أرشيف المقالات

كيف تغادر بلدك في ثلاثة أيام؟ (1) - أروى العظم

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
قصة كيف تغادر بلدك في ثلاثة أيام بدون تحضير لتغيب عنها عشرات من السنين!
على طريقة تعلم الإنجليزية خلال ثلاثة أيام بدون معلم، مع العلم أنني أحضرت الكتاب وتفرغت لدراسته ثلاثة أيام فلم أتعلم! وهكذا انتهت صلاحية الكتاب فرميته، وبعدها بعام ظهرت نسخة مطورة وهي تعلم الإنجليزية خلال عشرة أيام وبدون معلم! أيضًا بذلت جهدي ومضى الوقت المتاح وانتهت صلاحية الكتاب، ولم أتعلم! والآن أنتظر الطبعة الجديدة على أمل أن تكون تعلم الإنجليزية خلال ثلاثين عام، راجية أن تكون تلك النسخة مع معلم!

طبعًا ليس هذا موضوعي الذي أريد التحدث عنه، لكنها الطريقة الحديثة في التقديم! ألا ترون مثلاً في قناة الجزيرة وفي برنامج كالاتجاه المعاكس كيف يشرح المذيع ساعة ماذا سيأت في البرنامج، ثم يذهب فاصلاً ويعود ليبدأ الحلقة!

في خريف عام 1981 أو ربما يكون شتاء، وقد يكون في الصيف! لكن الأمر الأكيد أن ذلك لم يحدث في الربيع! لأن الربيع غاب عن بلادي أربعين سنة ونيف! وجاء الآن كثيفًا لكنه محزنًا! جاء مخاضه أليمًا طويلاً لم تنبت أزهاره إلا عندما رويت بالدماء الطاهرة..!

في ذلك العام كنا في زيارة لجدة والدتي، وهي امرأة رائعة الخلق وجهها يشع نورًا، وهي حفيدة الشيخ (بدر الدين الحسني) محدث دمشق، وهي أيضًا حماة جدي الشيخ (علي الطنطاوي)، وكان دائم المدح لمناقبها وشخصها، وكان يقول: "هل رأيتم شخصًا يحب حماته"! ثم يجيب فورًا: "أنا أحب حماتي"، وقد كان محقًا، فهي تستحق المحبة، أذكر ذلك اليوم تمامًا، حيث غادر أغلب أفراد عائلتنا دمشق، وبقيت أمي صامدة ترفض أن تغادر، وأذكر كيف سألتها جدتها: "يا بيانة -وكانت تدلعها ببيانة بدل بيان لمحبتها لها-، هل ستتركين دمشق أنت أيضًا كما فعل الجميع؟"، وتجيبها أمي: "أبدًا أبدًا..
أنا لن أرحل مهما يحصل"، وكأنه غاب عنها أن تقول إن شاء الله..!

وبعد هذه الزيارة بأيام قليلة صحونا على خبر مفجع وغريب لا يصدق في ذلك الزمان، خبر اغتيال خالتي بنان! سمعنا الخبر ولم نصدق! بل سهرت أمي الليل وهي تدعو لها بالشفاء من أثر الرصاصات! لكن هيهات فإن أمر الله قد حصل، وحصلت الوفاة وخلال ساعات كان بيتنا مليئًا بالمعزين، بل جاءت سيارة الوزيرة (نجاح العطار) إلى باب بيتنا تقلّ أختها لتؤدي واجب العزاء! في قصة غريبة من نوعها! حيث زوج خالتي هو (عصام العطار) بينما أخته تعمل وزيرة لدى النظام! الذي قتل...
وفي خضم العزاء يتصل بنا جدي يطلب منا المجيء إلى مكة وبإلحاح، قائلاً: "يا بيان إذا وصلوا إلى أختك في ألمانيا فلن يعجزهم الوصول إليك وأنت في سوريا "!

