بعد رحيل أخي وشيخي ، المجاهد الصابر المثابر .. رفاعي سرور - محمد محمد بدري
مدة
قراءة المادة :
13 دقائق
.
أخي يرحمك الله ..
ماذا تعلمنا من حياته ؟ وماذا تعلمنا من مماته ؟
أخي يرحمك الله ..
التقيت أخوة لك عايشوك عن قرب ، وعرفوك عن كثب ..
حكى أحدهم : كيف كنت جاداً في خدمة دينك !! وذكر الآخر تواضعك ، وحبك للآخرين ، وحرصك على إرشادهم ونصحهم !! وترحم الثالث عليك : يرحمه الله ، كم كان واسع الصدر للجميع يصبر على تجاوزاتهم ، ويتدبر كل ما يمر به وبهم ، ويكرر دائماً : إن الترفع عن الإخوة بسبب ما قد يحدث منهم ؛ دليل على رداءة الطبع !! ..
وقال رابع : كم كان وفيا لدعوته ، جندياً لدينه ، لم يفارق جنديته له طيلة عمره !! وقال خامس ..
وقال سادس….
وتأملت في أقوالهم ..
إنها تعنى: أنك ( يرحمك الله ) كنت قرآني العقل والمعرفة ، سني السلوك والممارسة ..إنها تؤكد : إن الداعية الحق ،إنما يثير إعجاب الآخرين حين يجتمع فيه ما تفرق في غيره .
أخي ..
يرحمك الله ..إن أمثالك في الحياة يجب أن تبقى سيرتهم منارة هدى يهتدي بها الحيارى ، وشمس حياة للقلوب الموات ..وهذه بعض دروس تعلمنها من حياتك ..
وبعض حقائق زادت وضوحاً في قلوبنا ونفوسنا من يوم وفاتك :
• صحة المنطلق هي نقطة البدء:
كنت أخي ( يرحمك الله ): حريصا على استحضار النية في كل عمل ، وتحقيق الإخلاص ، والتوجه بالأعمال كلها إلى الله سبحانه ، وطلب الأجر منه وحده ، وجعل ذلك هو نقطة البدء ..
وكنت تكرر إن القاعدة في ذلك أن " من صحت بدايته ؛ استقامت طريقته وصحت نهايته ..
ومن فسدت بدايته ، أعوجت طريقته وساء ت نهايته " ..
فمهما خدعت البشر وتزينت لهم ؛ فلن تخدع رب البشر ، ولن تحتال على من يراك في كل أحوالك !! وتعلمنا نحن من تلك الحال ، وهذا المقال : أن بواعث أعمالنا يجب أن تكون أجدر بالعناية من أفعالنا وأهدافنا ، وأن الواعي البصير هو الذي يتوجه بجهده وعمله الى الله وحده راجياً منه وحده حسن الثواب ، لا يلتفت إلى البشر ولا يبتغى عندهم أجراً ..
لسان حاله يردد:" إن لم يكن بك على غضب فلا أبالى "
• بذرة الخير تثمر النفس التوّاقة :
كنت أخي ( يرحمك الله ) صاحب قلب يحمل بذور الخير ، وصاحب نفس تواقة إلى الارتقاء الإيماني والعلمي والدعوي ..
كارهة للعبث ، ولإضاعة الأعمار في التفاهات ، راغباً في المعرفة متزوداً من العلم تردد دائماً أن القضية ليست في امتلاك " المعرفة " التي تحسب في رصيد " الثقافة " وإنما الأهم أن تتحول هذه المعرفة إلى قوة تدفع المسلم لإقامة حياته على المنهاج الرباني ..
وتعلمنا نحن من ذلك : أن طالب العلم لا بد له كل يوم من تحصيل المزيد والجديد والمفيد ، من العلم والتربية ..
وهو في غده تتوق نفسه إلى الأعالي ، وتستشرف أشواقه ما هو أسمى ..
وهو في كل أحواله على يقين " أن المسافة التي يجب عليه أن يقطعها هي المسافة الفاصلة بين علمه وواقعه ..
بين مبادئه وسلوكه .
رصيد الداعية ..
الجاذبية لا القسر :
كنت أخي ( يرحمك الله ) صاحب قلب قد امتلأ رحمة وسماحة ..
رحمة تتجاوز الحقوق والواجبات والعقود ، إلى النبل والشهامة والمروءة ..
وسماحة تتحمل أذى الآخرين ، وتتجاوز عن خطأهم ؛ بل وتثنى على ايجابياتهم وفضائلهم !!! وكانت نتيجة ذلك في الواقع ؛ رغبة الجميع في تواصلك ، والانتفاع بما عندك من قيم خيرة جذبهم إليها جذباً ( تطابق قولك مع سلوكك ..
وفقه تعاملك الذي يراعى " الستر " في التعامل مع الآخر ، ويحافظ على " الود" معه ، ويطلب في ذات الوقت " مؤالفته ") وتعلمنا نحن من ذلك : أن الصبر والعفو والرحمة أهم زاد يتزود به الداعية ، فهو متسامح يغفر المعايب ، ويستر الزلات ..
ويعالج كل ذلك باتزان وعطف ورحمة ..
ذلك أنه على يقين أن القيم لا تفرض على الناس فرضا ، إنما تجذبهم إليها من خلال القدوة الحسنة والمثل الطيب !!..
وأن أعقل الناس أعذرهم للناس ، والمعرفة الكاملة بالآخر صفح كامل عنه !! إننا لا نملك عقول الآخرين ، ولكنا نملك فقط الطرق على باب تلك العقول ، ولا بد أن يكون طرقنا بلباقة تناسب صاحب الدار !!والقاعدة فى ذلك " أن من يملك القدوة ؛ يملك الهيبة وإن افتقد القوة ..
وإنما يحتاج القوة لفرض هيبته ؛ من لم يصدق عمله كلامه " !!!!
• الإسلام ..
إطار العمل الإسلامي :
كنت أخي ( يرحمك الله )..
ترى أن الإسلام ليس حكراً على أفراد مهما كان هؤلاء الأفراد ، ولا على جماعات مهما كانت هذه الجماعات ؛ وإنما الإسلام مسؤولية كل من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله على تفاوت الدرجات بتفاوت الاستعدادات والقدرات … وكان ذلك الفهم يدفعك إلى قبول المساعدة من أي أحد حتى من هو دونك فهماً وقدرة ..
بل لا تجد أدنى غضاضة في أن يعرف الناس أن هذا العون الضئيل كان له أثر في عملك ودعوتك ..لقد كانت فرحتك الغامرة أن تجد من يؤمن بما تؤمن به من عقيدة صالحة ، ويشاركك الجهد والسعي إلى نشرها .
وتعلمنا نحن من ذلك : التواضع النابع من الإحساس بالآخر ، وعدم إظهار التعالم في خطابه ..
بل واحترام عقله وتقدير ذاته ..
والتذكر الدائم لما وصل إليه وعجزنا نحن عنه ذلك أن هذا الإطار لعلاقتنا بكل المسلمين هو الإطار المحمود شرعاً " ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، وأولئك هم المفلحون " آل عمران 104 ….
كما أن هذا الإطار هو المنصور قدراً ( لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله ) رواه مسلم
أخي ..
يرحمك الله
هذا ( بعض ) ما تعلمناه من حياتك ..
وأما وفاتك فقد فعلت فينا فعلها الساحر ، وتركت آثارها بارزة في حياتنا من بعدك ..
لقد غيرت في عقولنا كثيرا من الأفكار الخاطئة ، وأوضحت في نفوسنا كثيراً من التصورات الغامضة ، ومنها :
مفهوم النجاح ومفهوم السعادة :
كنت أخي ( يرحمك الله ) ..
ترى أن من يبحث عن الراحة فى هذه الدنيا بالإخلاد إلى الأرض ، فهو لم يتخلص بعد من أمراض نفسه وقلبه !! ذلك أنه لا راحة للمؤمن إلا بلقاء ربه ..
ورأينا نحن يوم وفاتك ، وزاد اطمئناننا إلى رعاية الله للصالحين ، وتأكدت ثقتنا بوعده للمؤمنين بالتثبيت بالقول الثابت فى الحياة الدنيا وفى الآخرة ..
وكنت أخي ( يرحمك الله ) ..
ترى أنه لا مسوغ لانحرافنا في الدنيا ، ما دمنا نعتقد أن الآخرة هي دار العيش الحقيقي !! ..
فإذا فاتنا بعض الربح في بعض الأحيان ، فقد ربحنا ذاتنا وآخرتنا في كل حين ..
وتعلمنا نحن من ذلك : أن النجاح يتجاوز الدنيا إلى الآخرة ، بل إن حقيقة سباق الدنيا أن يتجاوز إلى سباق الجنة !!! فإذا التزمنا ديننا فقد ربحنا مرتين ..
ربحنا رضوان الله في الآخرة ، وربحنا صلاح أوضاعنا في الدنيا .
•
مفهوم الغنى ومفهوم الفقر :
في ظل ( إفلاسنا ) روحياً ، صار رفع مستوى معيشتنا المادية أكبر أهدافنا ، أو إن شئت قلت أكبر أصنامنا ؟!! تلك هي الحقيقة !! مرة..
نعم ، ولكنها هى الحقيقة ..
أخي ( يرحمك الله ) لقد أفقنا على هذه الحقيقة بوفاتك ، وتيقنا أن فضل الغني على الفقير ، وفضل الفقير على الغني ، إنما يتوقف على مسلك كل منهما تجاه الحالة التى هو فيها من فقر أو غنى !!
أخي ( يرحمك الله ) ..
لقد تساءلنا بعد وفاتك : لماذا نقضى جزءاً كبيراً من أعمارنا منشغلين بمكاسب مادية ، وخائفين من أشياء وهمية لا وجود لها إلا فى عقولنا ؟!! •
الراجون رحمة الله ، وفردية التبعة:
الراجون رحمة الله لا يقعون أسرى محيطهم الاجتماعي، ولا يتخذون من تقصير من حولهم ذريعة للتقصير ، ذلك أنهم يعتقدون أن المسؤولية أمام الله فردية ..
أخي ( يرحمك الله ) ..
هذه الكلمات السابقة أشعر أنها تجمل حالك معنا وحالنا معك فأما في حياتك ، فقد اتصلت بالقرآن ؛ فكنت من أولئك الرواد الحاملين لهذا الدين ، الراجين رحمة الله بإنارة طريقه للآخرين ..
وأما بعد وفاتك ..
فقد تركت إنجازاً ملموساً في نفوس كل من عرفوك ..
إنجازاً نسأل الله أن يكون سبب سعادتك في الآخرة .
وتعلمنا نحن من حياتك ومن وفاتك : أن من أراد السمو في جنان الرحمن ، عمل من أجل هذا الدين يقدر ما يستطيع حياً ..
فإذا توفاه الله فهو على يقين أن الله سيتولى فكرته الصالحة بالعناية ؛..
فالله عز وجل لا يدع فكرة صالحة تموت !! •
كن واحداً من قلة :
أخي ( يرحمك الله ) ..
كنت واحداً من قلة ..
والصفوة دائماً قلة !! ذلك أن شروط الجودة كلما كانت عالية ؛ لم يجد المرء حوله إلا أناسا من الدرجة الثانية ؟! فهل يناصح كل منا أخاه أن يكون واحداً من تلك القلة ؟ وهل يسائل نفسه دائماً : أين هي من الرواد السابقين ؟ أين هي من الدعاة العاملين ؟ أين هي من أصحاب جنة النعيم ؟ ..
إن مت يا نفس من يومك هذا فإلى أي دار تصيرين ؟
أخي ( يرحمك الله ) ..
بقيت حقيقة لا بد من الاعتراف بها : إن تأثيرك فينا وفى حياتنا أكبر كثيراً مما اعترفنا به فالحمد لله الذي جعل حياتك تذكرة للنفوس الغافلة ، وجعل وفاتك حياة للقلوب الموات ..
•
نصيحة لكل مسلم :
إذا كان أخي ( رحمه الله ) قد رحل عنا ، فإن فرصة حياتنا مازالت باقية ، فهل نحسن استغلالها والاستفادة منها ، هل نسمو بأرواحنا فوق حاجات أجسادنا ،..
هل يجعل كل منّا شعاره :
إذا غامرت في شرف مروم فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في أمر حقير كطعم الموت فى أمر عظيم
هل يجعل أثرك الباقي في الدنيا ، أهم شعاراتنا : إن لم تزد شيئاً على الدنيا ، كنت زائداً على الدنيا؟!!!
هل يذكّر كل منا الآخر :
كن رجلاً من اتو بعده يقولون : مر وهذا الأثر
فليحاول كل منا ..
وليعلم أن ثواب المحاولة هو الجنة … وهذا هو القرآن حاضر ..
وريح الجنة تفوح من بعيد ..
لا بل من قريب.
د .
محمد محمد بدري