أرشيف المقالات

عصر الخفاء في مصر الإسلامية

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
8 4 - الحاكم بأمر الله للأستاذ محمد عبد الله عنان والآن ماذا نستطيع أن نقرأ في هذا الثبت الدموي الحافل من خواص الحاكم وصفاته؟ لقد كانت هذه الجرائم المثيرة بلا ريب عنوان اجتراء مروع على الشر، وشغف واضح بالسفك واحتقار بين للحياة البشرية؛ ولكنها لم تكن نزعة دموية فقط، ولم تكن بالأخص دون غاية.
كان الإرهاب في نظر الحاكم وسيلة للحكم، وكان القتل المنظم دعامة هذا الإرهاب الشامل؛ فإذا زعيم أو رجل من رجال الدولة وصل إلى مدى خطر من السلطان والنفوذ، فإن القتل انجح وسيلة لسحقه وسحق نفوذه؛ وإذا بدرت من فريق من الناس بادرة تذمر أو تمرد على أمر من الأوامر أو قانون من القوانين، فإن إزهاق عدد منهم يكفل عودهم إلى السكينة والخشوع.
وكانت هذه السياسة الدموية تحيط عرش الحاكم بسياج منيع من الرهبة، وتخمد الأطماع المتوثبة في مهدها، وتنذر الزعماء ورجال الدولة بالخضوع المطلق لهذا الفتى الجريء.
ولقد كان القتل دائماً وسيلة الطغاة إلى تأييد سلطانهم، وكان الحاكم طاغية قوى النفس والشكيمة.
وقد كانت الأهواء والفورات العنيفة التي تجيش بها نفس الحاكم تمد هذه السياسة الدموية بروح من الإسراف والقسوة، ولكنها كانت في نظره قبل كل شيء وسيلة من وسائل الحكم، وكان لها بلا ريب اكبر الأثر في توطيد سلطة الحاكم، وسحق عناصر الخروج والثورة التي تتربص عادة بأمثاله الطغاة المسرفين هذا ويفسر لنا بعض المؤرخين المسلمين إسراف الحاكم في القتل بأنه كان تقرباً منه (لزحل وطالعه المريخ)، وقد كان الحاكم شغوفاً بالفلك ورصد النجوم كما سنرى، ولكنا لا نستطيع أن نسيغ هذا الرأي من الوجهة التاريخية، فليس في سيرة الحاكم رغم شذوذه، وتباين معتقداته وشغفه بالخفاء، ما يدل على أنه كان يأخذ بمثل هذه الرسوم الوثنية المثيرة - 6 - كان شغف الحاكم بالليل من اظهر خواص هذه المرحلة الأولى من حكمه.
كان الحاكم يعقد مجالسه ليلاً، ويواصل الركوب كل ليلة، وينفق شطراً كبيراً من الليل في جوب الشو والأزقة (سنة 391هـ)، وكانت القاهرة تبدو في هذه الفترة بالليل، كأنها شعلة مضيئة؛ وتجري جميع المعاملات بالليل، وتختلط حياة الجد بحياة اللهو والقصف، فتسطع الميادين والمنتديات بالوقود والزينات، وتغص بصنوف اللهو والمرح.
فلما خرج الناس في ذلك عن الحد، وبالغوا في اللهو والإسراف والزينة، منع الحاكم النساء من الخروج ليلاً لكي تخف عوامل الفتنة والغواية، ثم أمر بمنع الرجال من ارتياد الحوانيت والمقاهي، وعاد الظلام يخيم على القاهرة بالليل؛ وشغف الحاكم بالليل وظلماته من غريب أطواره ونزعاته، حتى لقد لبث مدى حين يؤثر الجلوس في الظلام بيد أنه ينم في نظرنا عن روح فلسفي يزيد في غموض نفسه ولم يمض عامان أو ثلاثة حتى عمد الحاكم إلى إصدار طائفة من الأوامر والقوانين المدهشة التي لم يسمع بمثلها من قبل في أي مجتمع إسلامي، وكانت هذه المراسيم دينية واجتماعية، وكان مما يزيد في غرابتها وغموض بواعثها إنها كانت تصدر ثم تمحى بعد قليل وتستبدل بعكسها، ثم يعاد صدورها وهكذا.
