إشراقة من حديث الأمانة - أبو حاتم عبد الرحمن الطوخي
مدة
قراءة المادة :
20 دقائق
.
الحمدُ لله مَنَّ على هذه الأمَّة ببعثة خيرِ البرايا، وجعَل التمسك بسنته عصمةً من الفِتن والبلايا، أحمده تعالى وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأسأله الثبات َ على السُّنَّة، والسلامة مِن المحن والرزايا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له عالم السِّرِّ والخفايا، والمطلع على مكنون الضمائرِ والنوايا، وأشهد أنَّ نبيَّنا وحبيبَنا وقدوتَنا وسيِّدنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه، كريم الخِصال وشريف السجايا، والمجبول على معالي الشمائل والمعصوم مِن الدنايا، عليه مِن الله وعلى آله وأصحابه وأتباعه أفضلُ الصلوات وأزكى التسليمات وأشرف التحايا.أما بعد:
فإنَّ أحاديثَ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم مليئةٌ بالعِظات والعِبَر، جديرة بالتأمُّل والنظر، والمستبصر لأحوال أُمَّته يجد أنَّ الأمَّة الإسلامية تنحدِر من هاوية إلى هاوية، ومِن فِكْر إلى فِكر، ومن طريقة إلى أخرى، ولا نجاةَ لهذه الأمَّة إلا بالتمسُّك بكتاب ربها، والاعتصام بسُنَّة نبيها صلَّى الله عليه وسلَّم.
ونظرتُ في واقعِ الأمَّة متأمِّلاً ومتسائلاً: إلى أيِّ درجة يمكن أن يكونَ لهذه الأمة كِيانٌ ورِفعة، ومنزلة ودرجة بيْن الأمم، فلفت نظري حديثٌ للنبي صلى الله عليه وسلم فوقفتُ عنده أعاين وأنظُر، فقرأته بعيْن المستبصِر، فهالني ما قرأت، وشدَّني ما سمعت، وأرَّقني حالُ الأمَّة فعزمتُ على النظر فيه، واستخلاص الفوائد والفرائد، وجمْع الشوارد المتعلِّقة به، سائلاً ربي العونَ والإبانة، والتوفيقَ والإعانة.
وهو حديثٌ أخرجه الإمام البخاري ُّ رحمه الله في موضعَيْن من صحيحه في كتاب العلم باب: مَن سُئِل علمًا وهو مشتغل في حديثه فأتَمَّ الحديث ثم أجاب السائل، وكذلك أخرَجه في كتاب الرقاق باب: رفْع الأمانة، مِن حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم في مجلسٍ يُحدِّث القومَ جاءَه أعرابيٌّ فقال: "متى الساعة؟ فمضَى رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم يُحدِّث، فقال بعض القوم: سمِع ما قال فَكرِه ما قال، وقال بعضهم: بل لم يسمعْ، حتى إذا قضَى حديثَه قال: «أينَ أُراهُ السائِل عن الساعة؟» قال: ها أنا يا رسولَ الله، قال: «فإذا ضُيِّعتِ الأمانةُ فانتظر الساعة»، قال: كيف إضاعتُها؟ قال: «إذا وُسِّد الأمرُ إلى غيرِ أهله فانتظر الساعة».
بادئ ذي بدءٍ، أريد أن أُبيِّن أنَّ إيراد البخاري رحمه الله لهذا الحديث في كتاب العلم إنَّما هو لأمور تتعلَّق بالعالِم والمتعلِّم، والآداب التي يَنبغي أن تكون فيهما، أما آداب العالم فلأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يَزجُرِ السائل، وإنما اكتفى بتأديبه بالإعراضِ عنه، حتى أكمل حديثَه عليه الصلاة والسلام، فلمَّا أتمَّ حديثَه عليه الصلاة والسلام أجابه عن سؤالِه ورَفَق به، وكذلك يَنبغي على العالِم ألاَّ يزجُرَ الجاهل، بل يَحلُم عليه، ويَصبِر على جفوته، وأما المتعلم فيَنبغي له ألاَّ يسأل العالِمَ وهو منشغل بغيره؛ لأنَّ حقَّ الأول مُقدَّم وهو المتعيِّن، وكذلك في مسائل الفُتيا، وفي مسائل القضاء، وغيرها.
والنبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم كان يَكْرَه مثلَ هذه الأسئلة كما في الحديث: "سمِع ما قال فكَرِه ما قال"، وظنَّ بعضهم أنه لم يسمع السؤال، ولكن الظاهر مِن الحديث أنَّه سمِع السؤال، ولكنَّه أعرض عن السائل تأديبًا له، وزجرًا، أمَّا تأديبه فللنظرِ فيها وانتظارًا لنزول الوحي عليه مِن السماء.
ويَزجُره حتى لا يتجرَّأ فيسأل مثلَ هذه الأسئلة التي ربَّما تكون فيها مشقَّة على السامع، ولا يقوم بحقِّها، أو تكون تَعنيتًا للمفْتي، وفي هذا يُروى حديثٌ عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: «أنه نهى عن الغلوطات» [1].
قال الشعبيُّ رحمه الله: "الأغلوطات شدادُ المسائل وصعابها" [2].
وأما الشطر الثاني: فهي الإجابةُ على سؤال هذا الأعرابي عن الساعة، فقال عليه الصلاة والسلام: «إذا ضُيِّعتِ الأمانة فانتظر الساعة»، فقال: وكيف إضاعتُها؟ قال: «إذا وُسِّدَ الأمرُ إلى غير أهله فانتظرِ الساعة»، والأمانة: ضدُّ الخِيانة، وضياع هذه الأمانة من علامات النِّفاق، وفساد الزمان، ويكون تضيعها بإسنادِ الأمر إلى غير أهله، وهذا الأمر كافٍ لإهلاك الحَرْث والنسل، ودمار المجتمعات، وفساد الزمان، والله المستعان.
ولكن أي الأمور التي يَقصِدها النبيُّ صلى الله عليه وسلم في الحديث؟ هل أمور الدنيا والمعاش، أم أمور الآخِرة والمعاد؟ قال الحافظ ابن حجر في (الفتح): "أي جِنس الأمور التي تتعلَّقُ بالدِّين كالخِلافة، والإمارة، والقضاء وغير ذلك"، وللعلماء تعريفاتٌ كثيرة ومتشعِّبة للأمانة، وكلٌّ يُدلي بدلوه في تعريفها، وكلُّ الصَّيْد في جوفِ الفِرا، وكثرة التعريفات لها -في نظري- مدلولات حسنة، لأنَّ كلمة الأمانة لا تقتصر على معنًى واحد، ولكنَّ لها معانيَ متعدِّدةً، وليست معانيَ خاصَّة، فأكْثَرَ العلماء من التعريفات لها مِن هذا المنطلق، والله أعلم.
قال الكُفوي: "الأمانة: كلُّ ما افترَض الله على العِباد فهو أمانةٌ، كالصلاة والزكاة، والصيام وأداء الدَّيْن، وأوكدها الودائع، وأوكد الودائع كَتْمُ الأسرار" [3]، "وهي مِن أجلِّ القِيَم الخُلُقية التي بُنيت عليها شريعةُ الإسلام، وهي قيمةٌ عظيمة تُصان بها حقوقُ الله عزَّ وجلَّ وحقوقُ الناس، وهي جزءٌ لا يتجزَّأ مِن صفات المؤمنين، ومِن الأمانة الكبرى التي حمَلَها الإنسان أمامَ الله عزَّ وجلَّ بالخضوع لأوامره، والانتهاء عن زَواجره انبثقتْ سائرُ الأمانات، مثل أمانة الشهادة لهذا الدِّين، وأمانة العِلم، وأمانة الدَّعْوة إلى الله تعالى، وأمانة المحافَظة على حُرُمات المجتمع، وأمانة التعامُل مع الناس، ورد أماناتهم إليهم..." [4].
وقال بعضُ أهل العلم: الأمانةُ في الحديث هي المذكورة في قول الله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا .
لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب:72-73]، والله عز وجل لمَّا عرَض الأمانة على السموات والأرض والجبال كان العَرْضُ اختياريًّا فأشفقْن مِن حملها، وعرْضها على الإنسان كان عرْضَ إجبار، إنَّه كان ظلومًا جهولاً.
والأمانة في الآية الكريمة اختَلَف أهلُ العلم فيها.
