أرشيف المقالات

أركان التعبد بالأسماء والصفات

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
2أركان التعبُّد بالأسماء والصفات
لا بدَّ لكلِّ مَن توجَّه نظرُه إلى التعبُّد بأيِّ اسم أو صفة من أسماء الله تعالى وصفاته من أمرين مهمَّين[1]: الأول: (الإيقان بالاسم على كماله وحسنه، والصِّفة على تمام الاتِّصاف بها): فالمؤمن الحقُّ مَن يقرُّ بالاسم وما دلَّ عليه من صِفةٍ أو أثَر، ويقرُّ بذلك على كماله، فالله تعالى له الأسماء الحسنى البالِغة في الحسن أعظَم درجاتِه، ومَن أخلَّ بشيء مِن ذلك حُرِم من هذا الباب بقدْر ما عنده من الإخلال، ومَن أنكَر الأسماء والصِّفات فأنَّى أن تدخل حقيقة الإيمان قلبه، بل دون ذلك خَرْطُ القَتادِ.   وتأمَّل وفَّقَك الله كلمةَ "الحسنى"، هل يمكن أن تتمَّ مع التعطيل؟ وهل يمكن معرفة الله تعالى بجَماله وكماله إلَّا بمعرفة الأسماء الحسنى والصِّفات العُلى وإثباتها له تعالى كما يليق بجلاله؟ قال الشيخ عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب: "فمَن قال: إنَّ ذاته تُعرف بدون معرفة شيءٍ من أسمائه وصِفاته الثبوتيَّة والسلبيَّة، فقوله مَعلوم البطلان، ممتنِعٌ وجود ذلك في الأعيان"[2].   قال الدَّارمي في ردِّه على بِشْر: "ولن يدخل الإيمانُ قلبَ رجل حتى يَعلم أنَّ الله لم يزل إلهًا واحدًا بجميع أسمائه وجميعِ صِفاته، لم يَحدُث له منها شيءٌ، كما لم تزَل وحدانيَّته"[3].   وقال ابن القيِّم: "وهذا بابٌ حرامٌ على الجهميِّ المعطِّل أن يَلِجَه إلى الجنَّة، حرامٌ عليه ريحُها، وإنَّ ريحها ليوجَد من مسيرة خمسين ألف سنة، والله العزيز الوهَّاب لا مانِعَ لِما أَعطى، ولا معطِيَ لِما منَع، وبه التوفيق"[4]، وقال في الحُجُبِ التي تحجب القلبَ: "والحُجب عشرة: حِجاب التَّعطيل ونفي حقائق الأسماء والصِّفات؛ وهو أغلَظُها، فلا يتهيَّأ لصاحب هذا الحِجاب أن يعرف اللهَ ولا يصِل إليه البتَّة إلَّا كما يتهيَّأ للحَجر أن يصعَد إلى فوق"[5].   وإنَّ مَن رام الحقَّ لَيُقِرُّ بأنَّ حقيقة التعبُّد - والذي مِن ثماره المحبة والإنابة، والتوكُّل ومقام الإحسان - ممتنعة على المعطِّل؛ إذ كيف تصمد القلوبُ إلى مَن ليس داخِل العالَم ولا خارجه، ولا متَّصلًا به ولا منفصلًا عنه، وكيف تألَه القلوبُ مَن لا يسمع كلامَها ولا يرى مكانَها، ولا يُحِب ولا يُحَب، ولا يقوم به فِعلٌ مطلقًا، ولا يتكلَّم ولا يُكلِّم، ولا يقرب من شيء ولا يقرب منه شيءٌ، ولا يقوم به رأفَةٌ ولا رحمة ولا حَنان، ولا له حِكمةٌ ولا غاية يَفعل ويأمر لأجلِها؟ أم كيف تألَه القلوبُ مَن لا يرضى ولا يَغضب، ولا يَفرح ولا يضحك، "فسبحان مَن حال بين المعطِّلَةِ وبين محبَّته ومعرفتِه، والسُّرور والفرح به، والشوق إلى لقائه، وانتظار لذَّة النَّظر إلى وجهه الكريم والتمتُّع بخِطابه في محلِّ كرامته ودار ثوابه، فلو رآها أهلًا لذلك لَمنَّ عليها به وأكرَمها به؛ إذ ذاك أعظم كرامةٍ يكرِم بها عبدَه، والله أعلم حيث يجعل كرامتَه ويضع نعمتَه"[6].   وإنَّ مَن أيقن بهذا الباب ولم يتأثَّر إيمانُه به بالشُّبه الباطِلة والإراداتِ المبتدعة، فقد وصَل إلى درجات البصيرة في الأسماء والصِّفات، والبصيرةُ نورٌ يقذفه الله في القلب يرى به حقيقةَ ما أخبرَت به الرُّسُل كأنَّه يشاهده رأي عين؛ وبذلك ينتفع بما دعا إليه الشَّرعُ من الاعتناء بهذا الباب العظيم[7].   ومَن أعرض عن الإيمان بهذا الباب وعطَّل أسماءه وصِفاته كان مِن أعظم الصَّادِّين عن معرفة الله وعبادته والقاطعين طريق الوصولِ إليه، قال ابن القيم: "الجهَّال بالله وأسمائه وصِفاته المعطِّلون لحقائقها يبغِّضون اللهَ إلى خَلْقه، ويقطعون عليهم طريقَ محبَّته والتودُّد إليه بطاعته من حيث لا يعلمون"[8].   الثاني: (أن يعامل كل اسم أو صفة بما يقتضيه ذلك الاسم أو تقتضيه تلك الصفة): فمثلًا: مِن أسماء الله الأول؛ فمَن أيقن بهذا الاسمِ فإنَّه يصرِف الأمورَ إلى الله؛ فيؤمِن به ويتوكَّل عليه ويثِق به؛ لأنَّه الأول الذي جاد بالأسباب، ولا يلتفِتُ بقلبه إلى غيره طرفةَ عين؛ لأنَّه وإن كان يباشره إلَّا أنه يعلم كونه سببًا، وأنَّ الله هو الذي تفضَّل به وأحسَن بإيصاله إليه.   والله هو الآخِرُ؛ فمَن أيقن بذلك لن يركَن إلى الأسباب؛ فإنَّها تنعدم لا محالة، ولذا سيجعل اللهَ غايته؛ لأنَّه تعالى نهاية كل شيء: ﴿ وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى ﴾ [النجم: 42].   فهذان الاسمان يوجِبان الاضطرار إلى الله وحده، ودوام الفقر إليه دون كلِّ شيء سواه، وأنَّ الأمر ابتدَأ منه وإليه يرجِع، فهو المبتدئ بالفضل حيث لا سبَب ولا وسيلة، وإليه تنتهي الأسبابُ والوسائل، فهو أول كلِّ شيء وآخرُه، وكما أنَّه رب كلِّ شيء وفاعله وخالقه، فهو إلهُه وغايتُه التي لا صلَاح له إلَّا بأن يكون وحده غايته ونهايته ومقصوده.   وهو الظَّاهِر؛ فمَن أيقن بذلك علِم أن له ربًّا يقصده، وصمدًا يصمد إليه في حوائجه، وملجأ يلجأ إليه، وأنَّ كلَّ شيء بيده، لا يُعجِزه شيءٌ ولا يتعاظمه شيء، ملك الملوكِ بيده، وأمر كلِّ شيء نافذٌ بإرادته.   وهو الباطِن؛ فمَن أيقن بذلك علِم قرْبَه منه، وأنَّه أقرب إليه من كلِّ شيء حتى من نفسه[9].   قال ابن القيِّم: "لكلِّ صِفة عبوديَّةٌ خاصَّة هي من موجباتها ومقتضياتها؛ أعني: من موجبات العِلم بها والتحقُّق بمعرفتها، وهذا مطَّرد في جميع أنواع العبوديَّة التي على القلب والجوارح، فعِلْم العبد بتفرُّد الربِّ تعالى بالضرِّ والنفع، والعطاء والمنع، والخلق والرِّزق، والإحياء والإماتة - يثمِر له عبوديَّة التوكُّل عليه باطنًا ولوازم التوكل وثمراته ظاهرًا.   