أرشيف المقالات

بين السماء والأرض - ظافر بن حسن آل جبعان

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .

 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد: فقد كنت مرة في رحلة جوية يستغرق السفر فيها ساعات ثلاث، وكنا في الطائرة بين السماء والأرض على ارتفاع 28 ألف قدم عن الأرض.
وكنت أتأمل قول الله عز وجل: {أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاء مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل:79]، وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} [الملك:19].
فقلت سبحان الله هذا ربنا تعالى يقول:{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ} وإن كان الخطاب للكفار عند نزول الآيات، إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وهذه قاعدة مهمة لتدبر القرآن والعمل بما فيه.
فهنا الله تعالى يحث على التدبر والتفكر في هذا الطير السابح في الفلك، الطائر في الفضاء، يتنقل بكل أريحية وهدوء، بل يتفنن ويتلذذ بالقبض والبسط فيزداد حسنًا وجمالاً.
فيا سبحان الله كيف أن هذا الخلق الصغير، والحجم اليسير ممسوك بين السماء والأرض، وَقَارٌ فِي الفضاء فلا ريح تعبث به على صغره، ولا توازنه يضعف في تحديد مساره مع بعده الشاهق في السماء.
فسبحان من أمسكه في السماء.
والمتأمل في الآية الكريمة يرى لطافة التعبير، وجمال الأسلوب القرآني عندما عبر بقوله: {يُمْسِكُهُنَّ} وهذا تعبير غاية في اللطافة والحسن، فلم يقل الحق، يثبتهن، ولم يقل يقبضهن بل عبر بقوله: {يُمْسِكُهُنَّ}، لأن التثبيت يمنع الحركة، والقبض يكون عادة بقوة، لكن الإمساك لا يكون عادة إلا بلطف فلا أذى ولا إفلات.
والمتأمل بين آية سورة النحل وسورة الملك يظهر له العظمة والرحمة في التعبير والحقيقة، فتأمل بين قوله في النحل: {مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللّهُ} ، وفي الملك: {مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ} ففي الأولى قال:{إِلاَّ اللّهُ}، وفي الثانية: {إِلَّا الرَّحْمَنُ} ففي الأولى العظمة ظاهرة، وفي الثانية الرحمة ظاهرة، فهو العظيم الرحيم، عظيم بما سخر وأظهر، ورحيم بما خلق وأبدع.
الذي دعاني لكتابة هذا التأمل شيٌ أكبر وأعظم من الطير، فإن كان الله ضرب مثلاً بالصغير فالكبير العبرة فيه أكثر وأكمل.
إن هذه الأساطيل الجوية الهائلة، والطائرات العملاقة، التي تعب في الجو عبًا، وتفلق الفضاء فلقًا لهي أعظم العبر، وأكثرها تأملاً.
طائرات تعلقت بالفضاء بين الأرض والسماء، بل العجب أنها مليئة بأنواع البشر والمتاع فسبحان العظيم الرحمن الذي سخر الجو للإنسان، وعلمه من العلم ما جعله يطير ويحلق، ويفكر ويخطط، ويبدع ويتلذذ.
لو قيل لأحد كبار السن -ممن لم يدرك هذه العجائب- إنك تستطيع أن تطير فوق آلف الأمتار، وتصل إلى مكة في دقائق معدودة وساعات قليلة، لنظر فيك متبسمًا، وعد ذلك منك إن صدقك ضرب من الخيال أو الخبال، ونوع من الهنة أو الهذيان لا يدكه العقل ولا يدل عليه الواقع، فسبحان الله الملك العلام.
لكن عند التأمل لهذه النعمة واستخدام البشر لها تجدهم يتفاوتون في استخدامها، ويتنوعون في استغلالها فما بين محسن ومسيء، وظالم ومقتصد، وسابق ومتأخر.
والناس المتخذيها رواحل يرتحلونها، ومطية يمتطونها هم أصحاب حاجات والحاجات تنقسم في حكمها إلى أربعة أحكام بحسب قصد مستخدمها (الأمور بمقاصدها):
الحكم الأول: واجب: كمن يمتطيها لنصرة الدين، أو لصلة رحم واجب، ولا يكون السبيل إلا بها، فالوسائل لها حكم المقاصد.
الحكم الثاني: مستحب: كمن يمتطيها لطلب علم، أو دعوة إلى الله تعالى، أو زيارة رحم غير واجب ونحو ذلك.
الحكم الثالث: محرم: كمن يستخدمها للوصول إلى حرام، كالسفر إلى بلاد الكفار بغير حاجة، أو للسفر إلى بلاد العهر والفساد.
الحكم الرابع: مباح: وهو من استخدمها في أمر مباح كالسفر للنزهة والسياحة ونحوه.
والناس يتنوعون في قضاء الأوقات في هذه الوسيلة والجالسون فيها على أضرب:
ضرب يقضي وقته بالنوم، وثانٍ يقلب النظر في الذاهبين والقاعدين، وثالث يتصفح الجرائد والمجلات، ورابع يطالع ويقرأ، وخامس يعبث بقلمه أو جواله.
كلهم يقول متى ينقضي الوقت ، وينسلخ الزمان وأصل؟
وقليل هم الذين يحرصون على استثمار أوقاتهم، واستغلال لحظاتهم، وأحسب أن هذه اللحظات من أهم وأعظم اللحظات، وقد يسأل سائل لماذا؟
فأجيبه: بأننا بين السماء والأرض وفي أي لحظة قد يحصل المكروه، ويحل المقدور، فمن يؤمننا من مكر العزيز الغفور؟! فلعل تلك تكون الخاتمة، ومن مات على شيء بعث عليه.
نعم، هم قليل الذين يقضون أوقاتهم في طاعة الله تعالى من التفكر، والاعتبار، وقراءة العلم والقرآن، والنصح وحسن الجوار.
فهل يا ترى يقدر الراكب لهذه النعمة النعماء، والعطية الحسناء قدرها، وهل يستحيي ممن هو في السماء، يراه ويسمع قوله.
ونركب الجو في أمن وفي دعة *** فما سقطنا لأن الحافظ الله
أسأل الله التمام وحسن العاقبة والختام
سُوّد بياض هذه الكلمات بين السماء والبحر
عشية الأحد 29/3/1429هـ (1)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ومن العجيب: بعد أن أتممت كتابة هذه الكلمات نظرت عن يساري فإذا شاب محتضن يديه بين ثدييه يدعو ربه ومولاه، فكان بالنسبة لي منظرًا رهيبًا مهيبًا، أسأل الله أن يعمنا بواسع فضله...
آمين.

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