قال الإمام الطبري: "اختلف أهلُ التأويل في معنى ذلك، فقال بعضُهم: معناه: إنَّ الله عرَض طاعتَه وفرائضه على السموات والأرض والجبال على أنَّها إن أحسنت أُثيبت وجُوزيت، وإن ضيعت عُوقِبت، فأبَت حملَها؛ شفقًا منها ألاَّ تقوم بالواجب عليها لله، وحَمَلها آدمُ إنَّه كان ظلومًا لنفسه جهولاً بالذي فيه الحظُّ له.
وقد استدلَّ أبو جعفر الطبري على ذلك بما رُوي عن ابن عباس: (الفرائض التي افترَضَها الله على عباده)، وبما رُوي عنه أيضًا من قوله: {الْأَمَانَةَ}، الطاعة عرَضَها عليها، أي على السموات والأرض والجبال قبل أن يَعرِضها على آدم، فلم تُطقْها، فقال لآدم: يا آدمُ، إني قد عرضتُ الأمانة على السموات والأرض والجبال، فلم تُطِقْها، فهل أنت آخِذُها بما فيها؟ فقال: يا رب: وما فيها؟ قال: إنْ أحسنتَ جُوزيت، وإنْ أسأتَ عوقبت، فأخَذَها آدم فتحمَّلها" [5]، وقال القرطبي رحمه الله: "والأمانة تعمُّ جميعَ وظائف الدِّين على الصحيح مِنَ الأقوال، وهو قول الجمهور"، وقال الشيخ عبد الرحمن بن حبنكة الميداني: "الأمانةُ أحدُ الفروع الخُلُقية لحبِّ الحق وإيثاره، وهي ضدُّ الخيانة".
مجالات الأمانة:
ولا تقتصر الأمانةُ على العِفَّة عن الأموال، بل العِفَّة عن كل ما ليس للإنسان به حقٌّ هي أيضًا داخلةٌ في حدود الأمانة، أو أثر مِن آثارها، ومن الأمانة إعطاءُ كلِّ ذي حقٍّ حقَّه، فالعدل مِن الأمانة، والجور والظُّلم من الخِيانة، ومن الأمانة الاهتمام بأنَّ يحفظ المستأمِنون ما تحتَ أيديهم من حقوقٍ لغيرهم، حتى يؤدُّوها إلى أصحابها، وهي على حالتها حينما استؤمنوا عليها، ما لم يكن مرورُ الزمن يُغيِّر منها بصفة طبيعيَّة.
ومن مجالات الأمانة المتعدِّدة أيضًا الأمانةُ في العقيدة ، والأمانة في العبادة، والأمانة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأمانة في توفية الكَيْل والميزان، والأمانة في البَيْع والشِّراء، والأمانة في تأدية الدَّين..
وقد ظَهر لنا أنَّ تعريف الأمانة يشتمل على ثلاثةِ عناصر:
"الأول: عِفَّة الأمين عمَّا ليس له به حق.
الثاني: تأدية الأمين ما يجب عليه مِن حقٍّ لغيره.
الثالث: اهتمام الأمين بحِفظ ما استُؤمِن عليه من حقوقِ غيره، وعدم التفريط بها والتهاون بشأنها" [6]؛ ا.هـ.
والأمانة في كتاب الله عز وجل على ثلاثة أوجه كما ذكر ابنُ الجوزي في كتابه (نزهة الأعين النواظر) [7]:
الأول: الفرائض: ومنه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27].
الثاني: الوديعة: ومنه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [ النساء من الآية:58].
الثالث: العِفَّة، ومنه قوله تعالى: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ} [القصص:26].
