بمن الذي يطبق الشريعة، الأمة أم الفرد؟
مدة
قراءة المادة :
8 دقائق
.
في السجال حول فكرة ( سيادة الأمة العلمانية ) التي يطرحها بعض التنويريين ، هناك ممارسة تزييفية ، تتمثل في طرح سؤال:( من الذي يطبق الشريعة ، الفرد أم مجموع الأمة ) ؟
هذه الممارسة باختصار: هروب من نقطة النقاش.
لأن النقاش ليس حول ( التنفيذ والتطبيق ) وإنما هو حول ( المشروعية ).
كيف تكتشف زيف هذا السؤال عند من يطرحه ؟
الجواب / أنك تجده حينما يسترسل في الجواب، لا يجعل مهمة الشعب مجرد (تطبيق وتنفيذ) في دائرة (المشروعية) وإنما يجعل من مهمات الشعب وصلاحيته تنحية الشريعة والتصويت لغيرها، فصار هذا المغالط يثبت للشعب مهمة (تشريعية) وليست (تطبيقية) فحسب.
السلفيون يقولون :
المشروعية في الإسلام واضحة هي ( الشريعة ) وممارسة الناس في الحكم مجالها فقط إنفاذ الشريعة وسن القوانين في إطارها وما سكتت عنه ، ويعدون أي ممارسة للخروج عن الشريعة خروجاً عن المشروعية سواء قام بها فرد أم شعب.
وممارسة الناس للحكم عندهم (شورى ) يحرم فيها التغلب ، وهم متفقون على تحريم التغلب .
التنويريون يقولون :
المشروعية في السياسة تستمد من الناس كما أن التطبيق منهم أيضاً ، فالناس يشرعون في السياسة ويمارسون ، ولو خالف تشريعهم شرع الله .
وهذا منهم مبني على تأثرهم بالعلمانية الأوربية التي أعطت الشعب حق التشريع لأنها تفتقد مصدراً عادلا للمشروعية فالدين عندهم كهنوت محرف كله ظلم واستبداد .
فمن يعطي الشعب صلاحية تشريع فهو عوضاً عن إخلاله بمبدأ الحاكمية وجرأته على الإسلام ، مجرد مقلد تقليداً أعمى للأوربيين .
ومن امتلأ يقيناً بأن الإسلام والشريعة حق وعدل فلن يعطي لأحد كائناً من كان صلاحية (التشريع) وتحديد المشروعية ، لا فرد ولا شعب .
المغالطة التي يسلكها كثير من التنويريين لتبرير رؤيتهم التي تعطي الشعب صلاحية التشريع ، أنهم يخلطون بين التشريع والتطبيق ، ومظاهر هذا الخلط غير النزيه:
المظهر الأول: سبقت الإشارة إليه، وهو أن يطرح سؤال ( من يطبق الشريعة الأمة أم الفرد؟ ) ثم لا يلبث في جواب السؤال أن يعطي الشعب لا صلاحية تطبيق فحسب ، وإنما صلاحية تشريع أيضاً .
المظهر الثاني: أن يقارن بين أخطاء التطبيق عند المتفرد ، ليبرر بها أخطاء التشريع عند الشعب ، فيقول : ( إذا الشعب أخطأ في اختيار غير الشريعة فالحاكم الفرد ألصق بالخطأ في تطبيقها عادة ) .
وهذا التزييف ينطلق من قاعدة الخلط بين مقام التشريع ومقام التطبيق ، لأن الخلل العظيم في الفكرة التنويرية ليست في وقوع الشعب في خلل تطبيقي حتى يقارن هذا الوقوع بوقوع الحاكم ، إنما هو في التصور والعقيدة التي بموجبها صار التنويري ( يعتقد أن الشعب إذا أخطأ واختار غير الشرع فهذا خيار محترم يجب الرضوخ له ) .
فهذه العقيدة بحد ذاتها ( شرك ) وهي شر من خطأ الفرد في التطبيق ، وشر من خطأ الشعب في التطبيق .
وبشكل آخر يمكننا أن نقطع الطريق على مظهر الخلط الثاني، بتصنيف أحوال الحكم من حيث التشريع والتطبيق إلى أربعة أحوال :
الحالة الأولى : أن يكون التشريع لله ، وأن يكون التطبيق ( فقط ) للشعب.
الحالة الثانية : أن يكون التشريع لله ، وأن يكون التطبيق لفرد متغلب .
الحالة الثالثة : أن يكون التشريع للشعب ، والتطبيق أيضاً للشعب.
الحالة الرابعة : أن يكون التشريع للمتغلب ، والتطبيق للمتغلب أيضاً .