وقد اتخذ المؤرخون المسلمون على كر العصور هذه المراسيم حجة للحكم على الحاكم وعصره بأقسى الأحكام، واكتفوا في تعليلها بنظرية بسيطة، هي أن الحاكم كان ذهناً مضطرباً لا يصدر عن روية أو حكمة، ولم تكن هذه الأوامر والإجراءات الشاذة سوى نزعات مخبول لا يستقيم له منطق أو غاية.
ويحسن قبل أن نناقش هذا الرأي أن نستعرض المراسيم أولاً، وان نحاول أن نتفهمها، وان نستقصي بواعثها على ضوء الظروف التي كان يجوزها المجتمع يومئذ ونبدأ بالمراسيم الاجتماعية.
في سنة 395هـ، صدرت أول طائفة من هذه القوانين المدهشة، فمنع الناس من أكل الملوخية والترمس والجرجير والتوكلية والدلينس، وحرم ذبح الأبقار السليمة إلا في أيام الأضحية، وحرم بيع الفقاع وعمله البتة وحرم صيد السمك الذي لا قشر له وكذلك بيعه؛ وحرم دخول الحمام بلا مئزر؛ وحرم على النساء أن يكشفن وجوههن في الطريق، أو خلف الجنائز، وحرم عليهن التزين والتبرج؛ وشدد الحاكم في تنفيذ هذه الأوامر، وعوقب كثيرون من المخالفين بالجلد والتشهير والإعدام.
ثم حرم على الناس أن يخرجوا من منازلهم إلى الطرقات بعد الغروب، وان يزاولوا البيع والشراء بالليل، فخلت الطرق من المارة، وأقفرت الشوارع والميادين بالليل، وغدت القاهرة كالمدينة المحصورة؛ وحرم شرب الخمر من نبيذ وغيره، وكسرت أواني الخمور وأريقت في كل مكان، وأمر بتتبع الكلاب وقتلها أينما وجدت، فطوردت في كل مكان وأعدمت حتى خلت منها كل الطرق والدور؛ وفي هذا العام أيضاً حرم على كل من يركب مع المكاريين أن يدخل راكباً من باب القاهرة، وحرم ذلك على المكاريين أنفسهم، وحظر على التجار والباعة أن يجلسوا على باب الزهومة (من أبواب القصر)، وألا يمشي أحد بحذاء القصر، ثم أعفى المكارية بعد ذلك من الأمر وصدر لهم أمان خاص وهكذا اضطربت أوضاع الحياة الاجتماعية المصرية، واستمر تطبيق القوانين والأوامر الجديدة على اشده.
وفي سنة 398هـ صدرت عدة مراسيم جديدة؛ فمنع الناس من التظاهر بالغناء، ومن ركوب البحر للتفرج، وذلك لمناسبة نقص النيل في هذا العام؛ وشدد في منع بيع الخمور؛ ثم صدر مرسوم بمنع الناس كافة من الخروج قبل الفجر وبعد العشاء، فزادت المعاملات اضطراباً واشتد الأمر على الكافة، وسرى إليهم الخوف والجزع، واشتد الغلاء، وتفاقمت الحال بظهور الوباء، وعصف المرض والموت، وعز القوت والدواء.
وفي سنة أربعمائة صدرت أوامر جديدة بالتشديد في حظر الخمور وبيعها؛ ومنع ركوب المراكب في الخليج، وسدت أبواب القاهرة التي تلي الخليج وأبواب الدور والطاقات المطلة عليه وعوقب الكثيرون من اجل إحراز الفقاع والملوخية والسمك الذي لا قشر له ومن اجل بيع النبيذ وإحرازه، وكانت العقوبة تصل في أحيان كثيرة إلى الإعدام.
وفي سنة اثنتين وأربعمائة منع النساء من زيارة القبور، فلم ير في الأعياد بالمقابر امرأة واحدة، وحظر الاجتماع على شاطئ النيل للتفرج؛ وحرم لعب الشطرنج وعوقب المخالفون بالجلد؛ وحظر بيع الزبيب واستيراده، واحرق جميع ما كان موجوداً منه، وحظر بيع العنب إلا أربعة أرطال فما دونها حتى لا يستعمل في صنع النبيذ، وحظر عصره واتلف كثير منه واغرق في النيل أو ديس في الطرقات، وسير المأمورون إلى الجيزة، وكانت يومئذ عامرة بحدائق الكروم فأتلفوا كرومها، وصودر ما كان في معاصرها ومخازنها من جرار العسل، وكسرت وأريقت في النيل، وحدث مثل ذلك في سائر الجهات وفي سنة أربعة وأربعمائة صدر مرسوم بتحريم صناعة التنجيم والكلام فيها، وان ينفى المنجمون من سائر المملكة، فاستغاث المنجمون بالقاضي الأكبر مالك بن سعيد الفارقي، فعقد لهم التوبة من هذه الصناعة، واعفوا من قرار النفي؛ وحدث مثل ذلك للمغنين والمطربين، فهجروا الغناء واعفوا من المطاردة؛ وشدد في قتل الكلاب مرة أخرى.
