أي الفريقين أحق بالأزر

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
أي الفريقين أحق بالأزر
 
أي الفريقين أحق بالأزر؟ آلذين آمنوا ولَبَسوا إيمانَهم بظلم فثلثوا ومثلوا، أم الذين قالوا ربنا الله ثم راموا الاستقامة فجانبوها لأجل جهلهم؟
ليس ما سبق دعوةً إلى التجاهل، وإلى طي دعوة قوم تقديمًا لآخرين، غير أن ثمة أولويات يجدُر بمن تزيا بلباس المصلحين اتباعُها، يقول الشيخ عبد الرحمن السميط إمام الدعاة بأفريقيا ما خلاصته: (قد تخرَّج بعالم المسلمين دعاةٌ كثر، فقهوا وسائلَ الدعوة، غير أنهم لم يُعلَّموا التضحيةَ في سبيل ذلك).
إن شرعتنا هي شرعة التضحية بما يفنى تشوُّفًا لما يدوم ويبقى، والآي الكريمات ملأى والشواهد أكثر من أن تعد وتحصى، وخيار صحب رسول الهدى فقهوا عنه ذلك فكان بثوب من يحكم العرب والعجم ثلاث وعشرون رقعة، وعند من ينتدب لولايتهم ثوب واحد، ولميِّتهم كفنٌ من عشب، ولقدوتهم حجران يربطهما على بطنه إذا اشتد به ألمُ الجوع، بأبي هو وأمي وبنيّ وجميع صحبي.
لقد عاتب القرآنُ خيرَ من وطئ الحصى لتركه الفاضل إلى المفضول، وكلنا يعرف ما الفاضل وما المفضول في قصة الأعمى ﴿ أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ﴾ [عبس: 5 - 9].
نقول لجموع الدعاة ممن تترس ببلاد الصقيع وألفت نفسُه عبقَ الشمال: هم قوم يمجُّونكم، ولا يفتأ الأنَفُ بأفئدتهم ترقى بوائقُه، وهم قومُ سوء بأرض سوء وفتن، وحياتهم ضنكة مكلفة، فلِمَ رميُ العصا بأرضِهم وأرضُ غيرهم أخصب؟
لن أسوق كثيرًا من الأمثلة بين يدي القارئ خلا مثالا واحدًا: إن بأفريقيا ما يزيد على مائتين وخمسين مليون وثني وأكثر منهم نصارى لا يعرفون عن النصرانية إلا رسم الصليب وعصا القساوسة المعقوفة، قوم تكفيهم ابتسامة من مخلص ليسلموا، ليس لديهم علم يمارونك به ولا يريدون، ألا يكفيك بشارةً أن تعلم أن رجلاً واحداً أسلم على يديه ثلاثةُ ملايين منهم؟ أي غنائم أبرد؟ لقد عايشتُ قصصًا يندى لها الجبين عن أناس كنسوا وقار المسلم عن قلوبهم ثم نفخوا على غبار العزة فصار واحدهم مسخاً بلحية.
يقول أحد الإسكندينافيين -وقد بقي من مدة حبسه النذر اليسير بأحد الدول المسلمة-: (لقد منّ الله عليّ بالإسلام في حبسي، وأحمد الله على ذلك، لقد كنت أجلب ما حرم الله إلى داخل البلاد التي أعمل بها، وما شجعني أن ضباط الجمارك كانوا يجدّون عند كل وافد، ولكن حين آتي تفترّ الشفاه عن ابتسامات عريضة وهمهمات متكسرة مفادها أن: (أهلا بك وسهلا).
أين منا فخرٌ كفخر الجاهلي ابن كلثوم في معلقته:






ونشربُ إن ورَدْنا الماء صفوًا
ويشرب غيرُنا كدراً وطينا


إذا بلغ الفطامَ لنا صبيٌّ
تخِرُّ له الجبابرُ ساجدينا







 
لله درُّ ذلك الفتى اليافع الذي سبق درهمُه ألفَ درهم، قدم مطوية قيمتها خمس هللات إلى رجل فلبيني، وقدّم قبلها دعوة صادقة لرب رحيم أن اهدِ عبدَك الضال، ثم كسا شفتيه بابتسامة بيضاء من قلب وجل، وما هي إلا أيام حتى فتح الرجلُ المطويةَ فضولا ليطير قلبه شَعاعاً وليذوب بدنه فيخرج سائلا بين مقلتيه، أطرق إلى الأرض وأطرق، وزاغت عيناه تبحثان بين جنبات حائطه المشقق عمن يخبره أنه كان على صواب، ولكن هيهات، نهض عن أريكته مسرعًا إلى الباب فقابله زملاؤه على عتبته، ظنوا به الشر حين رأوا هيئته، أمسك به أحدهم فصعّد فيه النظر وصوّبه، نظرات زائغة وعيون باكية وكف يرتجف، انفلت وعاد ليخبرهم أنه ذاهب إلى البلاد، وحين سألوه عن السبب قال: لأنقذ أهلي من النار!! ألا ليت شعري هل تمثل قول الشاعر:






ولو أني حُبيتُ الخلدَ فردًا
لما أحببتُ بالخلد انفرادا


فلا هطَلَتْ عليَّ ولا بأرضي
سحائبُ ليس تنتظمُ البلادا







 
سافر وآب بعد عام واحد، قابل أحد المشايخ بمكتب للجاليات، قائلاً: إن الله قد هدى على يديه ثلاث مئة من أهل بيته وأصدقائه، وأنه بصدد بناء مركز إسلامي كبير بمانيلا.
بخٍ بخٍ ليد غضة قدمت هلللاتٍ خمس فنالت بها أجر صلوات قوم وحجهم وزكواتهم وصومهم من دون أن ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، هم وآباؤهم وأحفادهم إلى يوم القيامة.
لقد راعني بأحد مكاتب الدعوة يومًا أن رأيتُ حركة ونشاطًا وترتيبًا لغرفة المدير وأطباق الحلوى والعصيرات تترى، فما هو إلا أن علمت أن (سويدياً) آتٍ ليسلم.
تمنيتُ - وقد اعتصرني الألم - أني لم أرَ ما رأيت، لقد والله عاصرتُ ساعياً للشاهي أسلم فحسن إسلامه وجدَّ في الدرس حتى لكأني أرى علمه في سنتيه يضارع ما لدي، وعاشرتُ أوربياً مرموقاً أسلم وأسلم صلاته إلى مهد النعاس، وحين سؤالي زوجته المسلمة العربية تعلَّلَتْ بأنه لم يعتد ذلك!! لو كان الأمرُ من باب إنزال الناس منازلهم لما تكدر خاطري ولكنها الدنية.
نسيت أن أقول إن السويدي عقب نطقه الشهادتين طالب بورقة من الشؤون الإسلامية تثبت إسلامَه فهو مستشارٌ هندسي بشركة عالمية تعمل بالمشاعر المقدسة وهو بصدد الذهاب إلى هناك؟؟؟
(إنما بعثتم دعاة ولم تبعثوا قضاة) عبارة نطق بها الفاروق وصدق، ليس لنا التنقيب في أفئدة البشر، ولكن لنا البكاء على حالنا كما لنا أن نعدل من مسارنا، لا نريد لعلمنا وعلمائنا أن تصدق عليهم عبارة (وليم شكسبير) واصفاً شعر وجهه: (وفرة في الإنتاج وسوء في التوزيع).
إن تكدس العلم والعلماء بمناطق وندرته بمناطق تنوء بعدد ساكنيها لأمرٌ يستحق التدبر، وإن زهد العلماء عن سكنى الديار المقفرة بغية تعليم أهلها لأمر يستحق التفكر.

شارك المقال

ساهم - قرآن ١