أرشيف المقالات

الإتقان

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
الإتقان

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما بعد: فإن أهمية إتقان العمل تنبع من كونه يُعبِّر عن نجاح الفرد في المجتمع والبلد الذي يعيش فيه، فعندما يُؤدي كلُّ شخص عمله على أتمِّ وجه، فإنَّ المجتمع يرتقي، ويصلح حال البلد كلُّه، ويجدر بالذكر أنَّ صلاح المجتمع يرتبط ارتباطًا وثيقًا بصلاح عمل كلِّ فرد، وانتشار الإتقان يُؤدي إلى استحالة الفشل، والتقاعس، والتكاسل، وظهور النشاط والقوة في الأمة؛ لذا قال تعالى: ﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [التوبة: 105]، وفي الآية دليل واضح في الحث على إتقان العمل، وأنَّ الله سبحانه سيُخبر كلَّ فرد يوم القيامة بالعمل الذي قام به، ومقدار ما ناله من أجر وثواب على عمله.

وقال تعالى: ﴿ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [سبأ: 11]، هذا توجيه من الله سبحانه إلى داود عليه الصلاة والسلام أن يعمل السابغات؛ وهي الدروع التي تلبس في الحرب، وأن يقدر في السرد، يعني: حِلَق الدِّرْع تكون الحلقة بقدر ما يدخل فيها حتى لا يسقط الدرع، فهو تعليم من الله جل وعلا لـداود أن يحسن صناعة السابغات التي هي الدروع التي تنفع الناس، حتى يستفيد منها الناس وينتفعوا بها في الجهاد، وهذا دليل على أهمية إتقان العمل وجودته، ثم أمره بالعمل الصالح.

الأمر الثاني: الكون كله يتحدث عن الإتقان وجودة العمل:
انظر حولك ترَ إتقان الرحيم الرحمن: في قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا * وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا * وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا * وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا * وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا * وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا ﴾ [النبأ: 6 - 16].

الأمر الثالث: إشادة الله في كتابه:
وامتدح الملك الصالح ذا القرنين: ﴿ حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا * قَالُوا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا ﴾ [الكهف: 93، 94] ما أخذ منهم قرشًا ﴿ قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ ﴾ [الكهف: 95]، فلولا عناية الله وقدرته ثم إحكام بناء السَّدِّ لخرج هؤلاء لإهلاك الحَرْث والنَّسْل.

الأمر الرابع: أشاد الله بنبيِّه سليمان:
حيث تفنَّن في جودة العمل وإتقانه؛ مما جعل ملكة سبأ تنبهر، تأملوا بالله عليكم، تأملوا إلى قمة التقدم والإتقان الذي شيَّد به سليمان عليه السلام ذلك القصر ﴿ قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [النمل: 44]، هذا القصر كله أرضه وسقفه وجدرانه مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ.


الأمر الخامس: قال رسول -عليه الصَّلاة والسّلام-: ((كُلُّكُم راعٍ وكُلُّكُم مسؤولٌ عن رعيتهِ)):
دلالة هذا الحديث أنَّ إتقان العمل واجبٌ شرعيٌّ على كل مُوظفٍ وعامل مهما كانت وظيفتهُ؛ فالحاكمُ أو السلطان عليهِ إتقانُ عملهِ، والأب في أسرته مسؤولٌ عن بيتهِ ورعاية أبنائه رعايةً سليمةً، وكذا الزوجةُ راعيةٌ في مالِ زوجها، وعليها المُحافظة على الأمانةِ التي كُلِّفت بحملها، وإتقان العملِ في تربية أبنائها تربيةً سليمةً.

الأمر السادس: بالعمل تنل محبة الله:
لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يحب أحدكم إذا عمل عملًا أن يتقنه))؛ عن عائشة رضي الله عنها، رواه البيهقي، وصحَّحه الألباني.

الأمر السابع: تكون قدوة حسنة لغيرك يوم أن تكون متميزًا في عملك.

الأمر الثامن: يرتقي المجتمع كُلُّه بإتقان العمل:
فعلينا أن نُراقِب الله في أعمالنا، وفي كل شؤوننا، وفي حال التزامنا بعمل يجب علينا القيام به على أكمل وجه يُحبه الله ويُحبه خلقه، وألَّا نُدخِل على عملنا عملًا آخر قبل إتمام عملنا الحالي إلا بعد إتمامه أو لا يكون مُعارضًا له.

تعارض الأعمال وازدواجيتها مآلها للسقوط والفشل ولا ينال من ذلك إلا التعب البدني.

ولا يخفى على الجميع أن العمل بلا إتقان لا ينفع صاحبه ولا يُنتفع به، وهو مردود على صاحبه.

ولنا في حديث المسيء صلاته نموذج ((ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ)).

الخُلاصة: الإتقان سمةٌ إسلاميةٌ، وكوننا مسلمين فنحن مُطالبون بالإتقان في كل عمل تعبُّدي أو سلوكي أو حياتي ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 162].

أتقن عملًا واحدًا تتميز به أفضل من قيامك بأعمال عدة ظاهرة للجميع قد تُصنفك في عِداد الفاشلين، قال سلمان الفارسي رضي الله عنه: "إن الأرض لا تُقدِّس أحدًا وإنما يُقدِّس الإنسان عمله".

لا يقتصر الإتقان على عمل مُعين، وإنَّما تتعدَّد صور الإتقان، وهي كالآتي:
• إتقان الوضوء.
• إتقان الصلاة.
• إتقان الصيام.
• إتقان الزكاة.
• إتقان الحج.
• إتقان تربية الأبناء.
• إتقان قراءة القرآن.
• إتقان التعليم.
• إتقان الأعمال الدنيويَّة.

اللهم أصلح قلوبنا وأعمالنا يا ذا الجلال والإكرام، وصلَّى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وسلِّم تسليمًا كثيرًا.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