وفي شعبان من هذه السنة ذهب الحاكم في معاملة النساء إلى ذروة القسوة والشدة، فاصدر مرسومة الشهير بمنعهن من مغادرة دورهن والخروج إلى الطرقات بالليل والنهار، ومنعهن من دخول الحمامات العامة، ومنع الأساكفة من عمل خفافهن، فاختفى النساء من المجتمع المصري، وساده الانقباض والوحشة، وأغلقت المتاجر التي تبيع السلع النسوية، وساد الذعر بين النساء، ولزمن دورهن في روعة وخشوع، وعوقب كثير من المخالفات بالموت؛ واشتد الأمر بنساء الكافة اللائى ليس لهن من يقوم بأمرهن واستغثن بأولي الأمر، فأمر الباعة أن يحملوا السلع والأطعمة وكل ما يباع في الأسواق إلى الدروب، ويبيعوه للنساء في منازلهن، وان يحمل الباعة أداة كالمغرفة لها ساعد طويل يمد إلى المرأة وهي من وراء الباب وفيه ما تشتريه، فتتناوله وتضع مكانه الثمن، ولا يسمح لها مطلقاً أن تبدو من وراء الباب وعانى النساء هذه الشدة زهاء سبعة أعوام حتى وفاة الحاكم بأمر الله، وكان حادثاً منقطع النظير.
ولم يحدث قط في أي مجتمع إسلامي، بل لم يحدث في أي عصر من عصور التاريخ أن عانى النساء مثل هذه المحنة القاسية، وسلبن الحرية على هذا النحو الشامل وكان مما يزيد في صرامة القوانين الاستثنائية، الشدة في تنفيذها، وروعة العقوبات التي سنت لمخالفيها؛ وكان السهر على تطبيقها من أهم واجبات مدبر الدولة أو قائد القواد؛ فنجد مثلاً في السجل الصادر بتعيين (غين) قائداً للقواد ومديراً للشرطة والحسبة، (سنة 402هـ) تنويهاً خاصاً بمراعاة تحريم النبيذ وغيره من الخمور وتتبع ذلك والتشديد فيه، وفي تحريم الفقاع وبيعه، وتحريم أكل الملوخية والسمك الذي لا قشر له، والمنع من الفرجة والملاهي كلها، ومنع النساء من حضور الجنائز، ومنع بيع الزبيب والعنب والعسل الخ، وكانت العقوبات تختلف بين التشهير والجلد، وتصل في أحيان كثيرة إلى الإعدام هذه خلاصة وافية لما أصدر الحاكم أو أصدر في عهده من المراسيم والأوامر الاجتماعية الاستثنائية، ومعظمها يحمل طابع القسوة والشذوذ؛ ولكن سنرى إنها لم تكن دون غاية، ولم تصدر كما يبدو لأول وهلة، عن نزعة مخبول أو هائم، وان كثيراً منها يحمل بالعكس طابع الطرافة والحكمة، ويرمي إلى غايات بعيدة قد فطن إليها هذا الذهن الجريء، واتخذ منها مثلاً - 7 - نعرض بعد ذلك إلى طائفة أخرى من مراسيم الحاكم بأمر الله هي المراسيم الدينية، وقد كانت كالمراسيم الاجتماعية تحمل في كثير من الأحيان طابع الشدة والتناقض وبدأ الحاكم بهذه المراسيم الدينية لأول عهده بالحكم أيضاً.
ففي سنة 395هـ، اصدر أمره للنصارى واليهود بلبس الغيار وشد الزنار؛ وفي سنة 99 أمر بهدم بعض كنائس القاهرة ونهب ما فيها، ونفذت الأوامر بهدم كنيسة قمامة (القبر المقدس) ببيت المقدس ونهبها، ولكن أكابر الأحبار والنصارى سعوا على ما يظهر حتى عدل عن تنفيذ الهدم؛ وفي العام التالي صدر مرسوم جديد بالتشديد على اليهود والنصارى في لبس الغيار وتقلد الزنار.
