أرشيف المقالات

من أقسام خفي الدلالة: الخفي

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
من أقسام خفي الدلالة
الخفي
 
• خفي الدلالة: هو المبهَم الذي خفِيَت دلالته لذاته أو لعارضٍ، مما يُحوِجه للاجتهاد، أو لبيانِ الشَّارع[1]، وتنقسم الألفاظُ غيرُ الواضحةِ إلى أربعةِ أقسام متفاوتة في الخفاء، وكلٌّ منها يقابل قسمًا من أقسام الواضح؛ فالخفيُّ يقابل الظاهر، والمشكِل يقابِل النصَّ، والمجمَل يقابِل المفسَّر، والمتشابِه يقابل المحكَم، وفيما يأتي تفصيلُ كلٍّ منها:
أولاً: الخفي:
• وهو في اللغة: مأخوذٌ من عدم الظهور، والسِّتر والكتمان، وفي الاصطلاح: هو (ما اشتبه معناه، وخفِي مرادُه بعارضٍ غيرِ الصيغة، لا ينال إلا بالطلب)[2]، وهو دالٌّ على معناه اللغويِّ الظاهر بصيغته، لكن خفِي المرادُ منه، لا لنفس صيغتِه، بل لعارضٍ عرَض له في انطباقِه على بعض أفراد مدلوله، فجعل دلالته غير محددة، فيزول خفاؤُه بالنظرِ والتأمُّل[3].
 
• وينتج الخفاءُ عن إطلاق اللفظ الواحد على أفراده، مع اختصاص البعض باسم يميِّزه عن غيره، أو صفةٍ تقترن به، ولم ترِدْ هذه التسميةُ أو تلك الصفة في استعمال ذلك الخفي، فتقع الشُّبهةُ؛ لدخول هذه المفاهيم في عموم اللفظ، مما يتطلَّبُ البحثَ والتأمل.
 
ومثاله: لفظ السارق في قوله تعالى: ﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ﴾ [المائدة: 38]؛ فهو لفظٌ ظاهر فيما وُضِع له، (وهو كلُّ مَن أخذ مالاً منقولاً مملوكًا للغيرِ خفية مِن حِرز مثله)، لكن دلالته غير واضحة على بعضِ أفراده، أو أنواع السارقين، فلا يتضحُ انطباقه عليهم؛ كلفظِ النَّشال، وهو مَن يأخذ مالَ الغير - مع حضور المالك ويقظتِه - بسرعةٍ فائقة، وكذلك لفظ النباش، وهو مَن ينبُشُ القبورَ فيأخذ أكفانَ الموتى، وهو شيء ليس مملوكًا لأحد.
 
وسببُ الخلاف في هذه الألفاظ اختصاصُ كلٍّ منها باسم خاصٍّ في اللغة يُعرَف به، غير اسم السارق.
 
ومِن ثَم؛ فقد رأى أبو حنيفةَ أن النَّباش ليس بسارقٍ؛ فلا تقطع يدُه، ويُكتَفَى في حقِّه بالتعزير؛ (لأنه سرَق من غير حِرز مالاً معرَّضًا للتلف، لا مالك له؛ لأن الميتَ لا يملِك)[4].
 
في حين يرى جمهورُ الأصوليِّين وأبو يوسف أن النَّبَّاش سارقٌ يُطبَّق عليه الحد؛ (لأنه تدرَّع الليل لباسًا، واتَّقى الأعين، وقصد وقتًا لا ناظرَ فيه ولا مارَّ عليه، بمنزلةِ ما لو سرق في وقتِ بروز الناس للعيد، وخُلو البلد من جميعهم)[5]، ومِن ثَم كان معنى السرقة متوفِّرًا فيه، ولفظ السارق في النص شاملاً له؛ فيجبُ تطبيقُ الحدِّ الذي هو القطع.
 
وكذلك النشال، فإن معنى السرقةِ موجودٌ فيه على التَّمام والكمال، على الرغم من تسميتِه باسم غير السارق، بل لعل اختصاصَه بهذا الاسم لزيادةٍ في المعنى، وهو الحِذْق والمهارة في الفعل؛ لأنه إذا كان السارقُ يُسارِق الأعينَ النائمة أو الغائبة، فإن النَّشَّال يُسارِق الأعيُنَ المستيقظة بأن يتحيَّنَ غفلتَها[6].
 
• ومما عرَض له الخفاءُ لفظُ (القاتل) في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا يرِث القاتلُ))؛ فهو واضحٌ ظاهرٌ في دلالته على كلِّ مَن قتل موروثه عمدًا وعدوانًا، وهو المعنَى المتبادر مِن مقصد الحديث، ولكنه خفِي في دلالته على القاتل له خطأً، أو كان القتل حدًّا من جهة القاضي، أو كان القاتلُ غيرَ مكلَّف؛ فإن كلَّ هذه الأوصاف التي لحِقت بعمليةِ القتلِ أوجَدَتْ شُبهةً في شمولِها لفظَ القتلِ المانعِ من الميراث.
 
فالشافعيُّ ذهَب إلى أن كل قتل مضمونه: (فدية، أو كفارة، أو قتل) فهو موجِب للحرمان مِن الميراث - ومن ذلك القتلُ الخطأ - وإلى أنه إذا قتل العادلُ الباغيَ، أو الباغي العادلَ، لا يتوارثانِ؛ لأنهما قاتلانِ، وأنه أقرب لمعنى الحديث[7].
 
في حين ركز الحنفيَّةُ على ركنٍ أساسي في عملية القتل، هو المباشَرة، ثم أحاطوا هذا الركنَ بشروط: الأول: ألا يكون القتلُ عَدْلاً؛ كالقتل قِصاصًا أو حدًّا أو بعُذْر؛ كما في الدفاعِ عن النفس أو العِرض أو المال، والثاني: أن يكون صادرًا من مكلَّف، فإذا توافرت السببيَّةُ المباشرة المصحوبة بهذه الشروط، كانت عمليةُ القتلِ مانعةً من الميراثِ.
 
أما المالكيةُ، فقد نظَروا في عملية القتل إلى معنيين، هما: القصد والعدوان، فإذا كان القصدُ والعُدوان متوفرينِ في عملية القتل، وكان القاتلُ مكلَّفًا، كان مانعًا من الميراث، سواءٌ حصَلت المباشرة أم لم تحصل، ويتَّفقُ معهم الإماميةُ في ذلك.
 
فالخفاءُ العارضُ لبعض أفراد القاتل، مِن انضمام أوصافٍ لتلك الأفراد - كالخطأ والتسبُّبِ وغيرِهما - أدَّى إلى البحثِ والتأمُّلِ للوصولِ إلى المعنى المرادِ[8].
 
فنلاحظ كيف أن الأصوليِّين استقصَوْا ما أمكَن مِن قرائنَ حاليَّةٍ خارج النص؛ لكي يصِلوا إلى المعنى بعد تحليلِه بتلك القرائن وتفسيرِه بها.

[1] تفسير النصوص (1/ 229).

[2] أصول البزدوي (1/ 51).

[3] دراسة المعنى (137).

[4] تفسير القرطبي (6/ 164).

[5] المرجع السابق، نفس الموضع.

[6] شفاء الغليل (71) فما بعدها، أصول الفقه؛ لأبي زهرة (126).

[7] الأم؛ للشافعي (8/ 361)

[8] أصول السرخسي (1/ 167)، والخطاب الشرعي ص (130 - 131).

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير