فوائد الدعوة الفردية وأساليبها ووسائلها
مدة
قراءة المادة :
14 دقائق
.
فوائد الدعوة الفردية وأساليبها ووسائلهاإن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحق، فبلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين؛ فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله، وأصحابه، ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:فما زال الحديث متصلاً معنا في الحديث عن الدعوة الفردية، والآن حديثنا عن فوائدها، وأهم وسائلها، وسماتها.المبحث الأول: من فوائد الدعوة الفردية، وأهم سماتها:
1- إن الدعوة الفردية تربِّي الأفرادَ تربية متكاملة، فلا تقتصر على جانب واحد وتهمل الباقي، وهذا ما يسمى بالشمولية في التربية؛ ولهذا فإن الدعوة الفردية تكون أنجحَ من الدعوة العامة في تربية الأفراد، ولأن الدعوة الجماعية لا يمكن أن تتبع أخطاء الأفراد خطأً خطأ، بل نجد أن الدعوة الفردية من خلالها يمكن التنبيه على كثير من الأخطاء التي يقع فيها الأفراد؛ وبهذا يمكن استكمال التربية.
2- بالدعوة الفردية يمكن متابعة التطبيق العملي للتوجيهات الملقاة على الأفراد.
3- بالدعوة الفردية يمكن الرد على كثير من الشبهات التي تُلْقى على مسامع الأفراد، والتي لا يمكن التحدثُ بها في الدعوة الجماعية.
4- بالدعوة الفردية يمكن غرس المبادئ الإسلامية الصحيحة، ويمكن التحدث عنها بكل جدية ووضوح، إذا جاء الوقت المناسب لكل مبدأ.
5- بالدعوة الفردية يمكن إيصال الحق إلى الذين نَفَروا - أو نُفِّرُوا - عن سماعه، وعن مجالسة أهله.
6- إن هذا النوع من أنواع الدعوة طريقةٌ سريعة لكسب أكبر عدد من أنصار الدين.
7- يمكن متابعة الأفراد متابعةً دقيقة، بخلاف الدعوة الجماعية؛ فإنه لا يمكن متابعتهم.
8- هذا النوع من أنواع الدعوة لا يحتاج إلى غزارة علم، بقدر ما يحتاج إلى حكمة في الدعوة، فيمكن أن يقوم به أفراد محبُّون للدعوة.
9- الدعوة الفردية لا تحتاج إلى كثير معاناة؛ فهي سهلة، ويمكن أن يقوم بها كل داعية من خلال عمله؛ فالطالبُ في مدرسته أو كليته، والموظف في مكتبه، والعامل في مصنعه...، وهكذا.
تمتاز الدعوة الفردية عن غيرها من وسائل الدعوة العامة بمميزات عديدة، منها:1- تنعم بالحرية في كل الأحوال والظروف تقريبًا، ولا تكاد تتصور فرض قيود عليها، بل لا ترتبط بمكان معين، ولا بزمان معين، ولعله يَجمُل بنا في هذه الميزة أن نذكر كلام الشيخ عبدالحميد الجزائري، عندما استدعاه المندوب السامى الفرنسي وقال له: إما أن تُقلِع عن تلقين تلاميذك هذه الأفكارَ، وإلا أرسلت جنودًا لإغلاق المسجد الذي تبث فيه السموم ضدنا، وإخماد أصواتكم المنكرة؛ فأجاب الشيخ: "أيها الحاكم، إنك لن تستطيع إخماد أصواتنا مهما فعلت"، فاستشاط غضبًا، وقال: كيف لا أستطيع؟ فقال له: إذا كنتُ في عرس علَّمت أحد الحاضرين، وإذا كنتُ في عزاء وعظتُ أحد المعزِّين، وإذا جلستُ في قطار كلَّمت أحد المسافرين، وإن دخلتُ السجن أرشدت أحد المسجونين، وإن قتلتُموني التهبتْ مشاعر المواطنين، وخير لكم أيها الحاكم أن لا تتعرَّضوا لهذه الأمة في دينها ولغتها.
2- الدعوة الفردية أبلغُ وأعمق في التربية من غيرها؛ حيث إن المقصود فيها شخص، فتسهل متابعتُه وتربيته، ويمكن تتبع أخطائه خطأ خطأ، ومن ثم معالجتها.
