int(1732) array(0) { }

أرشيف المقالات

قيمة الكلمة ومسؤوليتها

مدة قراءة المادة : 67 دقائق .
قيمة الكلمة ومسؤوليتها
1414هـ..
(نسخة مصحّحة)

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
- صلى الله عليه وسلم - تسليما كثيراً.
 
أما بعد:
فإن الكلمة سهلة المخرج على اللسان، غير مأمونة العواقب على الإنسان، ولكنها سلاح ذو حدين، وعلامة مفترق على طريقين.
فإن كانت طيبة كانت عظيمة النفع، وإن كانت خبيثة كانت شديدة الضرر.
 
والمسلم وهو يتعامل مع الناس يفتقر إلى الكلمة الطيبة، في كل معاملاته، ولاسيما التعامل الفكري القائم على الحوار والدعوة والتربية والتعليم فإنَّ افتقاره إلى تلك الكلمة أشد.
 
وإنَّ المتأمل في واقع التعامل الفكري بين المسلمين عموماً يجد مناهج مختلفة وأساليب مضطربة، فهذا يجنح إلى الكلمة الغليظة الفظة، وذاك يجنح إلى الكلمة الملتوية والأسلوب المراوغ، وثالث يجنح إلى الكلمات الجارحة، ورابع يهوي إصدار الأحكام الصارمة بلا هوادة، من صحة وبطلان، وتحليل وتحريم، وتكفير وتفسيق لا عن علم وبصيرة، ولكن من منطلق الأهواء والعواطف.
 
والمسلم العامي يقف محتاراً بين هذه المناهج والأساليب، إذ كلٌ يدّعي أنه صاحب الحق وغيره على الباطل، فكيف يُعرف الحق وأهله؟
إذن فالكلمة لها قيمة ولها آثار وتبعات.
 
من هنا كتبتُ هذه الصفحات في هذا الموضوع الذي أراه مهما، وذلك بعنوان «قيمة الكلمة، ومسؤوليتها» بدأته بتمهيد موجز عن اللسان وأهميته، وحقيقة الكلمة والمراد بها هنا، ثم وسائلها وأساليبها.
 
ثم جئت بمبحثين:
الأول: في الكلمة وقيمتها وأهدافها وضوابطها وفيه مطالب.
 
والثاني: في مسؤولية الكلمة وتحته مطلبان، ثم انتهيت إلى خاتمة سجلت فيها بعض العناصر المهمة.
 
أسأل الله أن ينفع به كاتبه وقارئه، إنه سميع مجيب.
والله ولي التوفيق.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم
 
تمهيد
بادئ ذي بدء يجدر بنا أن نمهد إلى الدخول في البحث بالحديث عن نقاط ثلاث لها أهمية كبيرة وصلة قوية بالبحث وهي:
1- اللسان وأهميته.
2- مفهوم الكلمة.
3- وسائلها وأساليبها.
 
(1)
إن اللسان من أكبر نعم الله تعالى على الإنسان، ومن أعظم آياته الكونية.
قال الله عز وجل: ﴿ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ﴾[1] وقال: ﴿ وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ ﴾[2] وإن كان المقصود بالألسنة هنا: المنطق واللغة، وليس اللسان ذاته[3]، لأن المهم أثر اللسان وليس ذات اللسان.
 
وهو من أكبر مميزات الإنسان عن العجماوات حتى قال المناطقة في تعريف الإنسان: هو الحيوان الناطق[4].
 
وما أصدق قول زهير بن أبي سلمى:






لسان الفتى نصف ونصف فؤاده
فلم يبق إلا صورة اللحم والدم






 
ولولا هذا اللسان ما استطاع الإنسان أن يُحقق مراداته، فإنه «ترجمان يعبر عن مستودعات الضمائر، ويخبر بمكنونات السرائر، لا يمكن استرجاع بوادره، ولا يقدر على ردّ شوارده»[5].
 
قال أبو حاتم البستي (تـ 354هـ): «واللسان فيه عشر خصال يجب على العاقل أن يعرفها، ويضع كل خصلة في موضعها، هو أداةٌ يظهر بها البيان، وشاهدٌ يُخبر عن الضمير، وناطقٌ يرد به الجواب، وحاكمٌ يفصل به الخطاب، وشافعٌ تدرك به الحاجات، وواصف تعرف به الأشياء، وحاصدٌ يُذهب الضغينة، ونازع يجذب المودة، ومسل يُذكي القلوب، ومعز تُردُ به الأحزان»[6].
 
ومما يؤكد هذه الأهمية للسان الحديث الشريف: «إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفّر[7] اللسان، فتقول: «اتق الله فينا، فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا»[8].
 
