أرشيف المقالات

تونس الخضراء، ولا بد للقيد أن ينكسر - خالد حربي

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .

قد يسطو لص على الدار...
لكنه لا يستطيع تملُّكها أبدًا....
فهو لص، وسيظل لصًّا وإن طال الزمن.
وقد يتسيَّد الضبع على الغابة لكنه لا يصير ملكها....
فهو ضبع وإن تحلى بزي السباع.

الأحداث لا تغيّر ماهية الأشياء....
لكنها تكشفها وتُبرز ملامحها فقط...
وقديمًا قالوا: تستطيع أن تخدع بعض الناس لبعض الوقت , لكنك لا تستطيع أن تخدع كل الناس كل الوقت.

حكايتنا اليوم تروي هذا المعنى وعلى قدر مرارتها على قدر سخريتها من الطغاة.
تونس خضراء الإسلام..
مسجد الزيتونة..
والقيروان، وابن خلدون..
وعبد الله ياسين والمرابطون.
هاهي محاطة بأسلاك العبودية، وقد تُرِكَت نهبًا لذئاب العلمانية الشرسة، يفعلون بأهلها أكثر مما يفعل الصليبيون في بلادهم بالمسلمين.

يقف ديكتاتور الدولة زين العابدين بن علي ليصف الحجاب الشرعي بأنه لباس طائفي دخيل، وقال: إن اللباس التقليدي التونسي كفيل بضمان قيم الحياء والاحتشام.

يقوم على إثرها كاتب لقيط الهوية يكتب في صحيفة الحدث الأسبوعية، وهي صحيفة الدولة الرسمية في تونس فيقول: "إلى من يهمه الأمر أوقفوا مهزلة الحجاب" ويتمادي في صفاقته فيقول: "ولم يذكر تاريخ تونس القديم والوسيط حادثة عن الحجاب، ولا ذكر في ذلك إلا فيما يخص (المومسات والعاهرات)، اللاتي وجب عليهن إن غادرن (الماخور) الذي يشتغلن فيه أن يلبسن (الحجاب) ويغطين أجسامهن كليًّا حتى العينين؛ لكي يظهرن بجلاء ويعرف القاصي والداني إنهن (بائعات هوى)..
فتتجنبهن النساء الأخريات".

ويتنكر هذا اللقيط من تاريخه وحضارته وتراثه؛ لهثًا وراء قافلة الغرب الثقافية.

ثم تنتفض قوات الأمن التونسية، وتُسيِّر الجحافل المدججة بالسلاح، لا لتضرب على يد الجناة، ولا لتحفظ الأرض والعِرض، ولكن لتنزع العفاف من على رءوس المسلمات.

وتتمادى هذه الطُّغْمَة العلمانية في غيها فتقدم عبد الحميد الصغير للمحاكمة وتغرمه ماليًّا لتعاطفه مع المحجبات.

بل وتنتشر لتطارد دمية صغيرة لفتاة محجبة، وتسحبها من الأسواق خوفًا وهلعًا.

إلى هذا الحد بلغت هشاشة النظام الجاهلي في تونس.

هذا النظام الذي ورث دولة مهلهلة، تركها خَلَفُه بورقيبة وقد نضبت من كل شيء، حتى إن زين العابدين نفسه لم يستطع أن يجلس على كرسي خَلَفه إلا بتنصله من تركته، بل وتملقه للإسلاميين في انتخابات 1989م.

لكنه وكعادة كل الطغاة ما إن استتب له الأمر حتى غدا شر مدين، يرد الإحسان بالإساءة.

وأخذ يُكمل مشروع سلفه بورقيبة الذي كان يردد في مجالسه: "يا ليت تونس تقع جغرافيًّا قرب السويد أو الدانمارك لتخرج نهائيًّا من هذا المحيط العربي والإسلامي".

بينما زين العابدين تصفه مجلة (جون أفريك) الفرنسية غداة توليه الرئاسة بأنه "محسوب على الغرب قلبًا وقالبًا".

وبعيدًا عن موقف بن على من الإسلام وموقف الإسلام، دعونا نعالج سؤلاً مهمًّا:
لماذا تضجّ تونس من الحجاب أكثر من تركيا حصن العلمانية الشرقية، بل وأكثر من فرنسا وبريطانيا وإيطاليا، التي صرح مؤخرًا رئيس وزرائها رومانو برودي ووزير داخليتها جوليانو أمات بحرية المرأة في ارتداء الحجاب، بينما تحارب الدولة في تونس الحجاب بكل عناصرها ومؤسساتها؟
في الحقيقة يعكس انتشار الحجاب في تونس نهاية عهد العلمانيين المتطرفين من أذيال الغرب.
وقطيعة صريحة مع نظام زين العابدين المتغرب , وسقوطًا مدويًّا لكل أوثان العلمانية والقومية في تونس الخضراء.

