أرشيف المقالات

عن عمره فيم أفناه؟

مدة قراءة المادة : 18 دقائق .
عن عمره فيمَ أفناه؟

الوقت له قيمةٌ عظيمة في الإسلام؛ ولهذا أَقسم الله تعالى به في كتابه، أقسَم بأجزائه؛ أقسم بالفجر، وأقسم بالضُّحى، وأقسم بالعصر، وأقسم بالليل، وأَقسم بالنَّهار، لماذا هذا القسَم كله؟ إنَّ الله إذا أَقسم بشيء فإنما يُقسِم به ليلفت أنظارنا إلى أهميَّته وإلى خطورته؛ حتى نتفكَّر في أجزاء الوقت كله؛ فجره، وضحاه، وعصره، وليله، ونهاره.

أولًا: بعض الآيات التي ذُكر فيه الوقت في القرآن الكريم:
• قال تعالى: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [آل عمران: 190].
• قال تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا ﴾ [الإسراء: 12].
• قال تعالى: ﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ [العصر: 1 - 3].
• قال تعالى: ﴿ وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ﴾ [الفجر: 1 - 4].
• قال تعالى: ﴿ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا ﴾ [الشمس: 1 - 4].
• قال تعالى: ﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى ﴾ [الليل: 1، 2].
• قال تعالى: ﴿ وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ﴾ [الضحى: 1، 2].

• لقد جعل الله تعالى الليلَ والنهار آيتين من آياته التي لا تُحصى ولا تُعد؛ فالليل له وظيفته، ويمارس فيه من المهام ما يَستحيل مُمارستها نهارًا، وكذلك النهار.

ولقد قسَّم الله تعالى الفرائضَ والواجبات على الأوقات؛ حتى نَشعر بكلِّ جزء من أجزاء الوقت، فإذا انكشف نِقاب الليل الأسود عن وَجه الصباح الأبيض، قام مؤذِّن يؤذِّن لكي يُشعرنا بقيمة نَهار جديد، وصُبحٍ جديد، فإذا قام قائم الظَّهيرة وزالت الشمس من كَبد السماء، قام مؤذِّن جديد يؤذِّن للظهر، فإذا صار كلُّ شيء مثله أذن أذان العصر، فإذا غرب قُرص الشمس كان المغرب، فإذا غاب الشَّفق الأحمر كانت العشاء؛ كل هذا إشعار بأنَّ لكل وقت حقًّا.

ثانيًا: بعض الأحاديث النبوية التي بينت أهمية الوقت:
لقد وردَت في سُنَّة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم العديد من الأحاديث التي تُعتبر مرجعًا لكلِّ إنسان يعرف قيمة الوَقت، وينزله منزلته، ولا يبدِّده، ولا يضيعه سُدًى؛ ونذكر من هذه الأحاديث بعضها:
• عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع خِصال: عن عمره فيمَ أفناه، وعن شَبابه فيمَ أَبلاه، وعن ماله من أين اكتسَبه وفيمَ أَنفقه، وعن عِلمه ماذا عَمِل فيه))؛ (رواه البزار والطبراني).

• عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نِعمتان مَغبون فيهما كثيرٌ من الناس: الصحَّة، والفراغ))؛ (رواه الترمذي وابن ماجه).

• عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أَعذَرَ الله عزَّ وجل إلى امرئ أخَّر عمره حتى بلَّغه ستين سنة))؛ (رواه البخاري).

• وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: "إذا أَمسيتَ فلا تَنتظِر الصَّباحَ، وإذا أصبحتَ فلا تَنتظِر المساء، وخذْ مِن صحَّتك لمرضِك، ومِن حياتك لمَوتك".

ثالثًا: حال الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين مع الوقت:
إنَّ مَن تربَّى في مدرسة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، ونهل من النَّبع الصَّافي الذي يُعطي لكلِّ وقت قيمته دون إفراط أو تفرط - لا بد وأن يكون نموذجًا يُحتذى، وقدوة لمن يقتدي به إلى يوم القيامة؛ فلقد كان سلفنا الصَّالح رضوان الله عليهم حريصين أشد الحِرص على الانتِفاع بأوقاتهم واغتنامها واستثمارها، فقد كانوا يسابِقون الساعات، ويبادرون اللحظات؛ ضنًّا منهم بالوقت، وحِرصًا على أن لا يتفلَّت منهم سُدًى.

