المسجد دار للإفتاء وبيت للقضاء
مدة
قراءة المادة :
6 دقائق
.
المسجد دار للإفتاء وبيت للقضاءفقد أخرج البخاري من حديث أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه قالُ: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي المَسْجِدِ، دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى جَمَلٍ، فَأَنَاخَهُ فِي المَسْجِدِ ثُمَّ عَقَلَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ؟ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُتَّكِئٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ، فَقُلْنَا: هَذَا الرَّجُلُ الأَبْيَضُ المُتَّكِئُ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: يَا بْنَ عَبْدِ المُطَّلِبِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ:صلى الله عليه وسلم قَدْ أَجَبْتُكَ، فَقَالَ الرَّجُلُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِني سَائِلُكَ فَمُشَدِّدٌ عَلَيْكَ فِي المَسْأَلَةِ، فَلاَ تَجِدْ عَلَيَّ[1] فِي نَفْسِكَ؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ،» فَقَالَ: أَسْأَلُكَ بِرَبِّكَ وَرَبِّ مَنْ قَبْلَكَ، آللَّهُ أَرْسَلَكَ إِلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ؟ فَقَالَ اللَّهُمَّ نَعَمْ.
فقَالَ أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ[2]، آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ نُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ الخَمْسَ فِي اليَوْمِ وَاللَّيْلَةِ؟ فقَالَ اللَّهُمَّ نَعَمْ، قَالَ أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ، آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ نَصُومَ هَذَا الشَّهْرَ مِنَ السَّنَةِ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ، قَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ، آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تَأْخُذَ هَذِهِ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِنَا فَتَقْسِمَهَا عَلَى فُقَرَائِنَا؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ نَعَمْ، فَقَالَ الرَّجُلُ: آمَنْتُ بِمَا جِئْتَ بِهِ، وَأَنَا رَسُولُ مَنْ وَرَائِي مِنْ قَوْمِي، وَأَنَا ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ أَخُو بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ.
وإذا كان المسجد دار إفتاء، فهو أيضًا دار لفض المنازعات بين المتخاصمين، فيأوي إليه الإنسان؛ لأنه يأمَن فيه على نفسه، ويعلم أنه سيأخذ حقَّه الذي له ولا يلحقه ظلمٌ.
ولقد جاء في القرآن الكريم والسنة المطهرة ما يدل على إباحة القضاء في المسجد، فجاء في القرآن بشأن داود عليه السلام، قال تعالى: ﴿ وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ ﴾ [ص: 21، 22].
الإمام القرطبي في تفسيره 15 /180: "ليس في القرآن ما يدل على القضاء في المسجد إلا هذه الآيات، وبها استدل مَن قال بجواز القضاء في المسجد، ولو كان ذلك لا يجوز كما قال الشافعي، لما أقرهم داود عليه السلام على ذلك ويقول: انصرفا إلى موضع القضاء"؛ اهـ.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده يقضون في المسجد، فقد أخرج البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رجلُا قال: " يا رسول الله، أرأيت رجلًا وجد مع امرأته رجلاً أيقتله؟....
الحديث، وفيه فتلاعنا في المسجد وأنا شاهد".
• وأخرج البخاري عن عبدالله بن كعب بن مالك عن كعب أنه تقاضى ابن أبي حدرد دينًا كان له عليه في المسجد، فارتفعت أصوتهم حتى سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته، فخرج إليهما حتى كشف سجف[3] حجرته، فنادى يا كعب، قال: لبيك يا رسول الله، قال: ضَعْ من دينك هذا، وأومأ إليه أي الشطر، قال: لقد فعلت يا رسول الله، قال قُم فاقْضه".
• وأخرج البخاري أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد، فناداه فقال: يا رسول الله، إني زنيت فأعرض، فلما شهد على نفسه أربعًا، قال: أبك جنون؟ قال: لا، قال: اذهبوا به فارجموه ".
وقد ذكر الإمام ابن حجر رحمه الله-في الفتح أن عمر رضي الله عنه لاعن عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال ابن حجر: هذا أبلغ في التمسك به على جواز اللعان في المسجد، وإنما خص عمر المنبر؛ لأنه كان يرى التحليف عند المنبر أبلغ في التغليظ، وقضى مروان على زيد بن ثابت باليمن عند المنبر، وقضى شريح والشعبي ويحيى بن يعمر في المسجد، فعن إسماعيل بن أبي خالد قال: رأيت شريحًا يقضي في المسجد وعليه برنس خز، وقال عبدالرازق: أنبأنا معمر عن الحكم بن عتيبة أنه رأى شريحًا يقضي في المسجد،
وقال عبد الله بن شبرمة رحمه الله: رأيت الشعبي جلد يهوديًّا في قرية في المسجد.
وعن عبد الرحمن بن قيس رحمه الله قال: رأيت يحيى بن يعمر يقضي في المسجد.
وأخرج الكرابيسي في(أدب القضاء) من طريق أبي الزناد قال: كان سعد بن إبراهيم وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وابنه ومحمد بن صفوان، ومحمد بن مصعب بن شرحبيل - يقضون في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال ابن بطال رحمه الله: استَحبَّ القضاء في المسجد طائفة، وقال مالك: هو الأمر القديم؛ لأنه يصل إلى القاضي فيه المرأة والضعيف، وإذا كان في منزله لم يصل إليه الناس لإمكان الاحتجاب".
[1] فلا تجد عليَّ: لا تغضب عليَّ.
[2] أنشدك: أي أسألك بالله.
[3] سجف: بكسر المهملة وسكون الجيم: هو الستر، وقيل أحد طرفي الستر المفرج.