الهجرة وأُسس اختيار الأفراد فيها
مدة
قراءة المادة :
7 دقائق
.
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله أجمعين، ومن اهتدى بهديه وسار على دربه إلى يوم الدين أما بعد:فمن المعلوم أن أي بيت يبنى لا بد له من أساس يحفر ليدلَّ على عمق قوة هذا الأساس، حتى يرتفع البنيان ويعلو غير آبه بالتغيرات المناخية التي تطرأ عليه، وما ذاك إلا لقوة أساسه ومتانة بنائه وقد تصاحب عملية التأسيس والبناء آلات للحفر وأخرى لخبط المواد الإنشائية، فهي تساهم في إتمام عملية البناء والتأسيس، لكن يتخلى عنها لاحقا إذ لا تمثل النواة الحقيقية للتأسيس، إنما هي عوامل مساعدة في هذه المرحلة.
وكذا كانت الهجرة النبوية أساسًا لبناء الدولة الإسلامية، هذه الهجرة التي قادها وأسس بناءها رسول الله صلى الله عليه وسلم بوحي من الله تعالى، ومن أهم عوامل إنجاح الهجرة بعد معونة الله عز وجل هو الاختيار الصحيح للأفراد الذين سيقومون بحماية مشروع الهجرة، فمن الأفراد من كان أساسا للبناء وجزءً لا يتجزء منه، كـ(أبي بكر، وعلي رضي الله عنهما) ومنهم من كان وجوده كوجود آلات البناء التي لا تدخل في أساسه كـ(عبد الله بن أريقط) دليل الصحراء وكان رجلا مشركًا..
فأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا هم حجر الأساس لخريطة الهجرة، ومهمة العبور من مكة إلى المدينة، يقول ابن مسعود: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ فَوَجَدَ قَلْبَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَاصْطَفَاهُ لِنَفْسِهِ، وَابْتَعَثَهُ بِرِسَالَتِهِ، ثُمَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ بَعْدَ قَلْبِهِ فَوَجَدَ قُلُوبَ أَصْحَابِهِ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ بَعْدَ قَلْبِهِ، فَجَعَلَهُمْ وُزَرَاءَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُقَاتِلُونَ عَلَى دِينِهِ، فَمَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّه حَسَنٌ، وَمَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ سَيِّئًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ سَيىء" (الرواية ذكرها الرازي في تفسيره الكبير سورة القارعة)، (رواه البخاري ومسلم باب: كيف بدء الوحي).
فتطلب الأمر من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطي لكل فرد من أفراد الهجرة دوره المناسب على أسس رصينة من الكفاءة والأمانة والقوة والشجاعة والإقدام، فأولهم الصديق رضي الله عنه، رفيق النبي وصاحبه في الهجرة أختاره النبي لصحبته من بين كل الصحابة ، قالت أمنا عائشة رضي الله عنها: "كان لا يخطئ رسول الله أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار، إما بكرة وإما عشية، حتى إذا كان اليوم الذي أذن فيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة والخروج من مكة بين ظهراني قومه، أتانا رسول الله بالهاجرة -الهاجرة: نصف النهار عند زوال الشمس إلى العصر-، فلما دخل تأخر أبو بكر عن سريره، فقال رسول الله له: «أخرِجْ عني مَنْ عندك فقال يا رسول الله وما ذاك فقال إنه قد أذن لي بالخروج والهجرة»، قالت: فقال أبو بكر: «الصحبة يا رسول الله؟ قال: الصحبة» قالت فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أحداً يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ" ( السيرة النبوية لأبن كثير:2/233، 234)، فاختار أبا بكر لأنه أقرب شخص للنبي وأحبه له يحمل قلباً رحيماً وطاعة للنبي صلى الله عليه وسلم في منشطه ومكرهه..
وأما علي رضي الله عنه: فقد اختاره النبي صلى الله عليه وسلم ليبيت مكانه في فراشه، وكان رضي الله عنه.
صاحب قوة وصلابة وجأش، لا يخيفه مكرهم، ولا يزعزعه تجمعهم، وكان مستعداً للتضحية، لا يستطيع أحد إيذاءه لأن أباه هو أبو طالب سيدهم وكبيرهم، فلو لم يصلح لهذه المهمة لاختار بدلاً عنه آخرَ لكن لكل مهمة رجالٌ ولكل مقام مقال..
وكان الرجل الثالث هو: عبد الله بن أبي بكر يبات عندهما فيدلج منهما بسحر فيصبح في قريش كأنه بائت، وقد اختير لهذه المهمة وهي أنه إن سمع أمراً به يعيه فيأتيهما بخبره ليلاً، وسبب اختياره أنه ذو أمانة وثقة وهو شاب: (مستطيع، لَقِنٌ، فاهمٌ لما سمعه، ثقف) -أي ذو فطنة وذكاء-.
أما الرجل الرابع فهو: عامر بن فهيرة وهو مولى أبي بكر وكان يرعى عليها فيبيتان في رسل حتى ينعق -أي يصيح- بها في غلس -ظلمة آخر الليل- فعل ذلك في كل ليلة من الليالي الثلاث وهم في الطريق.
أما الرجل الآخر فهو: عبد الله بن أريقط وهو رجل مشرك من بني الديل، لكن النبي انتفع منه واستأجره ليدله على الطريق، لماذا؟ لأنه كان خبيراً بطرق الصحراء، لم يستأجره لأنه مشرك أو لسبب آخر، إنما استأجره لأن مصلحة الدعوة متحققة في هذا وللمفسدة المنتفية في دفع الأذى عن المؤمنين والمهاجرين، فضلاً عن الاحترام الواضح من النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الاختصاص، وفعلاً سلك بهما طريقاً غير معهودة ليخفي أمرهما عمن يلحق بهم من كفار قريش.
وأما أسماء فلا بد أن نعرف أن للنساء دوراً عظيماً في نصرة الدعوة وإمامها عليه الصلاة والسلام، فكانت حاملة التموين من مكة إلى الغار وسط جنون المشركين بحثاً عن محمد صلى الله عليه وسلم ليقتلوه.
ويلاحظ أن هذه الشخصيات تترابط كلها برباط العمل الواحد، تجمعهم صفة الأمانة المتحققة في كل واحد منهم لتحقيق الهدف المنشود وهو وصول إمام الدعوة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بسلام، فهي اختيارات مرحلية للدعوة، وكأنّ اختيارات الهجرة أسست عليها اختيارات الصحابة فيما بعد، فاختير الصديق الخليفة الأول بعد وفاة الرسول ، إذ كان الرجل الثاني في الهجرة فأصبح الرجل الأول بعد وفاة رسول الهجرة عليه الصلاة والسلام.
ثم لمسنا وضع كل فرد من أفراد هذه الهجرة في عمله المناسب؛ ليكون أقدر على أدائه والنهوض بتبعاته، فما بالك بمن يتسلم مسؤولية الشعب في رئاسة أو تمثيل أو خدمة؟! الأحرى بهؤلاء ومن يرشحهم أن يكونوا على قدر المسؤولية، فإنها أمانة وإنها خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها (أخرجه البخاري ومسلم عن إبن عباس رضي الله عنه، باب الإمارة)، فهذا تدبير للأمور على نحو رائع بأسلوب حكيم، وضع كل شخص في مكانه المناسب وتغطية بديعة لكل مراحل الحاجة في رحلة الهجرة، واقتصار على العدد اللازم وبدون زيادة ولا نقصان، دون مراعاة للقرابة والنسب والمصالح الشخصية، فهذه هي أبرز أسس اختيار الأفراد في حمل الرسالة.
مثنى علوان الزيدي