على هامش القصة: أذكر لكم أنه قبل مقتل خالتي (بنان) بأربعة أشهر كانت قد رُزقت بحفيدة من ابنتها هادية، وكانت جدتها -أي جدة خالتي التي تكلمت عنها في قصة أمس- لا تزال على قيد الحياة! فخاف الجميع عليها عندما قالوا أصبح لدينا في العائلة من ينادي: -يا ستي..
كلمي ستك- ولم يخطر ببال أحد ساعتها أن التي ستموت هي الجدة الصغيرة التي تبلغ من العمر 38، بينما ستعيش الجدة الكبيرة حتى تبلغ 98من العمر! فسبحان الله..!

أعود إلى قصتي..
عندما اتصل علينا جدي يطلب منا المجئ إلى مكة، كان علينا المغادرة خلال ثلاثة أيام، هي أيام العزاء، وكان بيتنا لا يخلو من الناس لا ليلاً ولا نهارًا، وحركة دؤوبة لتجهيز البيت للإخلاء، فالنساء يدخلن إلى غرفة المؤونة -التي يوضع بها أصناف الطعام على عادة أهل الشام - ويفرغن كل شيء، ويفرغن الثلاجات، ويجمعن الأثاث، وأمي تطلب منّا ان نتحضر للسفر! وتطلب من أختي أن تذهب معي إلى مدرستي لسحب الأوراق! وأنا صرت أرتجيها أن تتركني شهرًا فقط بعده ينتهي العام، -وكنت في الصف الثاني الثانوي- فلا يذهب مني تعب سنة، إلا أنها ترفض وتقول سنغادر الآن! ذهبت إلى مدرستي ودّعت رفيقاتي وبكينا معًا،حيث لم نصدق أننا سنفترق..

وفي طريقي لسحب الأوراق تمر أمامي معلمة الاشتركية وهي من أسوأ المعلمات، تظهر شماتتها بي وبموت خالتي، وتفرح لخبر تركي للبلاد وخاصة أنني قبل شهر واحد كنت قد أثرت على صديقة لي فارتدت الحجاب ، وتقول: "سنرتاح منك ومن تأثيرك الرجعي على الطالبات"، وقد كانت أظهرت حنقها وغضبها عندما تحجبت صديقتي الحبيبة (منى)، وطلبت مني أن أبتعد عنها حتى لا أحولها إلى قبيحة رجعية -هبلة- على حد قولها، وكذلك أتت ابنة الوزير (علا جربوع ) التي لا أزال أذكر اسمها، فأظهرت حقدها وأبدت سعادتها لرحيلي، فدعوت عليها من قلبي، ولن تصدقوا أنه بعد شهر واحد مات والدها الذي كانت تفتخر به وبمركزه، إلى جهنم وبئس المصير..

حزمت أمتعتي نعم..
لكنني كنت أخال أنني في حلم، أو أنني سأذهب في إجازة قصيرة أعود بعدها إلى غرفتي وأغراضي، بصراحة لم يستوعب عقلي الصغير وقتها ولم يرشدنِ إلى جمع حاجاتي! لم أودع غرفتي كما يجب ولا سريري ولا خطر ببالي أن أجمع ذكرياتي! تركت صوري ورسائلي وتركت كل تذكاراتي!

غطينا كل الأثاث بعد أن جمعناه بوسط الغرفة بالأغطية والشراشف، وألقيت نظرة! أحسست أننا سنترك البيت لأشباح ستعيش فيه فترة، فقد غلب عليه اللون الأبيض وغاب كل لون آخر تحت الأغطية البيضاء، وغابت صفحة من حياتي طويت تحت ذلك الغطاء، ومضينا في رحلة نحو المجهول، لا ندري أي أرض سنحل بها وأي سماء، وهل يا دمشق الحبيبة سيكون لنا لقاء، وغابت دمشق خلف البقاع ونظري إلى الخلف لا أدري ماذا ينتظرني في الأمام، اتجهنا أولاً نحو عمّان..

كيف تغادر بلدك في ثلاثة أيام؟ (2)
كيف تغادر بلدك في ثلاثة أيام؟ (3)

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