أرشيف المقالات

نعمة العقل وكيف حافظ عليها الإسلام

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
نعمة العقل وكيف حافظ عليها الإسلام
 
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
 
أما بعد:
فقد أمتن الله تعالى على بني الإنسان كما قال في محكم القرآن: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ﴾ [الإسراء: 70].
 
وكان مما امتن الله عليهم ذلك العقل الذي شرفهم به على كثير من المخلوقات؛ فهو آلة المعلومات وميزانها الذي يميز صحيحها من سقيمها وراجحها من مرجوحها، وهو مرآة صادقه توضح الحسن من القبيح من الأعمال والأقوال والأحوال، وهو ملك الجسد وثمرته، فإذا ضعف أو زال كان ذلك سببًا لضعف الجسد كله وفساده، وقيمة الإنسان وانتفاعه من حياته بحسب عقله، وإنما يتحقق كمال العقل، ويتم نوره، وتصلح قيادته، ويعظم الانتفاع به في العاجل والآجل إذا اهتدى بنور الله واتبع هداه؛ فحاجة العقل إلى الشرع أشد من حاجة البصر إلى النور.
 
إن اتباع العقل للشرع يرجحه ويزكيه ويهديه إلى رشده عندما تتشعب السبل وتشتبه الأمور، وإعراضه عن الشرع ينقصه ويجعله فريسة للهوى الذي يتركه يتيه في أودية الردى، فيهلك صاحبه ويشقى به من حوله؛ ولهذا مدح الله تعالى العقل وأهله المهتدين بالوحي المبارك، فأخبر أنهم هم السعداء الفائزون بنعيم الجنان وعظيم الرضوان، وذم المعرضين عن وحيه وشبههم بالأنعام بل هم أضل، وأخبر أنهم هم الأشقياء أهل النار الذين لا سمع لهم ولا عقل.
 
ولما كان العقل للإنسان بهذه المثابة؛ فإن إضعافه بأي وسيلة وإذهابه بأي سبب جناية عليه وجريمة نكراء بحقه، وإنه لخرق متناه أن يجني الإنسان على عقله بطوعه واختياره ليغيب عن رشده، ويسخط ربه، ويفقد ذاكرته، وليتخلى عن كل فضيلة، وليسد الباب أمام معالجة مشكلاته، وتخطي ما قد يعترضه من عقبات في فترة حياته؛ ولذا كان من ضروريات دين الإسلام وكلياته التشريعية أن حرم الله تعالى فيه على الإنسان تعاطي كل ما يضر بعقله، وكذلك ما يضر بنفسه ودينه وعرضه وماله؛ ليعيش عزيزًا مكرمًا محترمًا مصونًا من التعرض للشرور والأخطار آمنًا من الوقوع في موجبات الهلكة والخسران؛ لينعم بطيب العيش في حياته، ويسعد بمتقلبه بعد وفاته.
 
فمن تشريع الله في دينه - وهو الحكيم في خلقه وشرعه اللطيف بعباده - أن حرم الخمرة أم الخبائث، وهي اسم لكل مسكر كما في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كل مسكر خمر"؛ وذلك لما تشتمل عليه من المفاسد الكثيرة والشرور المتنوعة، ولما ينتج عنها من المصائب الكبيرة؛ روح تزهق، أو عرض ينتهك، ومال يضاع بسببها ...
إلى غير ذلك، فكم غيرت شاربيها إلى مواطن الهلكة وتوقعهم من موجبات الندم.
 
وتحرم الخمر من أي مادة كانت مما علم من الدين بالضرورة؛ لما ورد بشأنه من النصوص المتظاهرة المتكاثرة من الكتاب والسنة وإجماع المسلمين، قال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ﴾ [المائدة:٩٠-٩١].
 
وفي صحيح مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كل مسكر خمر، وكل خمر حرام"، وفي سنن النسائي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أسكر كثيره فقليله حرام".

وقد أجمع الصحابة على حرمة الخمر من أي مادة كانت من العنب أو غيره، وهو ما فهموه عن الله ورسوله؛ ولذا أجمع المسلمون في سائر قرون الأمة على أن من استحل الخمر فهو كافر بالله تعالى يستتاب فإن تاب وإلا قتل، ومن شربها مع اعتقاد تحريمها فهو فاسق مبتلى في دينه ناقص الاعتبار في إيمانه وشهادته وكفاءته معرض نفسه للعقوبة في الدنيا أو للعذاب الشديد في الآخرة، وهكذا لما كان في تعاطي المسكرات وألوان المخدرات زوال العقل وفساد الجسد، وبالتالي ضياع الدين وانتهاك العرض والمحارم، وفساد المجتمعات وغير ذلك مما محصله ذهاب الدين والدنيا والآخرة، جاء في حق متعاطي المسكرات من ضروب الوعيد وألوان التهديد وأنواع العقوبات ما هو كفيل إذا طبق بالقضاء على هذه الجريمة النكراء والفعلة الشنعاء.
 