1- كان الصدِّيق رضي الله عنه يقول: "إنَّكم تغدون وتروحون في أجَلٍ قد غيِّب عنكم علمه؛ فإن استطعتم أن تَنقضي الآجال وأنتم في عمَل الله - ولا تستطيعون ذلك إلا بالله - فسابِقوا في مهل بأعمالكم، قبل أن تَنقضي آجالكم، فتردكم إلى سوء أعمالكم، فالوحا الوحا[1]، النجاء النجاء؛ فإنَّ وراءكم طالبًا حثيثًا أمره، سريعًا سيْره".

2- لقد كان الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه نموذجًا صالحًا لكلِّ العاملين والمسؤولين، حين جاء مُعاوية بن خديج يبشِّره بفَتح الإسكندرية، فوصل إلى المدينة وقت القيلولة، فظن أنه نائم يستريح، ثمَّ عَلِمَ أنه لا ينام في ذلك الوقت، وقال لمعاوية: "لئن نمتُ النهار لأضيِّعنَّ حقَّ الرعية، ولئن نمتُ الليل لأضيِّعنَّ حقَّ الله، فكيف بالنوم بين هذين الحقين يا معاوية؟".

3- قال ابن مسعود رضي الله عنه: "ما ندِمتُ على شيء ندمي على يوم غربَت شمسه نَقص فيه أجلي، ولم يزدَد فيه عملي".

4- وقال عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه: "إنَّ الليل والنهار يَعملان فيك، فاعمل فيهما".

5- وقال الحسن البصري: "يا بن آدم، إنما أنت أيَّام، فإذا ذهب يومٌ، ذهب بعضك"، وقال أيضًا: "أدركتُ أقوامًا كانوا على أوقاتهم أشد مِنكم حرصًا على دراهمكم ودنانيركم".

6- وقال الشافعي: "صحبتُ الصوفيَّة، فلم أستفد منهم سوى حرفين؛ أحدهما: الوقت سيف إن لم تقطعه قطعك، والثاني: نفسك اشغلها بالحقِّ وإلا شغلَتك بالباطل".

7- وقال ابن القيم في كتابه الجواب الكافي: "أَعْلَى الفِكَر وأجلُّها وأنفعها ما كان لله والدَّار الآخرة؛ فما كان لله فهو أنواع، وذكر منها: الفِكرة في واجب الوقت ووظيفته، وجمع الهمِّ كله عليه، فالعارف ابن وقته؛ فإن أضاعَه ضاعت عليه مَصالحه كلها، فجميع المصالح إنما تَنشأ من الوقت، فمتى أضاع الوقت لم يستدركه أبدًا"[2].

8- وقال ابن عطاء: "رُبَّ عمر اتَّسعَت آماده وقلَّت أمداده، وربَّ عمر قليلة آماده كثيرة أَمداده، مَن بورك له في عمره أدرك في يَسير من الزَّمن من منن الله تعالى ما لا يدخل تحت دوائر العبارة، ولا تلحقه الإشارة"[3].

9- كان الإمام الطَّبري رحمه الله آية من الآيات في حِفاظه على الوقت وإدارته له، وحِرصه على ملئه بالتعلُّم والتعليم والكتابة والتأليف، حتى بلغَت مؤلَّفاته العدَد الكثير، يقول الخطيب البغدادي: "وسمعتُ السمسمي يَحكي أنَّ محمد بن جرير مكَث أربعين سنة يَكتب في كلِّ يوم منها أربعين ورقة"[4].

10- لم تَتجاوز حياة الإمام النووي خمسًا وأربعين سنة، ومع هذا فقد ملأها بالدِّراسة والعبادة والحِفظ والتأليف، فكان فقيه الشافعية المقدَّم، ومحدِّث الفقهاء، وإمام الزهد والورع في زمانه، وقد بارك الله له في وقته وعمره، فأخرج للأمَّة المصنَّفات الرائعة في الفقه والحديث والزُّهد وغيرها، رحمه الله رحمة واسعة.

• لقد ترك الإمام النَّووي من المؤلَّفات ما قسَّموه بعد موته على أيَّام حياته، فكان نصيب كل يوم أربع كراريس، فكيف تمَّ له ذلك؟ اسمع منه يُجبْك: "وبَقيتُ سنتَين لم أضَعْ جنبي على الأرض!"، يَنام على الكتاب، ونحن ننام على نهاية الإرسال[5] (البث الفضائي).

11- الإمام أبو الفرج بن الجوزي يقول: "كتبتُ بإصبعي هاتَين ألفَي مُجلَّد، وتاب على يدي مائة ألْف، وأسلَم على يَدي عشرون ألف يهودي ونصراني"، وقال أيضًا: "لو أني قد طالَعتُ عشرين ألف مجلد كان أكثر، وأنا بعدُ في الطلب"، وقال عنه صاحب كتاب (الكُنى والألقاب): "إن برايَة أقلام ابن الجوزي التي كتَب بها الحديث جُمعتْ فحصَل منها شيء كثير، فأوصى أن يُسخَّن منها الماء الذي يُغسَّل به بعد موته، ففُعِل ذلك، فكفَتْ وفضل منها"[6].

12- يقول عبدالرحمن ابن الإمام أبي حاتم الرازي: "ربما كان يَأكل وأقرأ عليه، ويمشي وأقرأ عليه، ويدخل الخلاء وأقرأ عليه، ويدخل البيت في طلَب شيء وأقرأ عليه"، فكانت ثَمرة هذا المجهود وهذا الحرص على استِغلال الوقت كتابَ الجرح والتعديل في تِسعة مجلدات، وكتاب التفسير في مجلدات عدَّة، وكتاب السند في ألف جزء.

13- كان الفتح بن خاقان يحمل الكتاب في كُمِّه، فإذا قام من بين يدي المتوكل للبول أو للصلاة، أخرج الكتابَ فنظر فيه وهو يَمشي، حتى يبلغ الموضع الذي يريده، ثم يصنع مثلَ ذلك في رجوعه، إلى أن يأخذ مجلسه، فإذا أراد المتوكِّل القيام لحاجة أخرج الكتاب من كُمِّه وقرأه في مجلس المتوكل إلى حين عوده.

14- كان الجاحظ إذا وقع بيده كتاب قرَأه من أوَّله إلى آخره؛ أي كتاب كان، حتى إنه كان يَكتري[7] دكاكين الورَّاقين ويبيت فيها للنَّظر في الكتب.

15- قال الوزير الصَّالح يحيى بن هبيرة:
والوقت أَثمنُ ما عُنيتَ بحفظِه ♦♦♦ وأراه أسهَل ما عليك يَضيعُ
16- يقول حسن البنا رحمه الله: "ليس يعلم أحد إلَّا الله كم من الليالي كنَّا نقضيها نستعرض حالَ الأمَّة، وما وصلَت إليه في مختلف مظاهر حياتها، ونحلِّل العللَ والأدواء، ونُفكِّر في العلاج وحسم الداء، ويفيض بنا التأثُّر لما وصلنا إليه إلى حدِّ البكاء! وكم كنا نَعجب إذ نرى أنفسنا في مثل هذه المشغلة النفسانيَّة العنيفة، والخليُّون هاجعون يتسكَّعون بين المقاهي ويتردَّدون على أندية الفساد والإتلاف، فإذا سألتَ أحدهم عمَّا يَحمله على هذه الجلسة الفارغة المملَّة قال لك: أقتل الوقتَ، وما درى هذا المسكين أن مَن يَقتل وقتَه إنما يَقتل نفسَه؛ فإنما الوقت هو الحياة".
 
• ويقول أيضًا في وصاياه العشر: الواجبات أكثَر من الأوقات، فعاوِن غيرَك على الانتفاع بوقته، وإن كان لك مهمَّة فأوجِز في قضائها.