صلة الأمانة بالإيمان:
أثنى الله تبارك وتعالى في أكثرَ مِن آية على رِعاية المؤمنين للأمانة، وفي هذا إعلاءٌ لشأنها، فجعَلَها صفةً بارزة للمؤمنين، وقد ربَط النبيُّ صلى الله عليه وسلم بيْن الأمانة والإيمان أيَّما رباط؛ عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «المُسلِمُ مَن سَلِم المسلمون مِن لسانه ويده، والمؤمِن مَن أَمِنَه الناس على رعائهم وأموالهم» (رواه أحمد والترمذي، والحاكم في مستدركه بسندٍ صحيح)، ومَن ضيَّع الإيمان فإنَّ تضييعه للأمانة مِن باب أولى، فمن لم يكن مؤمنًا لا يكون أمينًا، وأنس بن مالك يُخبِر فيقول: ما خَطَبَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلا قال: «لا إيمانَ لمَن لا أمانةَ له، ولا دِينَ لمَن لا عهْدَ له» [8]، وأما منهج حمل هذه الأمانة: فقد ذكَر بعضُ أهل العلم أنَّ هذا المنهج مذكورٌ في أوَّل ثلاث آيات مِن سورة الأحزاب، وهي:
في الآية الأولى: الأمر بتقوى الله عزَّ وجلَّ وعدم طاعة الكافرين والمنافقين لماذا؟ لأنَّ هؤلاء هم أعداءُ الأمانة، وليعلم الذين يريدون حملَ الأمانة أنَّ الله عليم بمآلات الأمور، حكيمٌ في أفعاله وأقواله.
وفي الآية الثاني: الأمر باتِّباع الوحي من الكتاب والسُّنَّة؛ لأنَّهما مُنزَّلان على خير البشر، ولأنَّ في اتباع الوحي لزومَ الصراط المستقيم الذي نسأل اللهَ إيَّاه كلَّ يوم وليلة سبعَ عشرةَ مرة، وذلك بعدد ركعات الفرائض، وعدم اتِّباع الوحي إيذانٌ بهلاك العبد؛ لأنَّ الله مُطَّلع وخبير بحال هؤلاء المخالفين، لا تخفَى عليه خافية.
وفي الآية الثالثة: التوكُّل على الله في جميعِ الأمور والأحوال، بصدقٍ، وحُسْن ظنّ، وكان مِن دعاء سعيد بن جبير: "اللهمَّ إني أسألك صِدقَ التوكُّلِ عليك، وحُسنَ الظنِّ بك".
والتوكل على الله يحتاج إلى أربعة أمور:
الأول: أن يتعرَّف الإنسانُ على الوكيل سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته، وكان بِشْرٌ الحافي يقول: "يقول أحدُهم: توكلتُ على الله، يكذب على الله في توكُّله"، بمعنى: يقول بلسانه ما ليس في قلْبه، فمع أوَّل هبة ريح عاصف، أو ذرَّة نسيم، عندَ وقوعه في البلاء يتَزَعْزع إيمانُه، وربما انفلتَ لسانُه بما يكره الله.
الثاني: الإيمان الجازم بالقَدَر فيعلم أنَّ ما أخطأه لم يكن ليصيبَه، وما أصابه لم يكن ليخطئَه، وفي حديثٍ أخرجه أبو داود وابن ماجه بسندٍ صحيح عن أربعةٍ من الصحابة : أُبيّ بن كعب، وعبد الله بن مسعود، وحذيفة، وزيد بن ثابت: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو أنَّ الله عذَّب أهلَ سماواته وأهل أرضه، لعذَّبهم وهو غيرُ ظالِم لهم، ولو رَحِمهم لكانتْ رحمته خيرًا لهم من أعمالهم، ولو كان لك مِثلُ أُحد ذهبًا، أو مثل جبل أُحد ذهبًا تُنفقه في سبيلِ الله ما قَبِله منك حتى تؤمنَ بالقدَر، فتعلم أنَّ ما أصابك لم يكن ليخطئَك، وأنَّ ما أخطأك لم يكن ليصيبَك، وأنَّك إنْ متَّ على غير هذا دخلت النار ».
الثالث: الأخْذُ بالأسباب؛ فإنَّ الله عز وجل أمَرَ مريم َ عليها السلام بعدم ترْك الأسباب، بل أمرَها بالسعي بالأخْذِ بها، فقد قال الله لها: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} [مريم:25]، هزَّتِ النخلة وتعاطتِ الأسباب، حتى وقع الرطب، فليس مِن عملها ترْكُ الأسباب، ووجود الرزق عندَها، وكون الله سبحانه وتعالى أكرمها وأتاح لها بعضَ الأرزاق وأكرمها ببعضِ الأرزاق، لا يدلُّ على أنَّها معطلة الأسباب فتأمَّلْ هذا القيد، فإنَّه مهم -كما يقول العلاَّمة ابن باز برد الله مضجعَه- بل هي تتعبَّد وتأخذ بالأسباب، وتعمل بالأسباب مع ما كانتْ فيه من ضَعْف الحمْل، وألَمِ المخاض، أمرَها الله بالسعي للأخْذِ بالأسباب.