‌أ- فمن عقوبات شرب الخمر الدينية:
1- ضعف الإيمان ونقصه، وقد ينزع من صاحبه بالكلية إن لم يتب إلى ربه إما في الحياة أو عند الممات؛ لما ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يزني الزاني حيث يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن"، وقال عثمان رضي الله عنه: "لا يجتمع الإيمان وإدمان الخمر في صدر رجل يوشك أن يخرج أحدهما صاحبه".
 
2- وإن مات مدمنًا عليها لا يكاد يفيق منها - كما هي حالة أكثر متعاطيي المخدرات المصنعة - مات كالعاكف على الوثن، وهذا نذير بسوء الخاتمة؛ لما روي عن ابن عباس وصححه عنه على رضي الله عنهم من قوله - ومثله لا يقال بالرأي - وروي مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ومدمن الخمر إن مات لقي الله كعابد وثن"، وأخرج نحوه عبد الرزاق في مصنفه عن ابن عمرو رضي الله عنهما: "شارب الخمر كالذي يعبد اللات والعزى".
 
3- عدم قبول الصلاة منه؛ فقد خرج النسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما مرفوعًا: "من شرب الخمر وسكر لم يقبل الله له صلاة أربعين صباحًا، فإن مات دخل النار، وإن تاب تاب الله عليه"، وفي رواية النسائي: "لم يقبل الله له توبة أربعين صباحًا"، والمعنى والله أعلم: أنه لا يتهيأ له توبة نصوح تلك المدة.
 
ب- ومن العقوبات القدرية التي توعد الله بها شارب الخمر أن يمسخ قردًا وخنزيرًا أو تخسف به الأرض؛ ففي سنن ابن ماجه وصحيح ابن حبان وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليشربن أناس من أمتي الخمر ويضرب على رؤوسهم بالمعازف يخسف الله بهم الأرض، ويجعل منهم قردة وخنازير".
 
جـ- ومن العقوبات الشرعية في الدنيا لشاربي الخمر:
الجلد: فقد شرع الله تعالى على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - إقامة الحد بالجلد لشارب الخمر؛ كفارة عنها وتطهيرًا، وليكون بمثابة الزجر لغيره عن ارتكاب هذه الجريمة الآثمة؛ لأن دين الإسلام قائم على محاربة الجريمة على اختلاف أنواعها وتأديب المجرمين؛ تطهيرًا للمجتمع، وصيانة له من الفساد، ومن لم يكرم نفسه لا يكرم، ومن يهن الله فماله من مكرم، وفي الحديث: "حدٌّ يقام في الأرض خير من أن تمطر أربعين صباحًا"؛ وذلك لما يفيده إقامة الحد من إصلاح المجتمع وقطع دابر الفساد والفتن، فمتى شرب شخص المسكر من أي مادة كان فسكر بأن صار يخلط في تصرفاته أو يهذي بكلامه أو فقد تمييزه حتى لا يعلم ما يقول استحق الجلد، ومن شفع فيه بأن حالت شفاعته دون إقامة حد من حدود الله عليه، فقد ضاد الله في أمره، وفي الحديث الصحيح: "لعن الله من آوى محدثًا"؛ والجلد نوعان:
أحدهما: الحد وهو أربعون جلدة كما في صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى يضرب في الخمر بالنعال والجريد أربعين"، فقد عاقب النبي صلى عليه وسلم شارب الخمر عقوبة حدية مقدرة بأربعين جلدة، وهكذا خلفاؤه الراشدون.
 
الثاني: التعزير بأن يزاد عن الحد إلى الثمانين أو ما يراه الحاكم لائقًا بحال الشارب، فقد ثبت أن عمر رضي الله عنه شاور أصحاب النبي صلى عليه وسلم لما رأى من بعض الناس انهماكًا في شربها وجرأة عليها فقال: إن الناس قد شربوها واجترؤوا عليها، فقال له علي رضي الله عنه: إن السكران إذا سكر هذي، وإذا هذي افترى، فاجعله حد الفرية، فجعله عمر ثمانين.
وهذا من التعزير وقد وافق عليه من حضره من الصحابة رضي الله عنه، فإذا تهالك الناس على المسكر كان لولي الأمر أن يردعهم بما يراه رادعًا من الجلد، إضافة إلى الحد المقرر شرعًا.
 