3- يراعَى فيها حال المدعو؛ فيعطيه الداعية في كل وقت ما يحتاجه، وفي كل حال ما يلزمه، وهذا ما لا يمكن مراعاتُه في الدعوة العامة؛ لاختلاف مستوى السامعين، ومن ثَمَّ اختلاف حاجاتهم تبعًا لاختلاف أحوالهم.
4- لا تحتاج الدعوة الفردية إلى غزارة علم، بقدر ما تحتاج إلى حكمة في الدعوة، وفهم لمراحلها، واستيعاب لطرقها، وليس معنى هذا الكلام إهمالَ جانب العلم في هذا النوع من الدعوة، بل - كما سنذكر - سوف تكون إحدى مراحل الدعوة هي التعليم، فكيف سيعلم الداعية المدعوَّ، وهو لم يتعلم؟ لكن الحاجة إلى التعمق في الدعوة العامة أكثر منه في الدعوة الفردية.
5- ومن مزاياها أن لها تأثيرًا إيجابيًّا على الداعي نفسه قبل التأثير على المدعو، سواء من الناحية الدعوية، أو الناحية التعبدية، ويمكن لنا أن نذكر أمرين للدلالة على ذلك التأثير الإيجابي للدعوة الفردية على الداعية:أ- التربية الذاتية للداعية:فالدعوة الفردية من أعظم وسائل الداعية الربَّانيِّ؛ إذ تدفع به أن يكون قدوةً صالحة لمن يدْعوه، فيسبق فعلُه قولَه، ويترجم حالُه مقالَه؛ فشرط الدعوة الفردية لكي تنجح، أن يتعامل المدعوُّ مع الداعية مباشرة، وعن قرب، ولفترات طويلة؛ فيشعر بمدى صدقه والتزامِه في أقواله وأفعاله، في مشاعره وانفعالاته، وهذه المعايشةُ لا تترك فرصةً لتكلُّف أو تصنُّع.
وإن ما يؤثِّر في نفس المدعو حقيقة، هو رصيد الداعية الحقيقي من الْتزامه بهذا الدين، وما تأثَّر أصحابُ النبي - صلى الله عليه وسلم - بكلامه ومواعظه، إلا بعد أن كان أمامهم قرآنًا يمشي على الأرض، وما فتح الله - عز وجل - البلادَ وهدى العباد على أيدي أصحابه ومن بعده، إلا بعد أن صنع منهم النبي - صلى الله عليه وسلم - نماذجَ مشرِّفة للإسلام، في صورة بشر يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق، وباستقرار هذه الحقيقةِ الضخمة في كيان الداعية يصبح دائمًا في حالةِ محاسبةٍ لنفسه على كل فجوة - ولو صغُرتْ - بين قوله وفعله، ثم يكون منه استدراكٌ فارتقاء، وبذلك تصبح الدعوة الفردية أبلغَ وسيلةٍ للتربية الذاتية، يُصنَع من خلالها الداعيةُ الرباني، الذي خصه الله - عز وجل - باستنقاذ الغافلين المُعرِضين من نار السعير.
ب- اكتساب الخبرات:يكتسب الداعية كثيرًا من الخبرات أثناء قيامه بالعمل الدعويِّ بصورة فردية، من خلال احتكاكه المباشر بالمدعو، في محاولة دائبة لاجتذابه إلى طريق الهدى، فيكسب أولاً الخبرة في كيفية البَدْء بالاتصال بالناس، ثم الخبرة في كيفية التعامُل مع نوعياتهم المختلفة، ثم القدرة على مخاطبة العقول وإقناعها والتأثير فيهم، ثم فهْم النفوس ومسالكها، وإتقان توجيهها، ثم خبرة في اكتشافها الطاقات والقدرات، وحسن تنميتها والاستفادة منها.
وهذه خبراتُ تجارِب لا تستفاد أبدًا بطريقة نظرية، حتى يكون للداعية جولاتُه في الدعوة الفردية.
المبحث الثاني: من وسائل الدعوة الفردية:الداعية يحتاج إلى فهمِ أساليب الدعوة ووسائلِ تبليغها؛ حتى يكون على قدرٍ من الكفاءة لتبليغ الدعوة إلى الله - تعالى - بإحكام وإتقان وبصيرة؛ وذلك كالتالي:أولاً: أساليب الدعوة:الأسلوب: الطريق والفن، يقال: هو على أسلوب من أساليب القوم؛ أي: على طريق من طُرُقهم.
