أرشيف المقالات

أيها المحتسب: كن متواضعاً

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

فإن الدين الإسلامي يعمل على إيجاد الخلق الحسن بين المسلمين، كيف لا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما بُعِثتُ لأتمم مكارم الأخلاق » (المستدرك على الصحيحين للحاكم، وقال: "صحيح على شرط مسلم"، السلسلة الصحيحة: [1/44]).

ومن الأخلاق التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم إليها: التواضع قال تبارك وتعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر من الآية:88]، وقال: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء من الآية:215].

عن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن عياض بن حمار -أخي بني مجاشع- قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم خطيباً، فقال: «إن الله أوحى إلى أن تواضعوا حتى لا يفخر أحدٍ على أحد، ولا يبغي أحدٍ على أحد» (رواه مسلم: [4/2197]، برقم: [2865]).

والله تبارك وتعالى يحب المتواضعين، قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54].

وهو سبب لرفعة الإنسان؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبداً بعفوٍ إلا عِزّاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله» (رواه مسلم: [4/2001]، برقم: [2588]).

بل هو سبب لدخول جنة عرضها السماوات والأرض قال تبارك وتعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83].

ومن هنا فإن أولى الناس بالعمل بالتواضع هم أهل الحسبة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، فلا يتعاظمون في أمرهم ونهيهم.

وليس للمحتسب أن يقول: إن التواضع في الاحتساب يؤدي إلى ذِلةٍ ومهانة؛ بل إن التواضع يزيد العبد رفعة ومكانة.

قال ابن القيم رحمه الله في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54].

"لمّا كان الذُّل منهم ذُلّ رحمة وعطف وشفقة وإخبات عداه بأداة على؛ تضميناً لمعاني هذه الأفعال، فإنه لم يرد به ذُلّ الهوان الذي صاحبه ذليل؛ وإنما هو ذُلّ اللين والانقياد الذي صاحبه ذلول، فالمؤمن ذلول كما في الحديث: "المؤمن كالجمل الذلول، والمنافق والفاسق ذليل" (جاء في حديث مرسل عن مكحول، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمنون هينون لينون كالجمل الأَنِف، إن قِيد انقاد، وإن أُنِيخَ استناخ على صخرة»؛ شعب الإيمان : [10/447]، برقم: [7777]).

وأربعة يعشقهم الذُلّ أشد العشق : الكذّاب والنَّمام والبخيل والجبّار، وقوله: {أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ}؛ هو من عِزَّة القوة والمنعة والغلبة، قال عطاء رضي الله عنه: "للمؤمنين كالوالد لولده، وعلى الكافرين كالسبع على فريسته" ( مدارج السالكين : [2/327]).

فالأصل في الإنسان المسلم أن يكون متواضعاً مع إخوانه المسلمين، ومن باب أولى أن يتواضع رجال الحسبة في دعوتهم إلى دين الله تبارك وتعالى.

فإن قال قائل كيف أتواضع للعصاة المذنبين، وأهل البدع المارقين؟

نقول:

قد أجاب عن هذا السؤال أبو حامد الغزالي رحمه الله، فقال: "فإن قلت كيف التواضع للفاسق والمبتدع وقد أمرت ببغضهما، والجمع بينهما متناقض؟ فاعلم أن هذا أمر مشتبه يلتبس على أكثر الخلق، إذ يمتزج غضبك لله في إنكار البدعة والفسق بكِبر النفس ، والإذلال بالعلم والورع، فكم من عابدٍ جاهل، وعالمٍ مغرور إذا رأى فاسقاً جلس إلى جانبه أزعجه ذلك.

وتنزّه منه لكبر باطن في نفسه وهو ظان أنه غاضب لله، وذلك لأن الكِبر على المطيع ظاهر كونه شراً والحذر منه ممكن، والكِبر على الفاسق والمبتدع يُشبِه الغضب لله وهو خير، فإن الغضبان أيضاً يتكبّر على من غضب عليه والمتكبِّر يغضب، وأحدهما يُثمِر الآخر ويوجبه، وهما ممتزجان ملتبسان لا يُميِّز بينهما إلا الموفقون.

والذي يُخلِّصَك من هنا أن يكون الحاضر على قلبك عند مشاهدة المبتدع، أو الفاسق، أو عند أمرهما بالمعروف ونهيهما عن المنكر ثلاثة أمور:

أحدهما: التفاتك إلى ما سبق من ذنوبك وخطاياك؛ ليصغُر عند ذلك قدرك في عينك.

والثاني: أن تكون ملاحظتك لما أنت متميّز به من العلم ، واعتقاد الحق، والعمل الصالح من حيث إنها نعمة من الله تعالى وله المنة لا لك فترى ذلك منه حتى لا تعجب نفسك، وإذا لم تعجب لم تتكبّر.

والثالث: ملاحظة إيهام عاقبتك وعاقبته أنه ربما يختم لك بالسوء ويختم له بالحسنى حتى يشغلك الخوف عن التكبُّر عليه" (إحياء علوم الدين: [3/365]).