• إن هذه النَّماذج المشرِقة وغيرها الكثير، لم تصِل إلى ما وصلَت إليه إلَّا بالجدِّ والعمل، وحسن إدارة الوقت واستغلاله، ولنا في أسلافنا أسوة حسَنة؛ فالسير على طريقهم هو السَّبيل الوحيد للنُّهوض بالأمَّة من غياهِب الكسل والخمول والجهل، إلى آفاق الحضارة والتقدُّم والرُّقي.

رابعًا: كيفية إدارة الوقت:
يختلف مَفهوم إدارة الوقت لدى الأفراد باختلاف دوافعِهم واحتياجاتهم وطبيعة وظائفهم، ويختلف أيضًا من ثقافة إلى أخرى، وسلوك الإنسان تجاه الوقت سلوك مُكتسَب من البيئة الاجتماعية ومن القِيَم التي تكوَّنَت لديه تجاه التعامل مع الوقت، وتكوينُ قيم الإنسان تجاه الوقت عمليَّة مُعقَّدة، وهي من أكثر الصِّفات تأثُّرًا بالظروف المحيطة، وتتأثَّر هذه القيم بتغيُّر هذه الظروف وظهور دوافع جديدة.

• يُحكى أنَّ حطَّابًا كان يَجتهد في قطع شجرة في الغابة، ولكن فأسه لم يكن حادًّا؛ إذ إنَّه لم يشحذه من قبل، مرَّ عليه شَخص ما فرآه على تلك الحالة، وقال له: لماذا لا تشحذ فأسك؟ قال الحطَّاب وهو منهمك في عمله: ألا ترى أنَّني مشغول في عملي؟
• فمن يقول بأنَّه مَشغول ولا وقت لديه لتنظيم وقته، فهذا شأنه كشأن الحطَّاب في القصَّة! إن شحذ الفأس سيساعده على قَطع الشجرة بسرعة، وسيساعده أيضًا على بذل مجهودٍ أقل في قَطع الشجرة، وكذلك سيتيح له الانتقالَ إلى شجرة أخرى.
وكذلك تنظيم الوقت يساعدك على إتمام أعمالك بشكلٍ أسرع، وبمجهودٍ أقل، وسيتيح لك اغتنامَ فرص لم تكن تَخطر على بالك لأنَّك مشغول بعملك.
 
• هناك مَن يستطيع في 20 % فقط من وقته أن ينجز 80 % من المطلوب إنجازه؛ وذلك (بعدم التسويف والمماطلة، واستغلال أوقات الذروة للنَّشاط)، وهناك من يضيِّع 80 % من وقته في إنجاز 20 % فقط من المطلوب إنجازه؛ وهذا ليس استغلالًا جيدًا للوقت، ركِّز على الأنشطة التي تحقِّق عائدًا كبيرًا، قانون باريتو: إنَّ 20 % من الوقت المنفَق يُنتج 80 % من النتائج[8].

• ومما يعين على إدارة الوقت وحسن استغلاله والاستفادة منه:
1- كثرة اللجوء إلى الله تعالى والاستعانة به أن يبارِك في الأوقات، وأن تكون عامرةً بطاعته.
2- حُسن التوكُّل على الله تعالى، والأخذ بالأسباب المعينة على حِفظ الوقت من الضَّياع، ومن ذلك:
أ) وَضع خطَّة واضحة لإدارة الوقت، تُحدد فيها كل عمل بما يناسبه من وقت.
ب) توزيع الوقت على المهام بدقَّة، ومعرفة أنَّ فعالية الوقت ليست في طوله، ولكن في مهارة توزيعه.
ج) التخلُّص من كلِّ المُلهيات التي قد تَعترض أو تعيق العمل وتبدِّد الوقت دون منفعة.
د) ترتيب الأولويَّات (الأهم فالمهم).
هـ) تنمية صِفة الانضباط في كلِّ الأحوال.

3) النظر في سِيَر السابقين، وتأمُّل الإنجازات التي قاموا بها في وقتٍ وجيز من أعمارهم.
4) البعد عن قُرناء السوء ومَن لا يَضعون للوقت قيمة، بل يتلذَّذون بقتل الوقت كما يزعمون.
5) اليقين بأن توظيف الوقت، والاستفادة من الصحَّة في القيام بالأمور النَّافعة، وملء الوقت بها، هو شُكرٌ لله تعالى على هذه النعم.
6) اليقين بأن العبد مسؤول يومَ القيامة عن هذه النِّعم، فليعد لكلِّ سؤال إجابةً من الآن.