السلفيون يقولون بالحالة الأولى التي جاءت في التصور الإسلامي الذي وأثبتتها الأدلة الشرعية .
التنويريون يقولون بالحالة الثالثة التي جاء بها التصور الغربي الذي ظهر مع مسيس الحاجة للعدل في ظل افتقادهم لمصدر تشريعي عادل .
الحالة الثانية : هي التي وقع فيها كثير من الحكام المسلمين الذي حكموا بالإسلام لكنهم استبدوا بالحكم .
الحالة الرابعة : هي التي وقع فيها الطغاة الذين حكموا العالم الإسلامي مع تنحية الشريعة خاصة في الزمن المعاصر .
ولو جئنا نرتب الحالات المنحرفة ، سنجد أن أقلها انحرافاً : الحالة الثانية، ثم الحالة الثالثة في الغالب، وأخطرها: الحالة الأخيرة في الغالب.
حينما يقارن التنويري بين رؤيته ليفضلها على التفرد فمن المفترض أن يقارنها بصورة ( التشريع للفرد – والتطبيق للفرد أيضاً ) .
وهي صورة لا يختلف السلفيون على أنها شر من الرؤية التنويرية التي تمنح الشعب سلطة التشريع .
ولذا كلهم رحب بالحكومات غير الإسلامية التي تحكم بغير ما أنزل الله وتجعل التشريع للشعب، ما دامت جاءت على أنقاض حكومات تجعل التشريع للفرد والتطبيق له أيضاً ، لأن الأولى وإن كانت منحرفة إلا أنها أقل شراً وأخف ضرراً .
لكن هذا لا يعني أن صورة ( التشريع للشعب – والتطبيق ) هي صورة إسلامية ، بل هي صورة شركية تحكم بغير ما أنزل الله .
فحينما يقول التنويري :
( خطأ الشعب في اختيار غير الشريعة خير من خطأ المستبد فيها )
فهو يقصد أحد معنيين :
1- أن يكون مراده الطاغوت الذي له صلاحية التشريع ولا يلتزم بالإسلام، فقوله صحيح يتفق معه فيه السلفيون، غير أنه لا يعني إبطال الواجب الذي هو خير من الحالتين جميعاً (التشريع لله – والتطبيق للشعب ) .
2- أن يكون مراده الفرد الملتزم بشرع الله من حيث التشريع لكنه يخطئ في التطبيق : فهو كاذب في مقارنته، لأن خطأ الفرد المتغلب في التطبيق يقارن بخطأ الشعب في التطبيق، ومقارنته بمنح الشعب تشريعا قفز وخلط بين مقامي التشريع والتطبيق .
فالتصور التنويري في الحقيقة شر من الاستبداد في التطبيق ، لأن الاستبداد في التطبيق من الظلم وليس من الكفر ، بخلاف التصور التنويري الذي يثبت التشريع لغير الله تعالى .
تزييف تنويري آخر :
عندما يدعي أحدهم أن عدم منح الشعب صلاحية التشريع فإن ذلك يعتبر تشريعاً لمنطق الغلبة والاستبداد .
وهذا الكلام مبني أصلاً على أن للشعب حق اختيار غير الشريعة ، فهو من الاحتجاج بمحل الخلاف .
وإلا لو كانت صلاحية الشعب مجرد ( تطبيق الشريعة ) فإن هذا السؤال لا حاجة إليه ، لأن الشعب أولاً لن يمارس أمراً خارج صلاحياته ، ثم لو فرضنا أنه مارسه فليس هو حقاً له حتى يعد كبته استبداداً .
وهذا له شاهد من عمل الديمقراطيين أنفسهم ، فإنهم يقولون : ليس للشعب إبطال الديمقراطية، لأنها فوق صلاحياته، ولا يعدون تجاهل تصويت الشعب لإلغاء الديمقراطية استبداداً ، لأنه تجاهل (لافتئات الشعب على المشروعية والسلطة)
فمن يجعل تجاهل اختيار الشعب لغير الإسلام استبداداً ، ثم هو لا يعد تجاهل خياره في إلغاء الديمقراطية استبداد أيضاً : فهو كافر بالإسلام مؤمن بالديمقراطية العلمانية.
ومن يقول : إن تجاهل خيار الشعب إذا اختار غير الشريعة يعد استبداداً فهو يجعل من الخلافة الراشدة ( الأنموذج الإسلامي الأمثل ) استبداد ، حيث إن أبا بكر تجاهل خيارات المرتدين في وقته !
والله أعلم.
عبد الوهاب آل غظيف