أرشيف المقالات

وا غدراه! - خالد سعد النجار

مدة قراءة المادة : 5 دقائق .
ما إن سمع الناسُ ذلك الأعرابي يصيح بتلك الكلمات في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كادوا أن يفتكوا به؛ أقبل الجمع إليه يزجرونه بشدة قائلين: قاتلك الله أيغدر رسول الله صلى الله عليه وسلم! أما تسمع تلك الكلمات التي يقولها رسول الله؟
ها هو يحادثك بسكينة وروية قائلا: «يا عبدَ اللَّهِ، إنَّا قد ابتَعنا منكَ جزورًا بوَسقٍ من تمرِ الذَّخرةِ، فالتَمسناهُ، فلَم نَجِدْهُ».
كلمات هادئة مقنعة قالها الحبيب صلى الله عليه وسلم لذلك الأعرابي الذي كان قد باعه جزورًا بذلك الوزن من التمر.
المشكلة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجد لديه ما يكمل ذلك الوزن فأراد أن يعوض الأعرابي بشىء آخر يملكه، لكن الأعرابي لم يمهله؛ بل صاح فورًا وبغلظة الأعراب: وا غدراه، وا غدراه!!
الرجل لا يكاد يسمع والقوم يحتدون عليه يحاولون إسكاته عن التلفظ بتلك الكلمات القاسية، والأعرابي يزداد إصرارًا مرددًا: وا غدراه وا غدراه.
«دعوهُ، فإنَّ لِصاحبِ الحقِّ مقالًا»؛ هكذا وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه الغاضبين مبينًا لهم تلك القاعدة العظيمة: (إن لصاحب الحق مقالا).
ثم أعاد النبي صلى الله عليه وسلم توجيه الخطاب مرة أخرى للأعرابي قائلا: «يا عبدَ اللَّهِ إنَّا ابتَعنا منكَ جزورَكَ ونحنُ نظنُّ أنَّ عندَنا ما سمَّينا لَكَ، فالتَمسناهُ، فلم نَجِدْه».
تأمل حلمه وصبره وهو يفسر للأعرابي ما حدث، وكيف يبين له أن الأمر ليس غدرًا؛ ولكنه ظن أن لديه التمر ثم فوجئ بعدم وجوده؛ لكن لا فائدة.
الأعرابي لا يفقه ولا ينفك عن ترداد كلماته القاسية ورسول الله يكرر نهيه لأصحابه عن زجره قائلا: «دعوهُ، فإنَّ لِصاحبِ الحقِّ مقالًا».
فلمَّا رآهُ لا يفقَهُ عنهُ، قالَ لرجلٍ مِن أصحابِهِ: «اذهب إلى خُوَيْلةَ بنتِ حَكيمِ بنِ أميَّةَ، فقل لَها: رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّه عليهِ وعلى آلِهِ وسلَّمَ يقولُ لَكِ: إن كانَ عندَكِ وَسقٌ من تمرِ الذَّخرةِ، فأسلِفيناهُ حتَّى نؤدِّيَهُ إليكِ إن شاءَ اللَّهُ».
فذَهَبَ إليها الرَّجلُ، ثمَّ رجعَ، فقالَ: قالت: نعَم، هوَ عِندي يا رسولَ اللَّهِ، فابعَث من يقبضُهُ، فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّه عليهِ وعلى آلِهِ وسلَّمَ للرَّجلِ: اذهب بِهِ، فأوفِهِ الَّذي لَهُ قالَ: فذَهَبَ بِهِ، فأوفاهُ الَّذي له.
وبالفعل تقاضى الرجل وسق التمر ثم مر برسول الله في طريق عودته؛ فما إن رآه حتى صاح قائلا: جزاك الله خيرًا قد أوفيتَ وأطيبتَ.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أولئِكَ خيارُ عبادِ اللَّهِ عندَ اللَّهِ يومَ القيامة ِ الموفونَ المطيِّبونَ» (السلسلة الصحيحة:6/393).
تأمل كيف تعامل رسول الله مع الأعرابي بمقتضى حاله وباعتبار مستوى إدراكه.
والأهم أن تتأمل كيف قدر مشاعر صاحب الحق وكيف علم الصحابة تلك القيمة العظيمة.
إن صاحب الحق ينبغي أن يقدر، وأن يُعتبر شعوره ويُعنى بإحساسه.
ورغم أن النبي صلى الله عليه وسلم معذور؛ فهو لم يكن يعلم أن التمر لا يكفي إلا أنه لم يصر على أن يعطيه شيئًا بديلا بل آثر أن يؤدي ما أراده الأعرابي وما رآه حقًا له فكسب بذلك قلبه، وعلّم الأمة درسًا في الوفاء وحسن التعامل مع الخلق وتقدير مشاعرهم واحترام حقوقهم.
فما بال أقوام قد قست قلوبهم وغلظت أفئدتهم فجحدوا أصحاب الحق وازدروا مطالبتهم به بدعوى أنهم يتاجرون بمظلومياتهم فلم يكتفوا بسكوتهم عن الحق وإقرارهم وموالاتهم للظالمين، ولكن زادوا على ذلك حقرانًا لآلام المظلومين؛ بل وتفننوا في مزيد من إيلامهم، وجرح مشاعرهم، واتهام نياتهم ومقاصدهم والتشدق بكلمتي (المظلومية والكربلائية) كلما صدع بالحق صادع أو طالب به مطالب توهينًا لمطلبه، وتشكيكًا في صدقه، وطعنًا في نيته ومقصده مدعين بأنه يتاجر بمظلوميته وكربلائيته وسائر تلك التسميات التي تفتقر لأدنى احترام أو تقدير لآلام الآخرين.
ومتجاهلين تلك القاعدة النبوية التي تفرق بوضوح بين مقال صاحب الحق وبين الباغي الجائر في مطالبته: قاعدة: (إن لصاحب الحق مقالا).

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن