القيمة والثمار التربوية للابتلاء
مدة
قراءة المادة :
6 دقائق
.
للابتلاء بأنواعه المختلفة ومظاهره العديدة دور عظيم في تربية النفوس، وتدريبها على تحمل المشاق، وتهيئتها لمواجهة أي ظرف طارىء أو محتمل، كما أن فيها تدريبًا للقوى العقلية والذهنية وتوجيهًا لها كي تسيرَ على المنهج السوي الذي يحقق الغاية المرجوة منها، كما أن في ذلك حماية لها من الزيغ والانحراف، وسنشير فيما يلي إلى أهم الثمار التربوية لعملية الابتلاء .
1- الابتلاء تربية بالخبرة:
إن المبتلى بالذنوب أو بالضراء يصبح لديه من الخبرة ما يمكنه من معالجة ذلك مستقبلا معالجة صحيحة، يقول ابن القيم : المبتلى بالذنب يصبح كالطبيب المجرب الذي عرف المرض مباشرة، ومن ثم فهو يعرف كيف يعالجه علاجًا صحيحًا، وهذا معنى قولهم: أعرف الناس بالآفات أكثرهم آفات.
وهذه قيمة معرفية أولا، وهي ثانيا قيمة عملية تفيد في معالجة الحالات المماثلة.
إن تربية الإنسان وتأديبه يقتضيان في بعض الأحيان إذاقته بعض ما يكره من المصائب أو الآلام، وعندئذ تكون مصلحة الإنسان نفسه هي التي اقتضت أن يصيبه من اللّه عز وجل بعض الابتلاءات التي تتربى بها نفسه وتتهذب عن طريقها أخلاقه.
2- التدرب على الحذر وأخذ الحيطة:
يقول ابن القيم: من فوائد الابتلاء تحرز المبتلى من مصائد العدو ومكامنه ومعرفة من أين يدخل عليه اللصوص وقطاع الطرق؟ وأين تقع مكامنهم؟ ومن أين يخرجون عليه؟ وفي أي وقت؟ وهو بهذه المعرفة قد استعد لهم وتأهب للقائهم وعرف كيف يدفع شرهم وكيدهم، ولو أنه مر عليهم على غرة وطمأنينة لم يأمن أن يظفروا به ويجتاحوه جملة.
3- اكتساب القوة والشجاعة في مواجهة الأعداء:
إن التخلص من داء الغفلة يؤدي إلى استجماع القوى، والتشجع لمحاربة العدو من شياطين الإنس والجن، فقد ينشغل الإنسان عن عدوه اللدود وهو الشيطان والنفس الأمارة بالسوء وبطانة الشر، فإذا أصابه منهم سهم استجمع قوته وحميته وطالب بثأره إن كان قلبه حرًا كريمًا، كالرجل الشجاع إذا جرح فإنه لا يقوم له شيء بعدها حتى تراه هائجا مقداما، أما القلب الجبان المهين إذا جرح فهو كالرجل الضعيف، إذا جرح ولى هاربًا فيفقد بذلك مروءته، ولا خير فيمن لا مروءة له يطلب بها الثأر من عدوه، ولا عدو أعدى للإنسان من الشيطان.
4- المعرفة المباشرة بأمراض النفس وكيفية علاجها:
كما أن للابتلاء أثره الفعال في مقاومة آفات الجسد والتغلب عليها، فإن له أيضا دوره الفعال في معرفة أمراض النفوس وكيفية معالجتها، وهذه هي حال المؤمن يكون فطنًا حاذقًا أعرف الناس بالشر وأبعدهم منه، فإذا تكلم في الشر وأسبابه ظننته من شر الناس، فإذا خالطته رأيته من أبر الناس، والمقصود أن من بلي بالآفات صار من أعرف الناس بطرقها، وأمكنه أن يسدها على نفسه وعلى الآخرين.
5- تدريب القوى العقلية وتنشيطها للقيام بمهامها على الوجه الأكمل، ويتمثل ذلك فيما يلي:
أ- اليقظة:
إن صدمة الابتلاء -خاصة بالضراء- هي بمثابة صيحة النذير لقوم نيام تنبههم من سبات نوم الغفلة، وسكرة أحلام اليقظة، وهذه اليقظة هي -كما يقول ابن القيم- "أول منازل العبودية، وتعنى انزعاج القلب لروعة الانتباه من رقدة الغافلين، وللّه ما أنفع هذه الروعة وما أعظم قدرها، وما أقوى إعانتها على السلوك، ومن اليقظة ينتقل الإنسان إلى منزلة العزم (وهو العقد الجازم على الشيء)، وبحسب كمال انتباهه ويقظته تكون عزيمته، وبحسب قوة عزمه يكون استعداده"، وبحسب استعداده يكون تذكره.
ب- التفكر والتأمل والاعتبار:
إذا ابتلى الإنسان واستيقظ بدأ مرحلة التفكر والتأمل وإعمال الخاطر في تجربة الابتلاء، ورددها قلبه معتبرًا، يقول ابن القيم رحمه اللّه: "أصل الخير والشر من قبل التفكر، لأن الفكر مبدأ الإرادة والطلب وأنفع الفكر الفكر في مصالح المعاد (ما يتعلق بالآخرة) وفي طرق اجتلابها، وفي دفع مفاسد المعاد، وفي طرق اجتنابها، فهذه أربعة أفكار هي أجل الأفكار، ويليها أربعة: فكر في مصالح الدنيا ، وطرق تحصيلها، وفكر في مفاسد الدنيا، وطرق الاحتراز منها.
ج- التذكر:
إن وقوع الابتلاء هو في الحقيقة نعمة من اللّه وفضل منه، لأنه يذكر الإنسان ويثبته على صراط ربه المستقيم {وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} [الأنعام:126].
وعلى الإنسان أن يتذكر مصيره لو أنه ترك لهواه بدون تذكرة، وعند الابتلاء يتذكر الإنسان حاله في الدنيا وحاله في الآخرة، وينظر أيهما أفضل أن يبتلى هنا أم هناك، وعند ساعة الاضطرار والابتلاء يعرف العبد أنه لن يكشف السوء إلا اللّه، إن المرء إذا أفلح في الوصول بالتذكر بعد النسيان إلى هذه المرحلة من التدرج والارتقاء شيئًا فشيئًا، فقد أوتي حكمة من عند اللّه.
ويتأكد هذا المعنى للابتلاء بقوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201].
فالتذكر يورث البصيرة، والمقصود به هنا -كما يقول ابن كثير - أنهم تذكروا عقاب اللّه وجزيل ثوابه، ووعده ووعيده، فتابوا وأنابوا واستعاذوا باللّه ورجعوا إليه من قريب.
6- تمحيص القلب وتزكيته:
إن للابتلاء دورًا عظيمًا في تمحيص القلب أي تخليصه من الشوائب غير الإيمانية، فإذا تمحص القلب وخلص قويت فيه دواعي الخشية والخوف والرجاء ونحو ذلك من الأحوال المحمودة، وإذا قويت هذه ضعفت للتو واللحظة أحواله المذمومة من نحو الوسوسة والغيظ والكبر والنفاق ونحوها مما يعرف بأمراض القلوب ، وهي أعظم من أمراض الجسم.
وما يصيب المؤمن في الدنيا من المصائب (والابتلاءات) هي بمنزلة ما يصيب الجسم من الآلام التي يصح بها وتزول أخلاطه الفاسدة، فكذلك الابتلاءات يصح بها القلب وتزول عنه شوائبه.
(من كتاب: نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم)