسه، وهو بمأمن من أن يعرف ذلك سواد الناس ودهماؤهم؛ لأنهم لا يقرءون هذه الكتب.
• ولا يفوتنا أن ننوه إلى أن العلمانيين اليوم أو المتعالمين على شاشات التلفزة الذين يقوم الإعلام اليوم بتلميعهم وبهرجتهم للعامة، ما يفتؤون أن يشيروا بالتلميح أحيانًا وبالتصريح تارة أخرى أن ينسبوا التقصير للأولين في تبيين الحق في بعض المسائل والقضايا، وسلاح العلمانيين في رد أقوال وترجيحات علمائنا في التفسير أو الحديث أو القضايا الكبرى؛ إنما هو تنقيص من مكانتهم.
ودونك محمد خضر شحرور فهو يقول في إحدى لقاءاته على بعض الشاشات أنه قرأ كل كتب التفسير فلم يجد فيها تفسيرًا ولم يجد فيها علمًا!!!
هكذا يتبجح بكل جهل وغرور، فإذا جاء بعض دعاتنا لينسب التقصير لعلمائنا السالفين فهو - للأسف - يكمل جهد الحاقدين على ديننا والذين يريدون لجيلنا أن يزداد بعدًا عن تاريخهم وعلمائهم الحقيقيين!
• لذلك عليك أيها القارئ الحصيف أن تقتفي أثر علمائنا الأكابر وتترك الرويبضة – الرجل التافه يتكلم في أمر العامة – فزماننا هو زمان قلَّة العلماء واتخاذ الناس رؤوسًا جهالًا، حتى يسلم لك دينك وتلقى ربك وهو راضٍ عنك، والحمد لله رب العالمين.
[1] فضل علم السلف على علم الخلف 92-94 بتصرف
[2] الأدب السائر 6
[3] من مقدمة كتاب شرح قطر الندى وبل الصدى 27