أرشيف المقالات

دار مريم بنت عمران نقطة مضيئة

مدة قراءة المادة : 5 دقائق .
دار مريم بنت عمران نقطة مضيئة
 
تَناهَى إلى سمعي قصَّةٌ جميلة، فأردتُ لها الشيوع والانتشار؛ لِمَا رأيتُ فيها من خير، ولو أنَّ لي صوتًا يصِل إلى زوايا الأرض لصَدحْتُ بها إلى كلِّ النَّاس؛ آملًا أن تصِل إلى مسامعهم جميعًا.
 
تدُور أحداثُ القصة في الرياض، وأنا لستُ من الرياض، ولكنَّه حديثٌ أتاني منها، فأثَّر بي وشدَّني، قصَّةٌ لِبِناءٍ، وما أكثرَ الأبنيةَ في مُدننا وقُرَانا! وقد توجَّهنا إلى الدنيا نُنافس فيها في البناء والصُّروح، وفي العُلُوِّ أحيانًا.
 
إنّه مِن الخارج ككلِّ الأبنية المجاورة له، بناءٌ طابقيٌّ مؤلَّفٌ مِن أدوار، دار ككلِّ الدُّور المجاوِرة في الشكل، لكنَّه يختلف في المحتوى.
 
هذا البناء الذي أحدِّثكم عنه تبرَّع به أحد أهل الفضل، جزاه الله خيرًا، وجزى اللهُ خيرًا كلَّ صاحب فضل ومعروف، هذا البناء تجرِبةٌ ناجحة، تملأ صُدورَ المؤمنين عِزَّةً بدينهم، وتملأ صُدورَهم وعُقولهم أملًا بالخير القادم.
 
إنَّه أُنموذج لِصَفوةٍ من النساء عِشْنَ في هذا الزمن ولاءً لله ولرسوله، ولنَشْر كتابه ونشر سُنَّة نبيِّه، لا يُذكر في هذا البناء إلَّا كلامُ الله وكلامُ رسوله.
 
هذه أمُّ فُلان نذرتْ نفسَها لخدمة دِين الله، ولتعليم كتابه، وهذه أمُّ فلان، وأم فلان، وأنعِمْ بهنَّ مِن والِدَات، وأنعِم بها مِن نشأة، وأنعِم بهنَّ من مسلمات، وأنعم بهن من آنسات سيِّدات، فاضلات عابدات قانتات!
 
هذه السيدة مدرِّسة مِن سوريا، وهذه الأخت الفاضلة مِن اليَمَن، وتلك مِن السودان، والقائمة تستمِرُّ؛ من السعودية، ومن غيرها، نساءٌ تعَمْلَقْن في خدمة كتاب الله في زمن الدِّرهم والدِّينار، نساءٌ يَخرجن مِن بيوتهنَّ إلى هذه الدَّار الَّتي رتَّبوها ونظَّموها أيَّما ترتيب، يُعلِّمْن النشْءَ الصغارَ مِن بناتنا وأبنائنا كتابَ الله؛ ((خيرُكم مَن علَّم القرآن وتعلَّمه)).
 
بالإضافة لدار للحضانة تَجلب معهن الأمهاتُ أبناءَهن الصغار، ولكنْ للدَّار حجْمٌ وإمكانية؛ فَعَددُ الأماكن المخصَّصة لاستيعاب الطلاب محدود، وهي تعمل بالطاقة القُصوى، يُسجَّل طالِبٌ فيها، ويُرفض مئات؛ لا لشيءٍ، إلَّا لأنه لم يعُد هناك أمْكِنة، فهل ضاقت إمكاناتُنا كأمَّة عن تأمين أمْكِنة؟! والدالُّ على الخير كفاعله.
 
يُقِيمون في الدار طبقًا خيريًّا كل أسبوع، تقوم به كل مدرِّسة وطالبة - إنْ رَغِبَتْ - بتحضير ما تظنُّ أنَّه تبرُّع، فيه مِن حلوى أو طعام، فيُعرض في الدار، ويُباع للطلَّاب والمدرِّسات؛ هذه القطعة بريال، وهذه الحلوى بريالين، وهذه بثلاثة، ولِمَن يعُود الثمن؟ تصوروا أيها السادة، إنَّه يعود رافدًا للدار!
 