فاحذر أخي المحتسب من الغرور والعُجب والكِبر، فلا تستعظم نفسك، ثم تشرع في الاستهانة بالناس واستصغارهم، فلا تكن أنت السبب في ترك الناس لك، وعدم الاستجابة لك، فكلما كنت محبوباً لدى الناس كانت استجابتهم لك أكبر، واجتماعهم حولك أكثر، ولا شيء يكسب لك قلوب الناس مثل التواضع، ولذا أمر الله به، وحرّم ضده وهو التكبّر، ولا يظهر التواضع إلا بالاختلاط بالناس؛ من أجل ذلك أمر الله بهما، قال تبارك وتعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} [الكهف من الآية:28].

وقال تعالى: {وَلاَ تُصَعّرْ خَدّكَ لِلنّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحاً} [لقمان من الآية:18].

وكان ابن عمر رضي الله عنهما يدخل السوق ليُسلِّم على الناس، فكان الناس إذا رأوه استبشروا، وانكبّوا عليه، يستفتونه فيفتيهم ويحل قضاياهم، قال رضي الله عنه: "إني لأغدو إلى السوق وما بيَ حاجة إلا أن أُسلِّم ويُسلَّم علي" (شعب الإيمان [6/435]، برقم: [8794]).

والمتكبِّر يصرِفه العزيز الجبّار عن تدبُّر آياته يقول تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف:146].

بل إن الله تبارك وتعالى يختم على قلب المتكبِّر فلا يُميِّز بين الحق والباطل، يقول الله عز وجل: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر من الآية:35].

والكِبر أمره خطير؛ فيكفي المرء أن يكون في قلبه مثقال ذرة من كِبر ليُحرم الجنة ونعيمها، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقالُ ذرةٍ من كِبر» (رواه مسلم: [1/93]، برقم: [91]).

والمتكبِّرون هم أول من تبحث النار عنهم يوم القيامة ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَخْرُجُ عُنُقٌ مِنَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَهُ عَيْنَانِ يُبْصِرُ بِهِمَا، وَأُذُنَانِ يَسْمَعُ بِهِمَا، وَلِسَانٌ يَنْطِقُ بِهِ، فَيَقُولُ: إِنِّي وُكِّلْتُ بِثَلَاثَةٍ: بِكُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، وَبِكُلِّ مَنْ ادَّعَى مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ، وَالْمُصَوِّرِينَ» (مسند أحمد بن حنبل: [2/336]، برقم: [8411]).

بل إن المتكبِّرين من حطب جهنم ووقودها؛ فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «احتجَّت الجنة والنار، فقالت النار: في الجبَّارون والمتكبِّرون، وقالت الجنة: في ضعفاء الناس ومساكينهم، قال: فقضى بينهما، إنك الجنة رحمتي أرحم بكِ من أشاء، وإنكِ النار عذابي أعذب بكِ من أشاء، ولكلاكما على ملؤها» (رواه أحمد: [3/79]، برقم: [11771]، وإسناده صحيح على شرط الشيخين).

ويوم الحشر يفضح الناس كل بما كان يعمل في الدنيا وممن يفضح في ذلك اليوم العظيم: المتكبرون يقول صلى الله عليه وسلم: «يُحشَرُ المتكبِّرونَ على أمثالِ الذّرّ في صُورِ الرجالِ يغْشاهمُ الذّلُ من كلِ مكان، يساقونَ إلى سَجنٍ في جهنمَ، يُقالُ له بُولَسٌ، تعلوهم نار الأنيار يُسقونَ مِنْ عُصارَةِ أهلِ النارِ طينةُ الخبالِ» (رواه الترمذي: [4/655]، برقم: [2492]، وحسنه الألباني ).

أخي المحتسب:

تَوَاضَعْ تَكُنْ كالنَّجْمِ لاح لِنَاظِرِ *** على صفحات الماء وَهْوَ رَفِيعُ
ولا تَكُ كالدُّخَانِ يَعْلُو بَنَفْسِهِ *** على طبقات الجوِّ وَهْوَ وَضِيعُ
ولك أخي المحتسب في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، فقد كان عليه الصلاة والسلام في حياته مع الناس من أشدهم تواضعاً في معايشته، قال أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه: "كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت" (رواه البخاري : [5/2255]، برقم: [5724])، وكان عليه الصلاة والسلام يمرّ على النساء فيُسلِّم عليهن، وعلى الصبيان فيُسلِّم عليهم.

فإذا أردتَ أن تصل إلى قلوب الناس، فتواضع لهم، وسلِّم على من عرفت ومن لم تعرِف، واستمع إلى الآخرين عندما يتحدّثون معك، وأظهر لهم اهتمامك بهم ومساعدتهم، وحادثهم بلطف وتأنٍ، وإذا أحببت أن تحتسب على شخص، فاحتسب عليه على انفراد حتى لا تُحرِجه أمام الآخرين، وعامل الناس كما تريد أن يعاملوك حتى تكون لهم أعز الأحباب.

نسأل الله أن يُوفِّق كل محتسب إلى السداد والخير، والحمد الله ربِّ العالمين.


عبد الله علي العبدلي

 

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