خطبة من خطب عمرو بن العاص
مدة
قراءة المادة :
6 دقائق
.
منقولة من الجزء الثالث من كتاب أشهر مشاهير الإسلام
رأينا في تاريخ ابن عساكر خطبة نفيسة لعمرو بن العاص من أحسن أقواله،
يوصي بها الناس بالقصد، وعدم السرف، وحسن معاملة القبط، وصرف العناية إلى
خيل الجند بالقيام على تربيتها وسمنها، وغير ذلك من الوصايا الجميلة النافعة رواها
ابن عساكر عن بُحَير بن داخر المعافري قال:
ركبت أنا ووالدي إلى صلاة الجمعة، وذلك آخر الشتاء بعد حمم (كذا)
النصارى بأيام يسيرة فأطلنا الركوع؛ إذ أقبل رجال بأيديهم السياط يؤخرون الناس
فذعرت، فقلت: يا أبت من هؤلاء؟ قال: يا بني هؤلاء الشُّرَط. وأقام المؤذن الصلاة فقام عمرو بن العاص على المنبر فرأيت رجلاً قصير القامة أدعج أبلج [1] عليه ثياب موشية (أو موشاة) كأن بها العقيان [2] تتألق عليه وعمامة وجبة , فحمد الله وأثنى عليه حمدًا موجزًا، وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم، ووعظ الناس فأمرهم، ونهاهم فسمعته يحض على الزكاة وصلة الرحم وينهى عن الفضول وكثرة العيال، وقال في ذلك: يا معشر الناس إياي وخلالاً أربعًا فإنها تدعو إلى النَّصَب بعد الراحة، وإلى الضيق بعد السعة وإلى الذلة بعد العز؛ إياي وكثرة العيال، وانخفاض الحال وتضييع المال، والقيل بعد القال في غير دَرَك ولا نوال، ثم إنه لا بد من فراغ يؤول المرء إليه في توديع جسمه والتدبير لشأنه، وتخليته بين نفسه وبين شهواتها، فمن صار إلى ذلك؛ فليأخذ بالقصد [3] والنصيب الأقل، ولا يضيع المرء في فراغه نصيب نفسه من العلم، فيكون من الخير عاطلاً، وعن حلال الله وحرامه عادلاً، يا معشر الناس قد تدلت الجوزاء وركبت الشعرى، وأقلعت [4] السماء وارتفع الوفاء وطاب المرعى، ووضعت الحوامل، ودرجت السمائم [5] وعلى الراعي حسن النظر.
فحي بكم على بركة الله على ريفكم، فتناولوا من خيره ولبنه ومرافقه وصيده , وأربعوا بخيلكم وأسمنوها وصونوها وأكرموها فإنها جنتكم [6] من عدوكم وبها تنالون مغانمكم، وتحملون أثقالكم، واستوصوا بمن جاورتم من القبط خيرًا.
وإياي والمومسات [7] المفسدات؛ فإنهن يفسدن الدين، ويقصرن الهمم، حدثني عمر أمير المؤمنين، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله سيفتح عليكم بعدي مصر فاستوصوا بقبطها خيرًا فإن لكم منهم صهرًا وذمة) فكفوا أيديكم، وفروجكم وغضوا أبصاركم فلأعلمن ما أتاني رجل قد أسمن جسمه وأهزل فرسه [8] من غير علة حططته من فريضته قدر ذلك , واعلموا أنكم في رباط الى يوم القيامة؛ لكثرة الأعداء حولكم، ولإشراف قلوبهم إليكم وإلى داركم، معدن الزرع والمال والخير الواسع والبركة التامة.
حدثني عمر أمير المؤمنين أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا فتح الله عليكم مصر فاتخذوا فيها جندًا كثيفًَا فذلك الجند خير أجناد الأرض) فقال له أبو بكر: ولِمَ ذاك يا رسول الله؟ قال: (لأنهم في رباط إلى يوم القيامة) .
فاحمدوا ربكم معشر الناس على ما أولاكم وأقيموا في ريفكم ما بدا لكم.
فإذا يبس العود، وسحق العمود، وكثر الذباب، وحمض اللبن، وصوَّح [9] البقل، وانقطع الورد، فحي على فسطاطكم على بركة الله , ولا يقدمن أحد منكم على عياله إلا ومعه تحفة لعياله على ما أطلق من سعته أو عسرته) اهـ. (المنار) هكذا كانوا يخطبون الناس يعلمونهم ما به صلاح دينهم ودنياهم، ويرشدونهم إلى حسن العمل في المعايش، وحسن المعاملة مع الموافق والمخالف، فليعتبر بهذا خطباء التقليد في هذا العصر إن كانوا يفقهون.
و (السمائم) نوع من الطير: و (السماسم) النمل و (الشعرى) الكوكب الذي يطلع في الجوزاء، وذلك عند إقبال الحر فهو يقول: ذهب الشتاء وجاء وقت العمل والحرث.
والوصية من النبي وعمر وبالمرابطة في مصر تدل على أن هذه البلاد لا تحفظ من اعتداء الأجانب إلا بالقوة الجندية الدائمة، فإنها مقصودة من الفاتحين لخيرها وضعف أهلها، ولكن المسلمين المتأخرين والمتوسطين لم يفهموا ما يؤثر عن الأولين. (1) الأدعج: أسود العينيين، والأبلج: المضيء المشرق. (2) العقيان: الذهب الخالص. (3) أي: بالاعتدال. (4) وأقلعت السماء أي: كفت وهو كناية عن انقطاع المطر. (5) كذا في الأصل ولعلها: السوائم وهي الماشية. (6) الجنة هي: الوقاية. (7) العواهر. (8) جواب قسم محذوف أكد بالنون الثقيلة، وما: مصدرية؛ أي: فوالله لأعلمن إتيان رجل موصوف بما ذكر وفي طيه من الترهيب البليغ ما لا يخفى، وقد بين بعد جزاء من فعل ذلك بقوله فمن أهزل فرسه إلخ. (9) صوح؛ أي: يبس أعلاه.