في الدار سيَّارة تُقِلُّ الطلَّابَ إلى بيوتهم، والمدرِّساتِ مِن وإلى مسكنهم، بارك الله في هذه الدار، وحَمَى إدارتها ورُوَّادها وسيَّارتها.
حتى كبيرات السِّنِّ لهنَّ نصيب في هذه الدار، نساءٌ في الأربعينات، بل وفي الخمسينات وربما جاوزن الستينات، لا يَعْرفن الكتابةَ ولا القراءة، وإذا بهن بعد سَنة أو سَنتين أو ثلاثة مِمَّن يحفظن أجزاءً من كتاب الله.
 
هذه الدار في عُرْفِ اليوم مشروعٌ عامٌّ، أمَّا ذهابي إلى مكتبي وعملي، وذهابُك إلى مكتبك وعملك، فهو مشروع خاصٌّ، وشتَّان بين مَن يعمل لأمَّته، وبين مَن يعمل لنفسه!
 
تبعُد هذه الدار عنِّي آلاف الكيلومترات، ولكنني أُبْصرها بعين العقل - نقطةً مضيئةً في سماء الأمَّة، وأتمنَّى أن تتكاثر إلى نقاط مضيئة تعُمُّ الرياض، وتعُمُّ البلاد، وتعُمُّ كلَّ بلاد الأمَّة وأمصارها.
 
الدار نجاح حقَّقتْه نخبة من النساء والسيِّدات، فهل تُريد لهذا الخير أن يَنتشر؟ هل تريد لهذا المشروع أن يعُمَّ؟
أيها الأخ الكريم، أينما كانت هذه الدُّور وأمثالها تدعونا جميعًا، فهل نُلَبِّي الدَّعوة؟ نُلَبِّي النداء؟
تدعو الزوج لأَنْ يدفع، ويَشُدَّ على يد زوجته المتعلِّمة؛ لتكون إحدى معلِّمات الدار.
وتدعو الأهل لأن يرسِلن أبناءهن؛ ليكونوا طلَّابًا في هذه الدار.
وتدعو صاحب العقار لأنْ يُساهم في بناء دار كهذه الدار.
وتدعو صاحب المال لأن يتقرَّب إلى الله بمال، يكُون أحوجَ ما يكون إليه يومَ يقُوم الناسُ لربِّ العالمين.
وتدعو الحاكم للمساهمة في تيسير بناء دُور كهذه الدار.
وتدعو التاجر إلى ربح لا يُقَدَّر بثمن، إذا ما ثمَّر بعضَ ماله فيها.
 
في الحقيقة، نجاح الدار كرامة، نعم كرامة؛ لأن هذا النجاح بإمكاناتٍ متواضعة، نجاح الدار نجاحٌ لكلِّ مَن ينتمي إلى هذا الدِّين، فبارَكَ اللهُ في العامِلين والقائمين على هذه الدار، وجزاهم خيرًا.
 
ولن يُعْدَم السَّاعون الطيِّبون الخيِّرون طرُقَ الوصول إلى هذه النقطة المضيئة؛ لتكُون نقاطًا مضيئةً، بل ولِتُصبح نورًا لنا في حياتنا.
 
هنا ثمِّروا أموالكم، هنا ارتَقُوا بأبنائكم وأنفسكم، أمَا سمعتم قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ﴾ [الأنعام: 153].
ختامًا، أقول ما قال الشاعر:






يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَبْدُوا ذَاتَ بَيْنِكُمُ
لَا يَسْتَوِي عِنْدَ رَبِّي الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ






والصِّدْق ما جاء به محمد بن عبد الله صلَّى الله عليه وسلَّم، والكذب ما سِواه، بارَكَ الله لنا في ديننا ودُنيانا.
 
بارك الله في الحنيفيَّة السَّمحاء؛ فيها التسهيل والتيسير، وجعَلَنا مِن عباده الصالحين.

شارك الخبر

المرئيات-١