وفي سنة 402 صدر مرسوم شامل ضد النصارى واليهود، يقضي بأن يلبسوا العمائم السود، وان يعلق النصارى في أعناقهم صلباناً ظاهرة من الخشب طول الواحد منها ذراع في ذراع ووزنه خمسة أرطال، وان يعلق اليهود في أعناقهم قرامي من الخشب زنتها خمسة أرطال أيضاً.
وحرم على الفريقين معاً ركوب الخيل، وان يكون ركوبهم الحمير والبغال بسرج من الخشب وسيور سود عاطلة من كل حلية، وألا يستخدموا مسلماً أو يقتنوا عبداً مسلماً أو جارية مسلمة، أو يركبوا حماراً لمكاري مسلم، أو سفينة لملاح مسلم، وأن يحمل النصارى الصلبان، واليهود الأجراس في أعناقهم عند دخول الحمام تمييزاً لهم عن المسلمين؛ ثم أفردت لهم بعد ذلك حمامات خاصة، وعلقت الصلبان على حمامات النصارى، وقرامي الخشب على حمامات اليهود، وطبقت هذه الأوامر والقوانين بمنتهى الصرامة فاشتد الأمر على اليهود والنصارى وساد بينهم الروع والرهبة، وأسلم كثيرا منهم تجنباً لهذه المطاردة ونفى الكثير منهم خارج الديار المصرية، وهدم كثير من الكنائس والأديار والبيع ونهبت، وصدر بعد ذلك أمر جديد بهدم كنيسة قمامة (القبر المقدس).
وعانى اليهود والنصارى هذه المحنة أعواماً، وكانت من اشد ما عانوا في ظل الدولة الإسلامية بمصر.
ثم خفت وطأة المطاردة عنهم، وأطلقوا من بعض قيودهم، وسمح لهم بتجديد ما درس من الكنائس والبيع، وارتد كثير ممن أسلموا منهم إلى دينه الأول، بيد انهم لبثوا يعانون آثار المحنة حتى وفاة الحاكم بأمر الله ولقد كانت هذه المطاردة الصارمة للذميين من أهم ظواهر عصر الحاكم بأمر الله؛ وكانت بلا ريب خطة مقررة، ولم تحمل في مجموعها طابع التناقض، ونستطيع أن نقول إنها كانت انقلاباً جوهرياً في السياسة الفاطمية إزاء اليهود والنصارى.
ذلك إن الدولة الفاطمية، كانت منذ قيامها بمصر تؤثر سياسة التسامح الديني، وتذهب في هذا التسامح إلى ابعد مدى، فتصطفي اليهود والنصارى، وتوليهم الثقة والنفوذ، وكان بين وزرائها كثير من اليهود أو النصارى مثل الوزير يعقوب بن كلس وزير المعز، ثم ولده العزيز، فقد كان يهودياً ثم اسلم، وكان اعظم وزراء الدولة الفاطمية؛ وعيسى بن نسطورس النصراني، ومنشا اليهودي، وزيرا العزيز بالله؛ وتولى الحكم ثلاثة من الوزراء النصارى في الفترة الأولى من عصر الحاكم ذاته، هم الرئيس فهد بن إبراهيم، وابن عبدون، وزرعة بن عيسى بن نسطورس،.
وكان النصارى واليهود يتمتعون قبل عصر الحاكم بكثير من الحرية والتسامح، ويؤذن لهم ببناء الكنائس والأديار والبيع.
ولم يشذ الحاكم عن هذه السياسة لأول عهده، وكان ذلك راجعاً إلى نفوذ الوزراء النصارى، وربما إلى نفوذ أمه النصرانية وأخته ست الملك، وقد كانت تؤثر سياسة أبيها العزيز في الرفق بالذميين؛ ولكن الحاكم انقلب فجأة إلى سياسة المطاردة الدينية، وأبدى في تطبيقها منتهى الغلو والتطرف، بيد إنا سنرى أن هذه السياسة ترجع أيضاً إلى بواعث لها خطرها وقيمتها. للبحث بقية محمد عبد الله عنان المحامي

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