ويقال: أخذنا في أساليبَ من القول: فنون متنوعة؛ [انظر: القاموس المحيط، فصل السين، باب الباء، ص 125، والمصباح المنير، مادة "سلب"، 1/ 248، والمعجم الوسيط، مادة "سلب"، 1/ 441].
وأساليب الدعوة: هي العلم الذي يتصل بكيفية مباشرة التبليغ، وإزالة العوائق عنه.
والمصادر الأساسية التي يَستمد الداعيةُ ويتعلم أساليبَ دعوته الحكيمة منها هي: كتاب الله - تعالى - وسنةُ رسوله - صلى الله عليه وسلم - وسيرة السلف الصالح من الصحابة الكرام، والتابعين لهم بإحسان من أهل العلم والإيمان.
وتقوم أساليب الدعوة الحكيمة الناجحة المؤثِّرة على الأساليب الآتية:1- تشخيص وتحديد الداء في المدعوِّين، ومعرفة الدواء؛ فإن طبيب الأبدان الحاذق الحكيم يشخِّص ويعرف الداءَ أولاً، ثم يصف ويعيِّن العلاجَ ثانيًا على حسب الداء.
والداعية إلى الله - تعالى - هو طبيبُ الأرواح والقلوب، فعليه أن يسلك هذا الأسلوبَ في معالجة الأرواح، والداءُ عند الناس قد يكون كفرًا، وقد يكون معصيةً، فعلى الداعية أن يعطي الدواء على حسب الداء؛ فإن دواء الكفر الإيمانُ بالله، وبما جاء عنه وعن رسوله - صلى الله عليه وسلم - ودواء المعاصي كبائرها وصغائرها التوبةُ إلى الله - تعالى - والإقبال إليه، والإكثارُ من الطاعات المكفِّرة للسيئات، وهكذا لكل داء دواء.2- إزالة الشبهات التي تمنع المدعوين من رؤية الداء والإحساس به، ولا شك أن الشبهات هي ما يثير الشكَّ والارتياب في صدق الداعية، وحقيقةِ ما يدعو إليه؛ فيمنع ذلك من رؤية الحق والاستجابةِ له، أو تأخير هذه الاستجابة.3- ترغيب المدعوين وتشويقهم إلى استعمال الدواء، والاستجابة، وقبول الحق، والثبات عليه، وترهيبُهم من ترك الدواء بكل ما يخوف ويحذر من عدم الاستجابة، أو عدم الثبات على الحق بعد قَبوله.4- تعهُّد المستجيبين من المدعوين بالتربية، والتعليم، والتوجيه؛ لتحصل لهم المناعةُ ضد دائهم القديم، ومن أعظم وسائل التربية المؤثِّرةِ الاتصالُ بكتاب الله - تعالى - تلاوةً، وتدبرًا، وفهمًا، والاتصالُ الدائم بالسنة النبوية، وسيرة السلف والصحابة - رضي الله عنهم.
فعلى الداعية أن يُعِين المستجيبين على هذه الأمورِ العظيمة.
5- تقوم جميع الأساليب على أسلوب الحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، ثم استخدام القوة للمعاندين الظالمين.ثانيًا: وسائل تبليغ الدعوة إلى الله - تعالى -:الوسيلة في الأصل: ما يتوصَّل به إلى الشيء؛ [انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير، باب الواو مع السين، 5/185].
ووسائل الدعوة: هي ما يستعين به الداعية على تبليغ الدعوة من أشياءَ وأمورٍ.
ولا شك أن وسائل الدعوة على نوعين:النوع الأول: وسائل خارجية تتعلق باتخاذِ الأسباب لتهيئة المجال المناسب؛ ومنها على سبيل المثال ما يأتي:أ- الحذر المبنيُّ على التوكل على الله - تعالى - مع الأخذِ بالأسباب، ومعلوم أن الحذر أنواع من جهة ما يَحذَره الداعي المسلمُ؛ فهناك: حذره من الوقوع في المعاصي، والحذر من الأهل والولد، والحذر من اتِّباع الهوى، والحذر من المنافقين والكفار.