وإذا أدمن الناس على شرب الخمر وتعاطي أنواع المسكرات والمخدرات وانهمكوا فيها وتهالكوا عليها، ولم يكن الجلد أربعين أو ثمانين أو أكثر من ذلك زاجرًا لهم، فإن للحاكم أن يعزر من كان كذلك بالقتل؛ صيانة للعباد وردعًا للفساد، وذلك من السياسة الشرعية للرعية فيما ظهرت فيه المصلحة كما قرره أهل العلم في نظائر ذلك.
 
فقد روى النسائي والحاكم، وصححه ووافقه الذهبي، عن ابن عمر ونفر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي الله عنهم قالوا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من شرب الخمر فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاقتلوه"، قال ابن عمر وهو من رواة هذا الحديث: (ائتوني به - يعني: شارب الخمر - في الرابعة فعليَّ قتله لكم).
 
ونظرا لتمادي بعض المنحرفين في هذا الزمان في تهريب وترويج المخدرات المفسدة للعقل والنفس وغيرهما من ضرورات الحياة؛ حيث صار تهريب هذه المواد والاتجار بها تجارة رائجة وسلاحًا هدامًا يستعمله أعداء الإسلام في حرب الأمة، فقد أصدر مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية قرارين بشأن ذلك:
أحدهما: بالنسبة لمهرب المخدرات، فإن عقوبته القتل؛ لما يسببه تهريب المخدرات وإدخالها البلاد من فساد عظيم لا يقتصر على المهرب نفسه وإضراره جسمه وأخطار بليغة على الأمة بمجموعها، ويلحق بالمهرب الشخص الذي يستورد أو يتلقى المخدرات من الخارج يمون بها المروجين.
 
الثاني: بالنسبة لمروجي المخدرات؛ فإن كان للمرة الأولى فيعزر تعزيرًا بليغًا بالحبس أو الجلد والغرامة المالية أو بها جميعًا حسب ما يقتضيه النظر القضائي، وإن تكرر منه ذلك فيعزر بما يقطع شره عن المجتمع ولو كان بالقتل؛ لأنه بفعله يعتبر من المفسدين في الأرض وممن تأصل الأجرام في نفوسهم.
 
وقد أعتمد ولي الأمر حفظه الله ذلك حماية لمجتمعنا الآمن المسلم من الشرور والجرائم المدمرة وفقًا لأحكام الشريعة العادلة، وأمر جهات الاختصاص بالعمل بموجبه وتعميمه على المحاكم وجهات التنفيذ، وتم - بحمد الله - تطبيق ذلك فجاءت النتائج طيبة؛ حيث تحقق ردع المجرمين وزجر المتهالكين، وانخفضت نسبة جرائم المخدرات في المملكة، فصارت أقل نسبة في العالم إذ بلغ انخفاضها بعد تنفيذ ما قررت الهيئة في حق مجرمي المخدرات أكثر من ستين في المائة، وذلك من فضل الله على عباده، فله سبحانه جزيل الحمد وعظيم الشكر.
 
وهكذا، فكل ما ورد في حق شاربي المسكر من عظيم الوعيد وألوان التهديد والعقوبة العاجلة بالحد والتعزير إنما يراد منه الزجر عن هذه الجريمة الشنعاء وتطهير من تدنس بأرجاسها ووقايته من شر أوزارها وشؤم إثمها في الآخرة، وكذلك ردع الآخرين عن اقتراف ما اقترفته، وهذا خير للناس من الوعظ بغيره، فإن الوعيد ثم التأديب على ارتكاب المنهي عنه من شأنه أن يقلل من انتشار تلك الجريمة الأثيمة، ويحول دون وقوع جرائم أخرى بسببها، وذلك كله من رحمة الله بعباده - الجاني والمجتمع الذي تقع فيه الجناية - فما أعظم هذا الدين، وأحكم أحكامه، وأنفعه للناس!
 
وصدق الله العظيم إذ يقول: ﴿ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الأنعام: 161]، ويقول: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران: 85]، ويقول: ﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ [المائدة: 50].
 
فنسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى أن يفقهنا في الدين، ويرزقنا الاستقامة عليه، وأن يجنبنا كل ما ينقصه أو يضعفه أو ينافيه، وأن يجعلنا من الهداة إليه على بصيرة وعن إخلاص؛ فإنه سبحانه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