حوار مع سائق توك توك!
مدة
قراءة المادة :
7 دقائق
.
حوار مع سائق توك توك!مِن أجلِّ العبادات التي تعبَّدَنا الله بها:
تبليغ رسالات الله تعالى، ومع الصور المتعددة لتبليغ الدعوة؛ فإن "الدعوة الفردية" تحتلُّ المرتبة العُظمى في كل تلك الصور الدعوية قاطبة، وهي التي بدأ بها نبينا - صلى الله عليه وسلم - حياته الدعوية.
وفي إحدى الجولات الفردية التي أقتدي فيها بنبينا - صلى الله عليه وسلم - كنت أتحدثُ مع أحد الإخوة الفضلاء ممن يَبيعون "الكُشَري"، وجاره الذي يَبيع "المخبوزات"، وغيرهما، وأنا جالس معهما في حوار في منتهى الهدوء، والمحبة؛ إذ بصاحب "توك توك" يتوقف فجأة، ويهجم علينا ليقاتلنا قتالاً شرسًا في صورة الحوار، وكانت أولُّ قنبلة فجَّرَها بوقوفه أن قال: يقول تعالى: ﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 44]، ثم واصَل كلامه بأن جميع السلفيِّين، والإخوان مخالفون للشريعة التي يزعمون أنهم يريدون تطبيقها!
فلما استفهمته عن سبب مخالفتهم للشريعة أخبرني بأنهم رضوا بالانتخابات، والانتخابات بدعة، وضلالة ليست في الإسلام، وأنه لا يرجع إلا لرأي شيخ الأزهر الذي انتخبه الأزهر الشريف، وكان كعادةِ الكثيرين من المصريِّيْنَ محتدًّا في حواره جدًّا، فقلت له:
هل يمكن أن تتفضَّل بسماعي؟
وبالكاد سمح لي بالكلام، فقلت له: أخي الحبيب، هناك عدة نقاط أريد توضيحها في عجالة:
أولاً: شيخ الأزهر ليس مُنتخبًا من قبل العلماء، بل هو معيَّن مِن قِبَل المخلوع.
ثانيًا: شيخ الأزهر الذي تعتبره مرجعك الأوحد الذي لا يَجوز الرجوع لغيره يقول بجواز الانتخابات ومشروعيتها.
ثالثًا - وهي أهمُّ من كل ما سبق -: إن الله - جلَّ شأنه - لم يأمرنا بالرجوع لشيخ الأزهر، وإنما قال لنا: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾ [النساء: 59]، فقد أمرَنا الله في الآية الكريمة بالرجوع إلى الله ورسوله؛ أي: إلى الكتاب، والسنَّة، والكتاب والسنَّة يعلمهما العلماء الربانيون، ومِن ثمَّ فالواجب علينا أن نرجع إلى العلماء الربانيين سواء أكانوا من الأزهر، أم غير الأزهر، ثم عرضت عليه الأدلة الشرعية للانتخابات، أنهى الحوار بما بدأ به، وانصرف!
وكم أأسف لعدم إيجابية الحوارات في معظم الأحوال.
أعلم أن البعضَ يريد الفهم، ولكنهم قِلَّة قليلة إلى جانب المجادلين الذين لا يقصدون غير الجدل المحض، والحقيقة أنه على قائمة أولويات احتياجاتنا القصوى أن نتعلم أدب الحوار، والذي يفتقده معظمنا - إلا مَن رحم ربي - وليس هدفي من الرسالة البتة شرح تلك الآداب الهامَّة، ودورها في تفعيل إيجابية الحوار، وتسخيره في بناء الأمة، وصلاح المجتمع، ولكنَّ كل قصدي هو لفت النظر إلى الأسلوب المستفز الذي أصبح منهجًا لدى الكثير من الناس، إلا من رحم ربي ،ومن أبرز هذا الأسلوب المستفز ما جرى من الأخ الفاضل سائق "التوك توك".
ومن ذلك: اختلاق أساس باطل، ثم تَبَنِّي عدة آراء على هذا الأساس الباطل، والإنصاف يقتضي إذا تبيَّن لصاحب ذلك الأساس بطلان أساسه الذي بنى عليه آراءه الشخصية أن يعود عن تلك الآراء الخاطئة التي بناها على أساس تبيَّنَ له بطلانه من بعد.
ومن هذا الأسلوب المستفز أيضًا: ادِّعاء الآراء الشخصية بناءً على عقيدة معيَّنة يدعِي الإيمان بها، فإذا ثبت له أن القاعدة التي ادعى إيمانه بها تقتضي الرجوع عن رأيه؛ كفَر بتلك العقيدة، ولم يلتزم بها، وهذا الأسلوب المُستفزُّ إن دلَّ لا يدلُّ إلا على عدم صدق النية في الوصول للحق، كما يدلُّ على تعسُّف الإنسان في تبني آرائه، وإلى هلامية أُسُسِه، وعقائده، وإلى تأرجحه بين الأهواء الشخصية التي لا يريد الإفصاح عن حقيقتها، إلى غير ذلك من المعاني غير الطيبة.
وأخونا الفاضل - هدانا الله وإياه صراط الله المستقيم - بَنى موقفه من حرمة الانتخابات على ثلاثة أسُس، كلها لا نصيب لها من الصحة، وهي:
أولاً: أن المرجع الذي يجب أن يرجع إليه المسلمون هو شيخ الأزهر.
ثانيًا: أن شيخ الأزهر يأتي بانتخاب علماء الأزهر له.
ثالثًا: أن شيخ الأزهر أفتى بحُرمة الانتخابات.
وكلها - كما نعلم - أسس باطلة؛ فالأساس الأول باطل شرعًا؛ إذ مرجع الأمة الكتاب والسنَّة بفهم سلف الأمة، والأساسان الثاني والثالث باطلان واقعًا، وحقيقة كما نعلم جميعًا.
وكان واجبًا على أخينا الفاضل إذا كان صادقًا في دعواه؛ وأنه ما تبنَّى القول بحرمة الانتخابات إلا رجوعًا لفتوى شيخ الأزهر؛ أن يعود إلى مشروعيتها نهاية الحوار بعد إذ علم أن شيخ الأزهر ممن يذهب ليُدلي بصوته كسائر الناس، ولكن الحقيقة - كما يتضح لنا بعد انصرافه على ما دخل به - أننا نفتقد للتجرُّد في الحوار، إلا من رحم الله، ونتبنى مواقف عدائية لبعض الفضلاء بغير تثبُّت، والأولى بذوي الألباب أن يثوبوا لرشدهم قليلاً حتى يتبيَّن لهم الحق، وذلك أن أول سبل الهداية صدق المرء في طلبها، فمن صدقَ اللهَ؛ صدقه اللهُ، ومن طلب الهداية بصدق بلَّغه الله إياها؛ كما هدى غلام الأخدود، وكما هدى قاتل المائة، وكما هدى سلمان الفارسي، وغيرهم.
وأما إخفاء النيات غير الطيبة - عياذًا بالله - فلا يوصِّل صاحبه إلى خير البتة، وطبعًا لو كان هذا الموقف عابرًا لما اقتطعتُ جزءًا من وقتي لتدوينه، فما كان تدوينه إلا نتيجة الاصطدام بهذا اللون مِن الحوار في معظم طبقات المجتمع؛ سواء أكانوا مِن الجامعيين، أم مِن غيرهم من ذوي الطبقات الثقافية المختلفة.
وأخيرًا، أذكِّر نفسي وإخواني بقوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ﴾ [محمد: 17]، وبقوله تعالى: ﴿ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 10]، فمَن اهتدى وطلب الهدى بصدق، هداه الله، وزاده هُدى، أما مَن عاند، واستكبر، وانطوى قلبه على المرض، فلن يزيده الله إلا مرضًا - عياذًا بالله.
اللهم اجعلنا ممن اهتدوا فتزيدهم هدى، ونعوذ برحمتك أن نكون ممن في قلوبهم مرض فتزيدهم مرضًا.
وآخِر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد ألا إله إلا أنت، نَستغفِرك ونتوب إليك.