(2)
الأصل اللغوي لـ «الكلمة» من الكَلْم: وهو التأثير المدرك بإحدى الحاستين السمع والبصر، فالكلام مدرك بحاسة السمع، والكَلْم بحاسة البصر، وتقول: كلّمتُه: جرحته جراحة بان تأثيرها.
 
فالكلام يقع على الألفاظ المنظومة، وعلى المعاني التي تحتها مجموعة.
 
وعند النحويين يقع على الجزء منه اسما كان أو فعلا أو أداة[9].
 
وجاء في لسان العرب: قال ابن سيده: الكلام: القول، معروف.
ومثل: الكلام ما كان مكتفيا بنفسه وهو الجملة، والقول: ما لم يكن مكتفياً بنفسه، وهو الجزء من الجملة...
وقال الجوهري: الكلام اسم جنس يقع على القليل والكثير، والكَلم: لا يكون أقل من ثلاث كلمات لأنه جمع كلمة»[10].
 
وتُطلق الكلمة على الجملة أو العبارة التامة المعنى كما يقال في (لا إله إلا الله) كلمة التوحيد، كما تطلق على الكلام المؤلّف المطوّل[11].
 
والمعنى المراد هنا: هو الكلام المفيد[12] الموجه إلى مخاطب سواء أكان عن طريق محاورة أم مكاتبة، أم خطبة، أم درس أم غير ذلك، وسواء أكان حقاً أم باطلاً.
 
ويخرج بقولنا: الموجه إلى مخاطب، ما يتكلم به الإنسان بدون أن يوجهه إلى أحد، كالقراءة ومخاطبة الحيوان ونحو ذلك.
 
ومن الألفاظ المتصلة بلفظ الكلمة: الخطاب.
 
وهو اللفظ المتواضع عليه المقصود به إفهام من هو متهيئ لفهمه[13].
 
لما جاء في الحديث: «إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه»[14].
 
وأما الموعظة فإنها ملحقة بالخطبة، ولكنها ربما اختلفت أحيانا بحيث توجه إلى شخص أو أشخاص محدودين بقصد التذكير والتنبيه، وهي من جملة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
 
وينبغي على الواعظ أن يختار الأسلوب المناسب الذي يدخل من خلاله إلى قلب الإنسان، ترغيباً وترهيباً.
 
على ألاّ يقطنه من رحمة الله أو يُدخل اليأس إليه.
 
وأما الدرس فهو وظيفة العالم الرئيسة، ولكل من المعلم والمدرس بل والمتعلم صفات وآداب: ليس هذا مقام ذكرها[15].
ولكن أهمّ سمة للدرس هو أن يكون في فن من فنون العلم ومخاطبا به طائفة مخصوصة وهم التلاميذ.
 
وأما المحاضرة فإنها قريبة الصلة بالدرس، وهي غالباً تعالج موضوعاً معيناً باستقصاء وإحاطة، وتوجه إلى جمهور من الناس قد تختلف مستوياتهم الثقافية[16].
 
وأما المحاورة فهي ما تكون بين شخصين أو فريقين في موضوع ما مختلفان فيه وقد تأخذ طابع المناظرة أو الجدل.
 
وكل ذلك مشروع للداعي والمعلم إذا التزم بالآداب والشروط الشرعية والمرعية.
 
وهو أسلوب قديم، وقد ورد في القرآن الكريم في آيات كثيرة، سواء بلفظ المحاورة، أو بلفظ الجدل أو المحاجة أو غير ذلك،، كقوله تعالى: ﴿ قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ ﴾[17] وقوله: ﴿ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾[18] وقوله: ﴿وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ﴾[19].
 
وقد وضع أهل العلم لها شروطاً وضوابط مستفادة من النصوص الشرعية والقواعد العامة[20].
 
وأما الكتابة فهي أحد أبرز أساليب الدعوة، وكانت وما زالت ذات أهمية كبرى، سواء أكانت مراسلة أم تأليفاً وجمعاً عبر الرسالة، والكتاب والصحيفة وغير ذلك.
 
وهي من حيث تأثيرها وقوتها الشرعية كالخطاب، ولذلك قال الفقهاء: الكتاب كالخطاب[21].
 
تلك أهم أساليب المخاطبات على العموم.
 
أما الوسائل التي يمكن استخدامها هنا لإيصال الكلمة إلى المخاطب فهي كثيرة، لعل من أبرزها:
1- المسجد.
2- المنبر.
3- المدرسة.
4- وسائل الإعلام من صحيفة وإذاعة وتلفاز ونحوها.
5- الكتاب، أو القلم.
 
وهي واضحة لا تحتاج إلى بيان.
 