وعلمه بسمعه تعالى وبصره وعلمه، وأنَّه لا يَخفى عليه مِثقال ذرَّةٍ في السموات ولا في الأرض، وأنه يعلم السرَّ وأخفى، ويعلم خائنةَ الأعين وما تُخفي الصُّدور - يُثمِر له حِفظ لسانه وجوارحه وخطرات قلبه عن كلِّ ما لا يُرضي اللهَ، وأن يجعل تعلُّق هذه الأعضاء بما يحبُّه الله ويرضاه، فيثمر له ذلك الحياء باطنًا، ويثمِر له الحياءُ اجتناب المحرَّمات والقبائح.   ومعرفته بغناه وجوده وكرَمه، وبرِّه وإحسانه ورحمته - توجِب له سَعة الرَّجاء وتثمِر له ذلك من أنواع العبودية الظاهرة والباطنة بحسب معرفته وعلمه.   وكذلك معرفته بجلال الله وعظَمته وعزِّه، تثمِر له الخضوع والاستِكانة والمحبَّة، وتثمَر له تلك الأحوال الباطنة أنواعًا من العبودية الظاهرة هي موجباتها.   وكذلك علمه بكَماله وجمالِه وصفاته العلى يوجِب له محبَّة خاصَّة بمنزلة أنواع العبودية، فرجعت العبوديُّةُ كلُّها إلى مقتضى الأسماء والصِّفات، وارتبطَت بها ارتباط الخلقِ بها، فخلقه سبحانه وأمره هو موجب أسمائه وصِفاته في العالم وآثارها ومقتضاها؛ لأنَّه لا يتزيَّن من عباده بطاعتهم ولا تشينه معصيَتُهم"[10].   الاتصاف بموجب الاسم والصفة: وإن مِن التعبُّد بالأسماء والصِّفات الاتِّصاف بموجب الاسم والصِّفة، قال ابن القيم: "وهو سبحانه يحبُّ موجب أسمائه وصِفاته، فهو عليمٌ يحبُّ كلَّ عليم، جوادٌ يحبُّ كلَّ جواد، وتْرٌ يحبُّ الوترَ، جميلٌ يحبُّ الجمال، عفوٌّ يحبُّ العفو وأهله، حيِيٌّ يحب الحياء وأهله، بَرٌّ يحبُّ الأبرار، شكور يحبُّ الشاكرين، صبور يحبُّ الصابرين، حليم يحبُّ أهل الحلم"[11].   غير أنَّ الاتصاف بموجب أسماء الله تعالى مقيَّدٌ بشرط، وهو أنَّ بعض أسماء الله تعالى هي كمالٌ في حقِّه جلَّ وعلا، ولكنَّها نقص وذمٌّ في حقِّ المخلوق، فهذه لا يجوز الاتصاف بموجبها، ولذا كان الشَّرط المقيد لإطلاق ما ذكرنا هو ألَّا يكون الوصف ممَّا يختصُّ به الرب تعالى؛ كاسم الله الجبَّار؛ فإنَّه كمالٌ في حقِّه نقصٌ في حقِّ العبد، فلا يجوز أن يتَّصف العبد بموجبه، قال ابن القيِّم: "وأمَّا المخلوق فاتِّصافه بالجبَّار ذمٌّ ونقص؛ كما قال تعالى: ﴿ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ﴾ [غافر: 35]، وقال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ ﴾ [ق: 45]"[12].


[1] انظر: "طريق الهجرتين" (51). [2]مجموعة الرسائل والمسائل النجدية (4 / 134).
[3]الرد على المريسي (13). [4]التبيان (146)، وانظر: الصلاة وحكم تاركها (171).
[5] "مدارج السالكين" (3 / 233). [6] "مدارج السالكين" (3 / 367، 368). [7] انظر: "مدارج السالكين" (1 / 139).
[8] الفوائد (197).
[9] أطال ابن القيم الحديث عن هذه الأسماء في "طريق الهجرتين" (43 وما بعدها).
[10] مفتاح دار السعادة (2 / 90)، وقد أطال الحديث عن ذلك بكلامٍ جميل يحسن الرجوع إليه.
[11] "مدارج السالكين" (1 / 453)، وانظر: روضة المحبين (64).
[12]شفاء العليل (1 / 312).




شارك الخبر

مشكاة أسفل ١