التنويري الليبرالي المسلم.. وخيانة المجتمع
مدة
قراءة المادة :
7 دقائق
.
بداية لا أعرف منَ هو المسلم الليبرالي، ولا أُسلِّم بوجوده؛ لأنه -عند التحقيق والتمحيص- لا وجود له، وهو بمثابة عنقاء مغرب ونحوها مما لا وجود له، والذي أؤمن به أنه لا يوجد مسلم كامل الإسلام يكون ليبراليًّا كامل الليبرالية، ولا يوجد ليبرالي كامل الليبرالية يكون مسلمًا كامل الإسلام، فمن زاد حظه من التحقُّق بالإسلام، نقَص حظه من التحقق بالليبرالية، والعكس صحيح، ولعلي أُفرد مقالة مستقلة لهذا الموضوع، لكني أتناول الموضوع هنا من باب التنزُّل والتسامح في المسمَّيات، وأن أُناسًا يزعمون أنهم مسلمون ليبراليون، وقد استطاعوا الجمع بين الإسلام الصحيح والليبرالية الحقَّة في قلب واحد وعقل واحد، وفكرٍ واحد، دون أن ينقص هذا من إسلامهم أو ليبراليَّتهم شيئًا..!
فإلى هؤلاء ومعهم يكون هذا الحديث، فأقول:
يبدو للمتأمِّل أن تلك الطائفة الليبرالية المسلمة، والتي تنتشر في دنيا الثقافة والإعلام وتوجيه الرأي العام قد وقَعت في خيانة عظمى لمجتمعها الذي تعيش فيه، وبيان ذلك أن الإنسان ومصلحة الإنسان هو محور الفكرة الليبرالية في جوانبها المختلفة، ومن هنا يرفع الليبراليون شعارات تؤكِّد هذا المعنى وتُرسِّخه؛ مثل: "الإنسان أولاً"، أو كما يقول ملاحدة الليبراليين: "لا إله إلا الإنسان"، والحاصل أن الليبرالية تقدِّم مصلحة الإنسان وتَعتبرها فوق كل مصلحة واعتبار، ولأجل ذلك أطلَقت يَدَيْه تحت مسمَّى الحرية الشخصية في ممارسة كثير من الأمور التي قد لا يَرتضيها الدين أو المجتمع، ولسنا هنا في معرض الحديث عن هذه الأمور، لكننا نتكلَّم عن محورية الإنسان وأهميَّته وتقدُّمه في الفكرة الليبرالية..
فإذا استحضرنا هذه الأهمية والمحورية التي تصل إلى موضع التقديس في المنهج الليبرالي، واستحضرنا دور التنويري الليبرالي المسلم، الذي من المُفترض أن ليبراليَّته تدعوه إلى هذه المحورية والتقديم للإنسان ومصلحته ظهر لنا أنه يمارس دورًا أقل ما يقال عنه: (إنه خيانة عظمى) تُجاه مجتمعه، فإذا كانت الليبرالية -على ما يترشَّح من كلام أساطينها ومُنظِّريها- قد وُجِدت لترفع كل القيود أمام الإنسان؛ ليستمتع بملذَّاته وشهواته الحسية والمعنوية، ويَنعم بها دون تشويش وتنغيصٍ، أو حيلولة من قيود مجتمعية أو دينيَّة أو عُرفية، فالذي كان يجب على المثقف المسلم الليبرالي -الذي يزعم أنه يؤمن بالله واليوم الآخر والجنة والنار- أن يُساعد أفراد مجتمعه على الوصول إلى الغاية القصوى من التنعُّم والتلذُّذ، وهذا التنعُّم طبقًا لِما يؤمن به -إن كان صادقًا في زعْمه- لا يكون إلا في الآخرة؛ حيث الجنة ُ والنعيم المطلق الأزلي الكامل من جميع الوجوه، الذي لا يَعتريه نقص بوجه من وجوه النقص، أما الدنيا فهي ليست مكانًا للتنعُّم والتلذُّذ والاستمتاع بالشهوات، فلا يُؤخذ من ذلك إلا بالقدر الذي يساعد النفس على الوصول إلى نعيم الآخرة السرمدي.
لكننا إذا نزَلنا إلى أرض الواقع، وجدنا التنويري الليبرالي المسلم في مجتمعاتنا يُمارس دورًا يناقض هذا الدور تمامًا، ويسعى بكل ما أُوتي من قوة لأنْ يُبعد الناس عن نعيم الجنة الأُخروي، ويُقربهم من العذاب المقيم في نار جهنم، بوعي أو بدون وعي؛ ذلك أنه يستحضر النموذج الليبرالي الغربي، وهو في أصله يقوم على أساس إلحادي لا مكان فيه للجنة والنار، ومن ثَمَّ يدعو إلى إطلاق أيدي الناس في الشهوات تحت مسمَّى الحريات الشخصية، وهذا إن ساغ وجاز لليبرالي الغربي؛ لأن إيمانه بالآخرة ضعيف أو مُنعدم، فكيف يسوغ ويجوز لليبرالي مسلم يَفرض عليه دينه الذي يزعم الإيمان به أن يجانب الشهوات المحرَّمة وألا يَقربها، وإلا فمصيره إلى النار ؟ الليبرالي المسلم يسعى بكل طاقته لأنْ تتحرَّر المرأة من حجابها الشرعي، ويخوض حروبًا من أجل سفورها واختلاطها بالرجال، ومساواتها بالرجل في الميراث والولاية العامة ونحو ذلك، وهو يعلم أن دينه الذي يزعم أنه من أكثر الناس إيمانًا به، قد فرض عليها الحجاب ونهاها عن السفور والتبرُّج والاختلاط، وتوعَّدها على المخالفة بالنار..
