تذكير وموعظة
مدة
قراءة المادة :
5 دقائق
.
تذكير وموعظة﴿ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ﴾
الحمدُ لله الذي ﴿ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ ﴾ [الرعد: 11]، الحمدُ لله الذي ﴿ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ ﴾ [الرعد: 13]، الحمد لله الذي يستدرج الظالِمين ويُمْلي لهم، ثم يأخذهم أَخْذَ العزيز المقتدر، الكبير المتعال، أستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله يعلم خائنةَ الأعين وما تُخفي الصدور، وأشهد أن سيدنا محمدًا رسول الله فاز مَن اتبعه بعظيم الأُجور، صلِّ اللهم على سيدنا محمدٍ، وعلى آله وصحبه، مَن بذلوا في سبيل الله كلَّ مرتخصٍ وغالٍ، أما بعدُ:
فقد قال تعالى: ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ * فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ﴾ [الروم: 41 - 43].
عباد الله، انظُروا معي إلى هذه الأحوال التي عمَّت البلاد، وساءت العباد، وكَسَتْهُم السواد، ورَمَتْهُم في مهاوي الوبال، انظروا معي إلى ما يُدمي العيون، ويُذيب القلوب، ويزيد الكُروب، ويَقطع الأوصال، انظُروا معي إلى كرب يُشيب هوله الوليدَ، ويُذهب عقلَ الرشيد، ويُزيل صلابة الحديد، وإن كان لتزولَ منه الجبال، هل تجدون إلا دودة سلطها الله على الأقطان فَهَشَّمَتْها، ثم ذهبتْ إلى الخضر فدَمَّرَتْها، فتركت المزارعَ خاوية، ولم تُبْقِ للقوم باقية، مع أنها أضعف ما خلق الله للقتال؟!
هل تجدون إلا تجارةً بائرة، وبضاعة خاسرة، ومعايش منكودة، وراحة مفقودة، وتعبًا قد أقام وطال؟ ذلك واللهِ حالُ قوم طال عليهم الأمدُ وقلوبهم قاسية، فما تمكث فيها طاعة ولا تخرج منها معصية، قوم قد استأنسوا بالهوى، واستحوذ عليهم الشيطان؛ فأنساهم هيبة ذي الجلال، قوم حاربوا بالرِّبا ربًّا جبارًا، وأتوا الفاحشات ليلًا ونهارًا، وشربوا الخمور سرًّا وجهارًا، وباعوا الهدى واشتروا الضلال، قوم أضاعوا الصلاة ومنعوا الزكاة، وبخلوا بما آتاهم الله، ولقد كانوا يقولون: لئن آتيتَنا لنبلغنَّ من الشكر الكمالَ، قوم أهانوا الأيتام، وقطعوا الأرحام، وسعَوا في الخصام، واستمرؤوا ذميم الفِعال، قومٌ تجارتهم الغِيبة والنميمة، وفاكِهتُهم الفضيحة والشتيمة، وشِيمتهم الضغائن والعناد، والقطيعة والأحقاد، كان ذلك وِرْدًا لا ينقطع بحالٍ.
قوم يَعِدُون ويُخلفون، ويبيعون فيغشُّون، ويتكلمون فيَخدعون، ويداهنون ويتصنَّعون، وهذا سارق وهذا محتال، قوم لا يُوفون أجر الأجير، ولا يرحمون الصغير، ولا يوقِّرون الكبير، ولا يدْعون إلى جميل الخصال، قوم كرِهوا الحق ورفَضوا الصدق، وسرَّهم إيذاءُ الخلق، ومتى نالوا شهوتهم فليقع غيرُهم في أسوأ الأحوال، فما الذي يستحقون بعد أن جاءهم من الله كتابٌ مبين، يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم، وبعد أن أُرسِل إليهم نبيٌّ أمين، بشرع قويم، وخلق عظيم، وبعد أن جاءهم من أخبار السابقين ما فيه عبرة للمعتبرين، وهداية للمستبصرين؟ ألا يستحقُّون أن تنزل الصواعق، وتنسف النواسف، وتحل الزلازل، وتدمَّر المنازل، ويغشى الناسَ العذابُ والأهوال؟ ألا يستحقون أن تطبق السماء على الأرض، ويَهلِك الناسُ بعضهم ببعض؛ ليذوقوا وبال أمرهم، ويعرفوا عاقبة غيِّهم، ويعلموا أنهم في ضلال؟
سبحانك اللهم بالعباد رؤوف رحيم، وبما فعلوا عليم حليم، تُعامِلهم بما أنت أهله، ولو عاملتهم بما هم أهله، لدمَّرتهم تدميرًا، ولأريتهم هولًا كبيرًا؛ ﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا ﴾ [فاطر: 45].
فاتقوا الله عباد الله، واسعَوا في صالح العمل، وإياكم أن تُسوِّفوا، فعند الله - لا عندكم - عِلمُ الأجل، ويوم القيامة يرى كلُّ امرئٍ ما قدَّمتْ يداه، ولا يَعْزُب عن ربك يومئذٍ مِن الأعمال مثقال.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه، وقد شُكي إليه ما لقي الناس مِن الحجَّاج، فقال: "اصبروا؛ فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا والذي الذي بعده شرٌّ منه حتى تلْقَوْا ربكم؛ سمعتُه مِن نبيِّكم صلى الله عليه وسلم".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((ستكون فتنٌ؛ القاعدُ فيها خيرٌ مِن القائم، والقائمُ فيها خيرٌ مِن الماشي، والماشي فيها خيرٌ مِن الساعي، مَن يُشْرِفْ لها تَسْتَشْرِفْهُ، ومَن وجد فيها ملجأً أو معاذًا، فليعُذْ به)).