أين الله؟!
مدة
قراءة المادة :
4 دقائق
.
أين الله؟!(أين الله؟!) ليس سؤالًا عقديًّا يسأله أهل السنة والجماعة، ولا سؤالًا عقلانيًّا يطرحه أهل الكلام، ولا سؤالًا فلسفيًّا يسوقه أهل الفلسفة.
إنه مجرد سؤال ملؤه الحزن والألم والحسرة لشخص نظر في حياة كثيرين ممن هم أحياء أم أموات، وقرأ سيرهم، واطلع على أخبارهم، وعاين إنتاجهم الفكري والإبداعي في مختلف الميادين، فدفعه ذلك لهذا التساؤل الحائر: أين الله في حياة هؤلاء؟!
لقد ملأ هؤلاء الدنيا بتميزهم، وشغلوا الناس بتفردهم، وأثاروا إعجاب الآلاف، بل الملايين، بعقولهم النيرة، وأفكارهم المتقدة، ولكن عقولهم هذه، وأفكارهم تلك، لم تهدهم إلى الله تعالى، ولم تدلهم على تذكر الآخرة، بل عاشوا حياتهم في غفلة عن الله، وإعراض عن الحساب والبعث والجزاء.
لا تكاد تتبين في ميراثهم أثرًا لعبودية الله جل وعلا، ولا أثارة من علم بدينه، بل معرفة بأمور الدنيا، وصد وأنفة عن أمور الآخرة!
تتأمل في العالم منهم فيبهتك بسعة علمه، وتنوع اختراعاته وابتكاراته؛ وتقرأ للروائي منهم، فتعجب لمقدرته على السرد، وحبك الأحداث، ورسم الشخصيات؛ وتقف على الشاعر منهم فيسحرك ببيانه وحجته وفصاحة منطقه ولسانه؛ وتطالع للمفكر منهم فتبهر بجلده في توليد الأفكار، وصياغة النظريات، واستنباط الرؤى؛ وتتعرف على السياسي منهم فيخلب لبك بفصاحة لسانه، وحنكته في القيادة، وبراعته في الإدارة.
ولكن المحصلة تساوي عندك صفرًا حين لا تجد لله في حياتهم، حين تدرك أن عقولهم كانت قاصرة - مع ما بلغوا من التميز والذيوع - حين لم تهدهم إلى عبادة الله، وابتغاء الدار الآخرة في ما آتاهم الله من المواهب والنعم، وفي ما خصهم به من الإمكانات والمقدرات، فعاشوا حياتهم للدنيا، ونذروا عمرهم لإرضاء حظوظ النفس، وإشباع شهواتها، فوفاهم الله نصيبهم من الشهرة والنجومية في الدنيا، ولم يبخسهم حظهم من ثناء الناس ومدحهم، فكان شأنهم شأن من قال عنهم القرآن الكريم: ﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ﴾ [النور: 7].
جاء في تفسير ابن كثير رحمه الله: (أي أكثر الناس ليس لهم علم إلا بالدنيا وأكسابها وشؤونها وما فيها، فهم حذاق أذكياء في تحصيلها ووجوه مكاسبها، وهم غافلون في أمور الدين وما ينفعهم في الدار الآخرة، كأن أحدهم مغفل لا ذهن له ولا فكرة، قال الحسن البصري: واللّه ليبلغ من أحدهم بدنياه أنه يقلب الدرهم على ظفره فيخبرك بوزنه وما يحسن أن يصلي)، فأخلق بأمثال هؤلاء أن يتحول إعجابك بهم إلى شفقة، وانبهارك بهم إلى ازدراء ورثاء!
العاقل الكيِّس هو الذي يجعل سائر أقواله وأعماله خالصة لوجه الله عزَّ وجلَّ، ويتخذ الدنيا معبرًا للآخرة، ولا ينسى نصيبه منها في ما يرضي خالقه جلّ وعلا، وأما الغافل فيتَّبع خطوات الشيطان، ويُتْبِع نفسه هواها، وتغره الدنيا، ويطغيه ثناء الناس، وتفسده الشهرة والمال، فيغفل عن ذكر الله، ويبطر ما حباه به من المواهب، واختصه به من النعم، فقد أخبرنا القرآن الكريم عن فريقين: فريق يريد الآخرة ويسلك طريقها بما يقتضيه من الإيمان والعمل الصالح، فقال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ﴾ [الإسراء: 19]، كما أخبرنا عن فريق يريد الدنيا ويركن إليها، فقال جلَّ وعلا: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا ﴾ [الإسراء: 18].
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا إلى النار مصيرنا، ونعوذ بك اللهم من الخذلان.