وعلينا أن نتذكَّر أن الصحَّة والفراغ نِعمٌ أتاحها الله لكثير من البشر، ومع هذا فإنَّ التميُّز والنجاح يَبقى متاحًا لِمن استطاع أن يَستفيد من هذه النِّعم ويُحسن توظيفها واستثمارها فيما كلَّف الله تعالى به العبد.

• وختامًا: ساعة وساعة:
ليس معنى ما ذكرناه أنَّنا نريد أن يظلَّ الإنسان مُنهمكًا في العمل والعبادة ليلًا ونهارًا، لا يعمل لدنياه ولا يروِّح عن نفسه، لا، لا بدَّ من ((ساعة وساعة))، لا بدَّ من الترويح عن النَّفس ومكافأتها على ما أنجزَت وعلى ما حقَّقَت وأجادت، الترويح المباح الذي لا يهبط بإيماننا، ولا يبدِّد ما توصَّلنا إليه من طاعة ومن عمل.

• عن حنظلة بن الربيع الأُسَيِّدِيِّ رضي الله عنه قال: لقيَني أبو بكر قال: كيف أنت يا حنظلة؟ قلت: نافَق حنظلة، قال: سبحان الله! ما تقول؟ قلتُ: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكِّرنا بالنار والجنة كأنَّا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا[9] الأزواجَ والأولاد والضيعات[10]، نسينا كثيرًا، قال أبو بكر: فوالله إنَّا لنلقى مثل هذا، فانطلقتُ أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: نافَق حنظلة يا رسول الله! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وما ذاك؟))، قلت: يا رسول الله، نكون عندك تذكِّرنا بالنار والجنة كأنَّا رأي عين، فإذا خرَجنا من عندك عافسنا الأزواجَ والأولاد والضيعات، نسينا كثيرًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده، لو تَدومون على ما تكونون عندي وفي الذِّكر، لصافحَتكم الملائكة على فُرُشكم وفي طُرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة - ثلاث مرات -))؛ (رواه مسلم).

• وإذا كان من المهم أن نحسِن إدارة الوقت وأن نجعل في وقتنا حظًّا للنفس للترويح والترفيه المباح، فكذلك لا بدَّ من وَقفة لمحاسبة النَّفس، إن لم تكن كل يوم، فلتكن كل أسبوع، فإن لم تكن كل أسبوع، فلتكن كلَّ شهر، فإن لم تكن كل شهر، فلتكن كلَّ عام، يحاسِب الإنسان نفسَه فيها: ماذا فعل؟ أن يقِف وقفة متأنية مع نفسه يحاسِب نفسه: ماذا قدَّم في عام؟ وأن يبكي على نفسه، على تقصيره، على تفريطه في جنب الله، وفي حقِّ نفسه وفي حقوق الناس، ولكن أكثر الناس لا يفعلون.

• "حاسِبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أن تُوزن عليكم".

• قال أحد الحكماء: "مَن أمضى يومًا من عمره في غير حقٍّ قضاه، أو فرضٍ أدَّاه، أو مَجد أثَّله، أو حمد حصَّله، أو خير أسَّسه، أو علم اقتبسه - فقد عقَّ يومه، وظلم نفسه".



[1] الوحا: الوَحَاءُ الوَحَاءُ، يقال في الاستعجال: الوَحاءَ الوَحاءَ: البدَارَ البدَارَ.


[2] الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي ص (208، 209).


[3] إيقاظ الهمم في شرح الحكم ص (14).


[4] تاريخ بغداد (ج 2 ص 163).


[5] "سباق نحو الجنان"؛ د / خالد أبو شادي.


[6] نفس المصدر السابق.


[7] يكتري: يستأجر.


[8] الحياة من خلال طريقة (20/ 80)؛ كوتش، ريتشارد.


[9] عافسنا: العفس هو الحبسُ والابتذال أيضًا، والمُعافسةُ: المعالجة.


[10] الضيعات: أرض مُغلَّة، أرض تُدِرُّ على صاحبها مالًا.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