وإذا ساق اللهُ لبعضِ أوليائه من أهل الإيمان شيئًا مِن الكرامات فهذا من فضْلِه سبحانه وتعالى لكن لا يدلُّ على تعطيل الأسباب، وقد ثبَت عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «احرِصْ على ما يَنْفَعُك، واسْتعِنْ باللَّه ولا تَعْجِز» [9]، وقال الله سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [ الفاتحة :5]، [10]، وفي حديثِ عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لو أنَّكم كنتم توكَّلون على الله حقَّ توكُّلِه لرُزقتم كما يُرزق الطيرُ؛ تغدو خِماصًا وتَرُوح بِطانًا» [11].
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: "حديثُ عمر هذا يدلُّ على أنَّ النَّاس إنَّما يُؤتَوْن مِن قِلَّة تحقيق التوكُّل، ووقوفهم مع الأسباب الظاهرة بقُلوبهم ومساكنتهم لها؛ فلذلك يُتعبون أنفسَهم في الأسباب، ويجتهدون فيها غايةَ الاجتهاد، ولا يأتيهم إلاَّ ما قُدِّر لهم، فلو حَقَّقوا التوكُّلَ على الله بقلوبهم، لساقَ الله إليهم أرزاقَهم مع أدْنى سببٍ، كما يسوقُ إلى الطَّير أرزاقَها بمجرَّدِ الغُدوِّ والرَّواح، وهو نوعٌ من الطَّلب والسَّعي، لكنَّه سعيٌ يسيرٌ.
وربما حُرِمَ الإنسانُ رِزقَه أو بعضَه بذنب يُصيبه، وقال عمر: "بين العبد وبين رِزقه حِجاب، فإنْ قَنَع ورضيتْ نفسُه، آتاه رِزقَه، وإنِ اقتحم وهتَك الحجاب ، لم يَزد فوقَ رِزقه" [12]، فيجب على العبد أن يكون توكُّلُه على خالقه ومولاه، وثِقتُه به، ورجاؤه فيه، لا في الأسباب، والأعمال الدنيويَّة.
الرابع: عدم الركون إلى الأسباب، وإنما الاعتماد على مسبِّب الأسباب سبحانه وتعالى لا بأسَ أن يذهب الإنسانُ إذا مرِض إلى الطبيب، ولكن لا يجعل همَّه أنَّ دواء الطبيب في علاجه من مرضِه، وإنَّما هو سبب، والله بيده القُوَى والقُدَر، والشفاء والسُّقم، هذه مِلَّةُ إبراهيم؛ قال الله حكايةً عن خليل الرحمن عليه الصلاة والسلام: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80]، وهنا سُؤال يطرَح نفسه هل للأمانة ارتباط بالعقيدة؟
قال الفضيل بن عِياض رحمه الله: "أصلُ الإيمان عندنا، وفروعه وداخله وخارجه، بعدَ الشهادة بالتوحيد، وبعدَ الشهادة للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم بالبلاغ، وبعدَ أداء الفرائض: صِدقُ الحديث، وحفظ الأمانة، وترْك الخيانة، ووفاء العهد، وصِلة الرحم، والنصيحة لجميع المسلمين، فقيل له: يا أبا علي، مِن رأيك تقول أو سمعتَه؟ قال: لا بل سمعْناه وتعلَّمْناه مِن أصحابنا، ولو لم أجدْه من أهل الثقة والفضْل لم أتكلَّم به" [13]، أين نحن من هؤلاء؟!
روَى أبو نعيم في الحِلية بسنده: كتَب غلام حسان بن أبي سِنان إليه من الأهواز أنَّ قصب السُّكَّر أصابتْه آفة، فاشترِ السكر فيما قبلك قال: "فاشتراه مِن رجل، فلم يأتِ عليه إلا قليلٌ فإذا فيما اشترى ربحُ ثلاثين ألفًا؛ قال: فأتى صاحبُ السكَّر، فقال: يا هذا، إنَّ غلامي كتب إليَّ ولم أُعلمْك فأقلني فيما اشتريتُه منك؛ قال الآخر: قد أعلمتَني الآن وطيبته لك، قال: فرجَع ولم يحتمل قلبُه، قال: فأتاه وقال: يا هذا، إني لم آتِ هذا الأمر مِن قِبل وجهه، فأُحبُّ أن تستردَ هذا البيع؛ قال فما زال، به حتى ردَّه عليه".
