الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
مدة
قراءة المادة :
11 دقائق
.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكرالحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
وبعد: فإنَّ مِن أفضل الأعمال وأحبِّها إلى الله، الأمرَ بالمعروف، والنهيَ عن المنكر؛ قال تعالى: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [آل عمران: 110].
قال عمر رضي الله عنه: "مَن سَرَّهُ أن يكونَ مِن هذه الأُمَّةِ، فليؤدِّ شرطَ اللهِ فيها"[1].
وقال الإمامُ القرطبي: "في هذه الآيةِ مدحٌ لهذه الأمَّة ما أقاموا ذلك واتَّصفوا به، فإذا تَركوا التغييرَ، وتواطَؤُوا على المنكر، زال عنهُمُ المدحُ، ولحِقَهُمُ اسمُ الذمِّ، وكان ذلك سببًا في هلاكهم"[2].
وأخبر سبحانه أن الناجين مِن الأمم هم الآمرون بالمعروف، والناهون عن المنكر؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ﴾ [هود: 117]، وقال تعالى: ﴿ وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ﴾ [الأعراف: 163 - 166].
وقصة اعتدائهم في السبت: أنهم نُهُوا عن الصيد في يوم السبت، فاحتالوا على ارتكاب المحرَّم بأنْ جَعَلُوا الشِّباكَ يومَ السبت، وجمعوا السَّمَكَ يوم الأحد، وظنُّوا أنهم يَسْلَمون من الإثم.
قال ابن عباس رضي الله عنه: "كانوا أثلاثًا: ثُلُثٌ نَهَوْا، وَثُلُثٌ قالوا: لِمَ تَعِظون قومًا اللهُ مهلكهم؟ وثُلثٌ أصحاب الخطيئة، فما نجا إلا الذين نَهوا، وهلك سائِرُهُم"[3].
وبيَّن سبحانه أنَّ ترْك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر موجِبٌ لسخطه ولعنته؛ قال تعالى: ﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [المائدة: 78، 79].
عن أبي سعيد الخُدري رضي الله عنه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن رأى منكم منكرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فإن لم يستطع فبلسانه؛ فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان))[4].
وهذا الحديث أصلٌ في تغيير المنكر؛ ولذلك عدَّه أهلُ العِلم من الأحاديث التي عليها مدار الدِّين، حتى قيل: إنه شطر الشريعة، وقيل: إنه الإسلام كلُّه؛ لأن الإسلام إما معروف يجبُ الأمْر به، أو منكر يجبُ النهيُ عنه، وفيه بيانُ مراتبِ تغيير المنكر؛ وهي: الإنكار باليد واللسان، وهذا يجب بحسب القدرة والطاقة، وألا يترتَّب عليه منكرٌ أكبرُ منه.
المرتبة الثالثة: الإنكار بالقلب، يَستلزم مِن العبد مُفَارقةَ المكان الذي فيه المنكر؛ قال تعالى: ﴿ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ﴾ [النساء: 140].
قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله: "مَن لم يَكُنْ في قلبِه بغضُ ما يُبغِض اللهُ ورسولُه مِن المنكر الذي حرَّمه، مِن الكُفر، والفسوق، والعصيان، لم يكن في قلبِه الإيمان الذي أوجَبَه اللهُ عليه".
ا.
هـ.
وقال أيضًا: "وإذا كان جِمَاع الدِّين وجميع الولايات، هو أمْر ونهي، فالأمر الذي بَعَث اللهُ به رسولَه هو الأمرُ بالمعروف، والنهيُ الذي بَعَثه به هو النهيُ عن المنكر، وهذا نَعْتُ النبيِّ والمؤمنين، قال تعالى: ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ﴾ [التوبة: 71]، وهذا واجِبُ كلِّ مسلمٍ قادر، وهو فرضٌ على الكفاية، ويَصير فرضَ عيْن على القادر الذي لم يَقُم به غيرُه"[5].
والمنكرات إذا انتشرتْ ولم تُغيَّر، كان ذلك نذيرَ شرٍّ وهلاك للأمَّة؛ عن زينب بنت جحش رضي الله عنها؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعًا يقول: ((لا إله إلا الله، وَيْلٌ لِلعرب مِن شَرٍّ قد اقترب! فُتح اليومَ مِن ردم يأجوج ومأجوج مثلُ هذه))، وحلَّق بإصبعيه الإبهام والتي تليها، فقالت زينب بنت جحش: فقلتُ يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: ((نعم، إذا كثُر الخَبَثُ))[6].
وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: "يا أيها الناس إنكم لتقرؤون هذه الآيةَ: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ﴾ [المائدة: 105]، وإني سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الناس إذا رأَوُا الظالمَ فلمْ يأخذوا على يديه، أوشكَ أن يَعُمَّهم اللهُ بعقاب))[7].
قال ابن القيم رحمه الله: "إنكار المنكَر له أربعُ درجات: الأولى: أن يزول ويخْلُفَه ضدُّه؛ أي: المعروف، الثانية: أن يقِلَّ - أي: المنكر - وإن لم يزُل مِن جملته، الثالثة: أن يخْلُفَه ما هو مثلُه، الرابعة: أن يخْلُفَه ما هو شرٌّ منه، فالدرجتان الأوليان مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة محرَّمة"[8].
ومن النماذج المشرِقة للآمِرِين بالمعروف والناهين عن المنكر، ما نقله الذهبي في "السير" عن شُجاع بن الوليد، قال: كنتُ أحجُّ مع سفيان الثوري، فما يَكاد لسانه يفتُر مِن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ذاهبًا وراجعًا[9].
ويُنقَل عنه أنه كان يقول: إني لأرى الشيء يجب عليَّ أن أتكلَّم فيه، فلا أفعل؛ فأبول دمًا[10]، ونقل الذهبي عن الحافظ عبد الله المقدسي؛ أنه كان لا يَرى منكرًا إلا غيَّره بيده أو بلسانه، وكان لا تأخذه في الله لومةُ لائم، قد رأيتُه مرةً يهريق خمرًا، فجبذ صاحبُه السيفَ، فلم يَخف منه، وأخذه مِن يده، وكان قويًّا في بَدَنِه، كثيرًا ما كان بِدِمَشق يُنكِر، ويَكسِر الطنابير والشَّبَّابات[11].
قال الإمام النووي: "واعلَمْ أن هذا الباب - أعني: باب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر - قد ضُيِّع أكثرُه مِن أزمان متطاولة، ولم يَبقَ منه في هذا الزمان إلا رسومٌ قليلة جدًّا، وهو بابٌ عظيم، به قوامُ الأمر وملاكه، وإذا كثُر الخبثُ، عمَّ العقابُ الصالحَ والطالحَ، وإذا لم يَأخذوا على يد الظالم أوشك أن يَعُمَّهم اللهُ تعالى بعقابه: ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النور: 63].
فينبغي لطالب الآخرة، والساعي في تحصيل رضا الله - أن يَعتنيَ بهذا الباب، فإنَّ نَفْعَهُ عظيمٌ، ولا سيما وقد ذهب معظمُه، ويُخْلص نيَّته ولا يَهَابَنَّ مَن يُنكر عليه لارتفاع مرتبته؛ فإنَّ الله تعالى قال: ﴿ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ﴾ [الحج: 40]، وليعلَمْ أن الأجْر على قدْر النَّصَب.
ولا يُتَاركُه أيضًا؛ لِصداقته ومودَّته، وطلَب الوجاهة عنده، ودوام المنزلة لديه، فإنَّ صداقته ومودَّته تُوجِبُ له حُرْمَةً وحَقًّا، ومن حقِّه أن ينصحه ويهديَه إلى مَصالحِ آخرته، ويُنقذه مِن مَضارِّها، وصديقُ الإنسان ومُحبُّه هو مَن سعى في عمارة آخرته، وإنْ أَدَّى ذلك إلى نقص دنياه..." إلى آخر ما قال رحمه الله[12].
والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] "تفسير ابن كثير" (1/ 396).
[2] "الجامع لأحكام القرآن" (4/ 173).
[3] "تفسير ابن كثير" (2/ 259)، وقال: إسناده جيد.
[4] "صحيح مسلم" (1/ 69)، برقم: (49).
[5] "الفتاوى" (28/ 65 - 66).
[6] "صحيح البخاري" (2/ 458)، برقم: (3346)، و"صحيح مسلم" (4/ 2208)، برقم: (2880).
[7] "سنن أبي داود" (4/ 122)، برقم: (4338).
[8] "إعلام الموقعين" (3/ 4، 5).
[9] "السير" (7/ 259).
[10] "السير" (7/ 259).
[11] "السير" (21/ 454).
[12] "شرح صحيح مسلم"؛ للإمام النووي (1/ 24).