ب- الاستعانة بعد الله - تعالى - بالغير في تبليغ الدعوة؛ فالداعية يحرص على إيصال الدعوة إلى المدعو؛ فيستعين بكل وسيلة مشروعةٍ لتحقيق ما يحرص عليه.
ج- المحافظة على النظام المشروع؛ كحفظ الداعية تنظيم وقته، وعدم إضاعته، وإذا كان الدعاة جماعةً، فعليهم أن يراعوا قواعد النظام التي أمر بها الإسلام؛ حتى تثمر جهودُهم ولا تضيع، فإن القليل من العمل بنظام والدوام عليه، خيرٌ من الكثير مع الفوضى والانقطاع.
النوع الثاني: وسائل تبليغ الدعوة بصورة مباشرة.وهذه الوسائل تكون بالقول، وبالعمل، وبسيرة الداعية التي تجعله قدوةً حسنة لغيره، فتجذبهم إلى الإسلام، ومن هذه الوسائل ما يأتي: التبليغ بالقول: القول في مجال التبليغ أنواعٌ متعددة؛ منها: المناقشة، والجدل، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والكلمة الوعظية، والنصيحة الأخوية، والفتوى الشرعية، وقد تكون بعض الوسائل نافعةً في زمن دون زمن، وفي مجتمع دون آخرَ، والداعيةُ الحكيم هو الذي يختار الوسائلَ المناسبة لكل عصر ومِصر.
ووسيلة التبليغ بالقول تُبلَّغ عن طريق الوسائل الآتية:أ- التبليغ بالعمل: والتبليغ بالعمل هو كل فعل يؤدي إلى إزالة المنكر ونُصرةِ الحق وإظهاره، والأصلُ في ذلك قولُه - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن رأى منكم منكرًا، فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان))؛ [مسلم، كتاب الإيمان، باب كون النهي عن المنكر من الإيمان،1 / 69].
والتبليغ بالعمل كما يكون بإزالة المنكر، يكون بإقامة المعروف؛ كبناء المساجد، وبناء الجامعات والمعاهد والمدارس الإسلامية، وإقامة المكتبات فيها وتزويدها بالكتب النافعة، وبناء المستشفيات الإسلامية، ودُور الرعاية الاجتماعية، وطبع الكتب الإسلامية وتوزيعها، واختيار الرجل الصالح للعمل في هذه المجالات وفي المجالات المهمة.
وهذا كله - في الحقيقة - دعوةٌ صامتة إلى الله - تعالى.
جـ- التبليغ بالسيرة الحسنة:من وسائل التبليغ المهمة في تبليغ الدعوة إلى الله، وجذب الناس إلى الإسلام - التبليغُ بالسيرة الطيبة للداعي، وأفعاله الحميدة، وصفاته العالية، وأخلاقه الكريمة، والْتزامه بالإسلام ظاهرًا وباطنًا؛ مما يجعله قدوةً طيبة، وأُسوة حسنة لغيره؛ لأن التأثير بالأفعال والسلوك أبلغُ من التأثير بالكلام وحده.
وأصول السيرة الحسنة التي يكون بها الداعية قدوةً طيبة لغيره - ترجع إلى أصلين عظيمين: حُسن الخلق، وموافقة العمل للقول.
فحسنُ الخلق كلمةٌ يندرج تحتها كثيرٌ من الصفات؛ كالتواضع، والوفاء بالعهد، والأمانة، وقوة العزيمة، والشجاعة، والصبر، والشكر، والحلم، والرفق، والتقوى، والحياء، والعفو، والصفح، والجود، والكرم، والصدق، والعدل، وحفظ اللسان، والرحمة.
وموافقة القول للعمل هي أن يكون فعل الداعية موافقًا للطريق المستقيم، وسيرته تطبيقًا عمليًّا لقوله، ولا يخالف ظاهرَه باطنُه، فإن أمَر بشيء الْتزمه، وإن نَهى عن شيء كان أولَ تاركٍ له؛ ليفيد وعظُه، وينفع إرشاده ويثمر، ويقتدَى به، فإن كان يأمر بالخير ولا يفعله، وينهى عن الشر وهو واقع فيه، فهو بحاله هذه عَقَبة في سبيل الدعوة إلى الله - تعالى.
وللحديث صلة - إن شاء الله تعالى.