وذكَر صاحبُ (الإحياء): "وجاء في سِيرة محمَّد بن المنكدر أنَّه كان له دكَّان يبيع فيه ثيابًا بعضها بخمسة، وبعضها بعشرة، فباع غلامُه في غَيْبته ثيابًا من الخمسيات بعشرة، فلمَّا عرَف لم يزل يطلب ذلك الأعرابيَّ المشتري طولَ النهار، حتى وجدَه، فقال له: إنَّ الغلام قد غلِط فباعك ما يساوي خمسةً بعشرة، فقال: يا هذا، قد رَضِيتُ، فقال: وإنْ رضيتَ فإنَّا لا نرضى لك إلا ما نرضاه لأنفسِنا، فاخترَ إحدى ثلاث خِصال: إما أن تأخذَ ثِيابًا من العشريات بدراهمك، وإما أن نردَّ عليك خمسة، وإما أن ترد بضاعتَنا وتأخذ دراهمك، فقال: أعطني خمسة، فردَّ عليه خمسة، وانصرف الأعرابيُّ يسأل ويقول: مَن هذا الشيخ؟ فقيل له: هذا محمَّد بن المنكدر، فقال: لا إله إلا الله هذا الذي نَسْتسقي به -بدعائه- في البوادي إذا قحطْنا".
وذكر أبو نعيم في (الحلية) عن عبَّاد قال: "بِعْنا جاريةً للحسن بن صالح، فقال: أخبروهم أنها تنخَّمتْ عندنا مرَّةً دمًا"! وعن الربيع قال: "رأيتُ محمدَ بن واسع -زَيْن القرَّاء- يمرُّ، ويعرِض حمارًا له على البيع، فقال له رجل: أترضاه لي؟ قال؟ لو رضِيته لم أَبِعْه".
وأخيرًا أُمنية عمرية:
قال عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه يومًا لمَن حوله: "تمنَّوْا"، فقال بعضهم: "أتمنَّى لو أنَّ لي هذه الدار، مملوءة ذهبًا، أنفقه في سبيلِ الله"، ثم قال: "تمنَّوْا"، فقال رجل: "أتمنَّى لو أنَّها مملوءة لؤلؤًا وزبرجدًا أُنفقه في سبيلِ الله، وأتصدَّق"؛ ثم قال: "تمنَّوْا"، فقالوا: "ما ندري يا أميرَ المؤمنين"، قال عمر: "أتمنَّى لو أنَّ هذه الدارَ مملوءة رجالاً مثل أبي عبيدة بن الجرَّاح" (رواه أبو نعيم في الحلية).
فهذه بعضُ القطرات مِن هذا الخُلُق العظيم التي حاولتُ جمعَها، والنِّكات التي لممتُ أطرافها، والفوائد التي أمعنَتُ النظر في لمِّ أطرافِها، والفرائد التي يسهُل على الناظر فيها استعابُها.
والحمد لله على إتمامه، ثم صلاة الله مع سلامه، على النبيِّ وآله وصحْبه وحِزبه، وكلِّ مؤمن به.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] رواه الإمام أحمد (5/435)، وفي لفظ الأغلوطات، وإسناده ضعيف.
[2] جامع بيان العلم رقم (2038).
[3] الكليات للكفوي (176) بتصرف.
[4] الأمانة في الإسلام وآثارها في المجتمع (ص:6).
[5] تفسير الطبري 19/196
[6] الأخلاق الإسلامية وأسسها (1/646 -647).
[7] "نزهة الأعين النواظر" (1/105، 106) نقلاً من صلاح الأمة للدكتور العفَّاني (12/ 225).
[8] رواه أحمد في مسنده وابن حبان في صحيحه، وإسناده صحيح.
[9] رواه مسلم في صحيحه
[10] فتاوى نور على الدرب (1/364) .
[11] رواه الترمذي وابن ماجة بسند صحيح
[12] جامع العلوم والحكم (2/321 )
[13] رواه البيهقي في "السنن الكبرى" باب في الأمانات (4/321).