قصة الشوكولاتة! - أروى العظم
مدة
قراءة المادة :
6 دقائق
.
من ذكرياتي مع جدي الشيخ (علي الطنطاوي).هذا فصل من مسرحيّة حدثت على مسرح الحياة..
كان جدّي فيها بطلاً من الأبطال، علمني من خلالها درساً عظيماً من خلال قطعة شوكولاه..
وإليكم هذا الفصل المقتطع من المسرحيّة لما فيه من عبرة وعظات، وطريقة مُثلى في النصح والإرشاد:
في إحدى الاجتماعات العائلية..
وفي بيت كنّا نتخذه للصيفيّة كان يجتمع الأولاد صبيان وبنات، وكان جدّي يتخذ لنا كل أسباب الترفيه المباح، ولكنّه لا ينسى خلال ذلك توجيهنا من خلال ما يطرأ من أحوال..
وفي إحدى المرّات أحضر ألواحاً من الشوكولاه الكبيرة، وكان يأتي بها من لبنان، ثمّ قطّعها وجاء يوزعها علينا بنفسه، وكان أول من بدأ به أنا..
فاسترعى انتباهي اختلاف الأحجام وبشكل كبير، فقطع كبيرة وأخرى متوسطة وغيرها صغيرة جداً، وهو من عادته العدل، فلماذا لم يعدل الآن؟!
وأنا أحبّ الشوكولاتة وإذا تركت القطعة الكبيرة سيأخذها فلان -من أولاد خالتي- وأنا لا أريده أن يأخذها..
ثم يقضي الوقت وهو يعيرنا بأنه قد استأثر بها..
كما أنني أحبها وأريدها فلآخذها وما دام هو قطعها بهذا الشكل فإن عليه الوزر..
وعندما لمحته ينظر إلى جهة أخرى يبحث عمّن يذهب إليه بعدي اغتنمت الفرصة وأخذت أكبر قطعة..
لكن لم تكن لتفته تلك الفعلة، فقد فعلها قصدًا..
فمضى وهو ينظر إليّ نظرة ذات مغزى، وهو يقول لي: "لقد استأثرت لنفسك بأكبر قطعة.."، وقد كانت هذه الكلمات تكفيني لكي لا أقضم منها أي قضمة، بل لقد استحييت وخجلت من تلك الفعلة..
بل لقد عافت نفسي تلك الأكلة..
وجريت إلى الشرفة أتوارى عن الناس وعن جدّي بالذات، وأنا أتساءل ماذا سيقول عنّي الآن..؟! أنانيّة..
أفضل الذات..
ولكنني لم أكن كذلك..!
فلماذا فعلت ذلك أمامه..؟! ليتني أخذت أصغر قطعة لكنت أكلتها بلذّة! وجرت دموعي بكثرة..
ثم فجأة فُتح الباب ودخل جدّي قائلاً: "كنت أعلم بأنني سأجدك هنا، وكنت أعلم بأنك لن تأكلي القطعة فأنا أعرفك تمام المعرفة، أنت حسّاسة وخجولة، وكانت تكفيك نظرة لتفهمي، وربما لو كان أحد غيرك لأكل القطعة تاركاً الكلمات جانباً، فلذّة القطعة الكبيرة أجمل، وقد يقول في نفسه سوف ينسى جدّي هذا الموقف بعد دقائق أو حتى أيّام، وما الضير في ذلك؟! أمّا أنت فكما عرفتك مرهفة الإحساس تفهمين المراد من نظرة"، وكنت أشيح بوجهي عنه في استحياء، لكنه اقترب قائلاً: "كلميني فلقد علّمتك والجميع بأن لا نستحي ونكون صريحين..".
- نعم يا جدّي أنا مخطئة باختياري أكبر قطعة، ولكنك أخطأت أيضًا؟ ويجيب: "كيف؟".
- لقد أخطأت بتقطيعك للشوكولاتة بهذه الطريقة وكان عليك أن تقطعها بشكل متساوٍ..
- "نعم أنت محقة يا ابنتي..
ولكنني أردت أن أعلمكم درساً عندما قطعتها بهذه الطريقة..".
وأتساءل كيف؟ فيقول: "انظري من النافذة هنا على اليمين، أترين هذا القصر الكبير؟
أجيب باستغراب نعم أراه! فيكمل: "هل عندك مثله؟"، أجيب: لا!
ثم يدور إلى الناحية الأخرى قائلاً: "أترين تلك الدور الصغيرة المعمرة من الطين؟"، وباستغراب أسأل ماذا تقصد يا جدّي؟ "أقصد بأن الله لا يعطينا كل شيء في الحياة بقسمة عادلة وهذا امتحان منه..
امتحان للغني هل ينفق على الفقراء وهل يحمد الله! وامتحان للفقير هل يصبر على الفقر ويحمد الله! هل الناس متساوون في الصحة، بعضهم أعمى وبعضهم مشلول، وبعضهم لم يرزق الأطفال و..
و..
و..
لا يتساوون في الشكل بعضهم جميل وبعضهم قبيح، وكثير كثير من هذه الأمور كالذكاء والامتحان بالبلاء وغيرها..
فالحياة ليس فيها قسمة عادلة، وربما يمرّ الزمان وتتزوجين أنت وأخواتك فتعيش واحدة في قصر مثل هذا، وتعيش الأخرى في بيت صغير مع رجل فقير، ولكن علينا أن لا ننسى الآخرين، وأنتِ صدقاً لم تكوني يوماً أنانية وإلاّ لكنتِ الآن قد أكلتِ القطعة ونسيتِ القصة وذهبتِ تلعبين، ولما كنت كلّمتك تلك الكلمات ولكن لأنني عرفتُ فيك الطيبة والإيثار أردت أن أنبهك إلى الاحتفاظ بطبعك الأصيل..".
وأخيراً قلت: جدّي أنت رائع، وأنا لا أريد هذه القطعة أرجوك خذها..
فيجيب: "كلاّ إنّها نصيبك ويجب أن تأكليها كلّها وأنت تضحكين، ولا أريد أن يعرفَ أحدٌ بهذه القصة".
وفي المساء عندما حضرت كؤوس العصير كانت يدي تمتد إلى أقلّها..
عندما نظر إليّ جدّي وضحكنا معاً ضحكة هادئة..
وكان درساً لن أنساه فمن يومها وأنا آخذ من الأشياء أقلّها..
آسفة للإطالة لكن كان يجب أن تنشر القصة كاملة، وبالمناسبة: كبرت وأنا من الأشخاص القلائل الذين لا يحبون الشكولاتة أبدًا..
ولا أدري إن كان لهذه القصة تأثير علي!