كما يعلم أن دينه قد فرَّق بينها وبين الرجل في الميراث والولاية العامة، كما فرَّق بينهما في الواجبات والمسؤوليات، لكن صاحبنا يُصِرُّ على أن أي تَفرقة هي محض ظلم وميراث جاهلية، ويظل يُدبِّج المقالات ويَعقد المؤتمرات، ويُؤلف الكتب؛ لتصل المرأة المسلمة إلى نظيرتها الغربية؛ مهما كان عند المنظومة الغربية من مخالفة صريحة لتعاليم الدين الذي يزعم ذلك الليبرالي التنويري أنه يُؤمن به.
يعلم التنويري الليبرالي المسلم أن دينه -الذي يزعم أنه يؤمن به- قد حرَّم شرب الخمر وبيعها وشراءها، وتوعَّد على شربها باللعن والعذاب الأُخروي، ومع ذلك يُنَظِّر -جَهرة إن استطاع، وسرًّا إن لم يستطع- لضرورة الترخيص لمحلات بيع الخمور والبارات، وأن التصدي لذلك تضييق على الحريات العامة، والزنا في دين المثقف الليبرالي المسلم محرَّم وهو من كبائر الذنوب ، وتُوُعِّد فاعله بالعذاب الأليم في الآخرة، ومع ذلك فهو يريد من مجتمعه ودولته أن تُبيح ذلك ولا تُجرِّمه، ولا تُعاقب عليه ما دام بالتراضي بين الطرفين؛ لأنه لا يجب الحَجْر على الحريَّات!
والمثقف الليبرالي المسلم يرى في الوعظ والتذكير بالآخرة والجنة والنار -والذي هو من صلب دينه- خطابًا غير مناسب للغة العصر، وأنه خطاب رجعي لا بد من تطويره، بحيث لا يكون فيه ذكر لشيء اسمه عذاب القبر أو حيَّات جهنم، وأن تخويف الناس من ذلك استغفال لهم ولَعِب بعقولهم..
إن الأمثلة في ذلك كثيرة تفوق الحصر، وموقف التنويري الليبرالي المسلم واحد لا يتغيَّر، وهو: العمل على نشْر قِيَم الليبرالية الغربية التي ينتمي إليها فكريًّا، والتي تتعارض في كثير من معاييرها مع ما جاء به الإسلام، الذي هو استسلام وخضوع لأوامر الله تعالى كلها، صغيرها وكبيرها، والرجوع لشريعته باعتبارها معيارًا للجائز والممنوع، والحق والباطل، ثم في الآخرة يكون الثواب والعقاب الذي يُقَدَّر بالامتثال للمأمورات والابتعاد عن المنهيات.
وأنت ترى أن التنويري الليبرالي المسلم ليَتَّخذ مسألة المأمورات والمنهيات وراءه ظِهريًّا، ولا يحتكم إليها إلا إذا وافَقت القيم الليبرالية التي يؤمن بها، فيَستدل على صحة هذه بتلك، ولا يَعنينا أنه يتولَّى من أمر نفسه ما يتولَّى، لكن ما يَعنينا أنه يحارب ليلَ نهار من أجْل نشْر فكره هذا في أبناء مجتمعه، بل بعضهم لا يجد حرَجًا في نشره بالحديد والنار بأيدي النُّظم العلمانية ؛ لكونه يظنُّه سفينة النجاة من التخلف الاقتصادي والتكنولوجي، ولا ريب أن في نشْر قِيَمه تلك زحزحة للناس عن قِيَم دينهم، وعمَّا خُلِقوا لأجله من عبادة ربهم، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وهذه الزحزحة توجِب للناس استحقاق عذاب ربهم وغضبه، وتَحرمهم من نعيمه وجنته ورضاه، وكل ذلك مما يزعم التنويري الليبرالي المسلم أنه يؤمن به ويَدين به، أفلا يكون ذلك التنويري الليبرالي المسلم قد خان مجتمعه وشعبه؛ حيث دعاهم إلى ترْك ما فيه نجاتهم ونعيمهم، وأغراهم بالتلبُّس بما فيه عذابهم وحِرمانهم؟!
أليست هذه خيانة ما تَعدلها خيانة، وجناية ما تعدلها جناية؟
علي حسن فراج