أرشيف المقالات

أنا بين حالين

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
ثلاثة أحرف يسكن فيها شخصان متباينان، لكل واحد منهما باب وطريق.
شخص كبر في نفسه فازدهى بذاته وصفاته، وحقر من حوله، وتعالى عليهم، ظاناً أنه قطعة من القمر وهم قطع من الحجر، فصار ينظر إليهم من وراء الأفق.
وقاس ما عنده من الفضل بما عندهم فرأى كِفّته في الثريا، وكفة غيره تحت أطباق الثرى حتى أضحى فوق النجوم، وبينه وبين ما سواه من البشر مفاوز ومجاهل!
غدًا ينفخ الحروف قائلاً: أنا أقول! أنا أفعل! أنا أملك! كما قال ضلّيل أنا: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52]، ويتباهى كالقائل: {أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} [الكهف:34]، وينسب إلى نفسه ما ليس له ويقول: عندي، كما قال هالكها: {قَالَ إنَّما أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78]، ويحوز ما ليس له، ويقول بين الجموع: لنا، ولي!، كما قال قتيلها: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:51].
أما الناس فلا يرون عند الحقيقة إلا طبلاً منتفخاً يخور وهو فارغ المحتوى، ولو كان في باطنه شيء ما صاح ولا ناح.
ونهايته تعرف من بدايته، فالمتعالي إلى سفول، والفجر الكاذب إلى أفول، والمتشبع إلى فضيحة وخمول، سيخر من ثرياه الكاذبة إلى ثراه، ومن فخامة (أنا) إلى ندامة (يا ليتني): {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا} [الكهف:42]، ومن خطيئة (عندي) إلى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْـمُنتَصِرِينَ} [القصص:81]، ومن ذنب (لي) إلى: {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} [طه:78].
افتخر الأول بازدهار البستان فجوزي بالندم والفقدان، وتباهى الثاني بالترفع بالمال في الأرض على الخلق وكان يظن أنه يمشي على الرؤوس فصار تحت الأقدام {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْـخُسْرَانُ الْـمُبِينُ} [ الحج :11]، وتعالى الثالث بالماء فقبرت فيه روحه وجبروته.
والجزاء من جنس العمل.
أما الشخص الثاني فهو يتفوه بـ (أنا) ولا يزيد على أحرفها نفخاً ولا مداً غير الطبيعي، يصغر عند نفسه لكنه كبير عند الله وعند الناس.
نظر إلى ذاته وصفاته فرأى أنه عبد فاعترف لربه بالعبودية فقال كما قال سيد المتواضعين: «هون عليك فإنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد في هذه البطحاء».
يقول (هذا الشخص الثاني):
أنا المكدي وابن المكدي *** وهكذا كان أبي وجدي [1]
ويقول:
أنا الفقير إلى رب البريات *** أنا المسيكين في مجموع حالاتي
أنا الظلوم لنفسي وهي ظالمتي *** والخير إن يأتنا من عنده ياتي
لا أستطيع لنفسي جلب منفعة *** ولا عن النفس لي دفع المضرات

وليس لي دونه مولى يدبرني *** ولا شفيع إذا حاطت خطيئاتي
إلا بإذن من الرحمن خالقنا *** إلى الشفيع كما قد جاء في الآيات
ولست أملك شيئاً دونه أبداً *** ولا شريك أنا في بعض ذرات
ولا ظهير له كي يستعين به *** كما يكون لأرباب الولايات
والفقر لي وصف ذات لازم أبداً *** كما الغنى أبداً وصف له ذاتي
وينظر إلى جاهه إن اتسع فيقول: {هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل:40]، وينظر إلى ماله إن تدفق وسال فيقول: "اللهم كنت فقيراً فأغناني الله، لا أمنع منه حقاً كان لله"، وينظر إلى قوته وبسطته فيقول: {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي} [الكهف:98]، وينظر إلى جماله وصحته فيتذكر المرض ، والهرم، وحاله بعد ثلاثة أيام في القبر ، وينظر إلى علمه فيقول: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْـحَكِيمُ} [البقرة:32]، ويقول: ذلك {ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} [يوسف:37] ، وكان لسانه لسان محمد بن أبي بكر ابن القيم رحمه الله يوم قال:
بُنيُّ أبي بكر كثير ذنوبه *** فليس على من نال من عرضه إثم
بُنيُّ أبي بكر غدا متصدراً *** تعلّم علماً وهو ليس له علم
بُنيُّ أبي بكر جهول بنفسه *** جهول بأمر الله أنى له العلم
بُنيُّ أبي بكر يروم ترقياً *** إلى جنة المأوى وليس له عزم
بُنيُّ أبي بكر لقد خاب سعيه *** إذا لم يكن في الصالحات له سهم
بُنيُّ أبي بكر كما قال ربه *** هلوع كنود وصفه الجهل والظلم
بُنيُّ أبي بكر وأمثاله غدت *** بفتواهم هذه الخليقة تأتمّ
وليس له في العلم باع ولا التقى *** ولا الزهد والدنيا لديهم هي الهم
بُنيُّ أبي بكر غدا متمنياً *** وصال المعالي والذنوب له همّ
ومن ذا يضارع ابن القيم في علمه وعمله في أيامنا؟!
أخيراً: إن (أنا) في الشخص الأول يرومها مدرجاً للعلياء فكانت مهوى إلى الخفض والذل، وأراد بها الآخر الاعتراف بالحقيقة التي لا تراها خفافيش الكبر فصارت مرقى إلى السؤدد والرفعة «ومن تواضع لله رفعه».
 
عبدالله بن عبده العواضي

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