إن عودة وانتشار الحجاب في تونس ما هو إلا البند الأول من حساب النظام التونسي الثقيل.
ورسالة تعكس ما جناه الشعب التونسي المسلم من سيره وراء العلمانيين المتغربين.
وأنه بعد خمسين عامًا من التغريب القاسي لم يقبض بيده سوى الريح، فعاد راشدًا إلى جذوره ومنبته.

فالناظر في واقع المجتمع التونسي الذي طالما تشدق حكامه بمدى تشبعه بالثقافة الغربية يجد أن المجتمع بأسره لم يجنِ من ذلك سوى الشقاء والعَنَت الذي ردَّه إلى صوابه ومنابعه الأصيلة، وهي الإسلام.

وكشف حساب الحقبة العلمانية في تونس طويل وثقيل، سواء على المستوى الحضاري أو الإنساني.
لكن دعونا ننظر إلى ما جنته المرأة التونسية تحديدًا من هذه الحقبة وهي المعني الأول بمشروع التغريب في تونس.

لعل أهم ما جنته المرأة هو منع تعدد الزوجات .
وتأخر سن الزواج المترتب.
وحدوث طفرة عددية في عدد النساء العانسات.
وترتب عليه بالتالي زيادة كبيرة في الانحرافات السلوكية بين النساء في تونس، حتى صارت مضرب المثل في هذا الانحراف.
أضف إلى هذا سياسة تحديد النسل التي تنتهجها تونس منذ زمن .
والهوة الممتدة باتساع مطَّرد بين الأغنياء والفقراء بتونس.
والقبضة الأمنية التي تجثم على صدور التونسيين جميعهم، باختلاف توجهاتهم الفكرية.
والإعلام المنافق الذي لا همَّ له سوى التسبيح للحاكم، واختلاق الأمجاد والإنجازات له.

وهنا نرى أن ما جناه المسلمون في تونس، لم يكن سوى حصادًا مرًّا وسرابًا متبددًا.
كل هذا أدى إلى سقوط النظام العلماني في تونس، ولو في نظر الشعب فقط.

وكما تعودنا عندما تشتد الكروب وتعظم المحن لا يجد المسلمون أمامهم إلا العودة إلى ربهم.
وهذا ما حدث بالفعل في تونس.

الغريب أن هذه العودة الوئيدة إلى الإسلام في تونس تمَّت بلا تدخل من أحد.
فالجميع يعلم أن الحركة الإسلامية لا أثر لها في تونس بعد رحلة طويلة من العذاب والألم والاضطهاد بل والقتل.
والجميع يعلم أن مراكز الدعوة الرسمية لا تقدم سوى النصائح الحكومية والأمنية للشعب.
حتى الصلاة لا بد لها من إذن مسبق، بل وبطاقة مرور إلى المسجد تستخرج من الجهات الأمنية تحتوى على عدد الصلوات المطلوب أدائها ومكان الصلاة وتجدد هذه البطاقة شهرياً من الجهات الأمنية .

و لا مجال هنا للاستغراب.
فلا غرابة أن ترجع الأمة إلى نبعها الأصيل، ومجراها الطبيعي الذي ظلت تسير فيه لأكثر من ألف سنة.
ولا غرابة أن تستظل الأمة بشريعتها ودينها وقت الشدة وهي التي ما عايشت الأمن، وما نعمت به إلا في ظلاله.
بل الغريب أن تطول قطيعتها مع دينها كل هذا الأمد الطويل.

فهم النظام التونسي حقيقة الرسالة الشعبية الصامتة.
وحقيقة الرفض العام له ولسياسته ولمشروعة اللقيط .
فأخذ يبطش وينكِّل ويضرب بكل قوته في الرموز والشعائر الإسلامية.
في محاولة يائسة لتغير اتجاه الريح وتحويل مسار النهر.
لكن هيهات له ذلك..
وقد أفلس من كل شيء ولم يبقَ في جعبته سوى الهراوة والقيد.
لكن التاريخ يشهد أنهما لم يستطيعا أبدًا أن يغيِّرا اتجاه الريح.

عفيفةٌ تونس الخضرا ستمضي *** بنهج الحقِّ ينصرهـا الكرام








شارك الخبر

المرئيات-١