المبحث الأول
قيمة الكلمة وأهدافها وضوابطها
وفيه مطالب:
المطلب الأول: قيمة الكلمة:
الكلمة خفيفة على اللسان، سهلة النطق والجريان، ولكن لها قيمة في نظر العقلاء وفي نظر الشارع الحكيم.
 
أما عند العقلاء: فيقول أكثم بن صيفي: «رب قول أشد من صول».
 
ويقول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: «من كثر كلامه كثر سقطه»[22].
 
وقال بعض الحكماء: كلام المرء بيان فضله وترجمان عقله، فاقصره على الجميل واقتصر منه على القليل.
 
وقال بعضهم: من أعجب بقوله أصيب بعقله.
 
وقيل: إذا تم العقل نقص الكلام.
 
ورأى بعضهم رجلاً يُكثر الكلام ويقل السكوت فقال: إن الله إنما خلق لك أذنين ولسانا واحداً ليكون ما تسمعه ضعف ما تتكلم به[23].
 
وقال شاعر:






وزن الكلام إذا نطقت فإنما
يبدي عيوب ذوي العيوب المنطق






 
وقال آخر:






الصمت زين والسكوت سلامة
فإذا نطقت فلا تكن مكثارا


فإذا ندمت على سكوتك مرة
فلتندمن على الكلام مراراً[24]






 
ذلك عند العقلاء.
 
أما في نظر الشارع الحكيم - وحسبك به حاكماً ودليلاً - فإننا نجد في القرآن الكريم وفي السنة النبوية الشريفة نصوصاً كثيرة تُؤكّد على قيمة الكلمة وتُنوّه بشأنها وعظيم خطرها، ومن ذلك: قول الله عز وجل: ﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾[25] قيل في معنى الآية: يكتب على العبد كل ما يتكلم به، فإذا كان آخر النهار محى عنه ما كان مباحاً، نحو انطلق واقعد مما لا يتعلق به أجر ولا وزر[26] وقال عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ﴾[27].
 
قال ابن كثير في قوله تعالى ﴿ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ﴾ [الأحزاب: 70] أي مستقيماً لا اعوجاج فيه ولا انحراف»[28] ومن السنة: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «كفى بالمرء كذباً أن يُحَدّث بكل ما سمع»[29] وقوله: «إن من أحبكم إليّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدّقون والمتفيهقون»[30] والثرثار: هو كثير الكلام تكلفا، والمتشدق: المتطاول على الناس بكلامه، ويتكلم بملء فيه تفاصحاً وتعظيماً لكلامه.
والمتفيهق: المتكبر[31].
 
ولهذه القيمة أوجب الإسلام قول الحق على المسلم في كل حال - حسب القدرة - دون مداهنة أو محاباة أو استحياء، قال الله عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا ﴾[32].
 
قال ابن عباس: «أمر الله المؤمنين أن يقولوا بالحق ولو على أنفسهم أو آبائهم أو أبنائهم لا يحابوا غنياً لغناه، ولا يرحموا مسكيناً لمسكنته»[33].
 
وقال عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -: «بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن نقول بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم»[34].
 
وقال أبو سعيد الخدري: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطيباً فكان فيما قال: «ألا لا يمنعن رجلاً هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه»[35].
 
وبهذا يتبين أنه لا يعذر المسلم من كلمة الحق إلا إذا خاف على نفسه، أو خشي أن يترتب عليها مفسدة أعظم منها.
وللقيمة نفسها حرم الإسلام كل كلمة باطلة أو تدعو إلى الباطل.
 
وإذا عرفنا هذه القيمة والأهمية للكلمة فما أسباب ذلك؟ إن ثمة عدة أسباب، منها:
1- أن الكلمة وسيلة البيان:
فالإنسان له مقاصد ومرادات وغايات في حياته يريد أن يصل إليها ويحققها، وكثير من هذه المقاصد والغايات لا يمكن الوصول إليها إلا عن طريق البيان باللسان.
 
فهو حينما يتعامل مع الناس في العقود المالية من البيع والشراء والمضاربة والصرف والإجارة ونحو ذلك يحتاج إلى الكلمة.
 
وكذلك في عقود النكاح والرجعة ونحوها لا بد من الكلمة.
 
ولذلك كان الإيجاب والقبول أحد أركان معظم العقود.
 
والإنسان حينما يريد أن يتوصل إلى ما عند الغير من علم أو مال أو جاه أو نحو ذلك فلا بد من الكلمة.
 
وهو حينما يريد الدعوة إلى الخير والحق لا بد من الكلمة، بل إنه في شتّى معاملاته مع الناس والتحدث معهم وسيلته الأولى والأخيرة الكلمة.
 
كما سبقت الإشارة في التمهيد.
 
2- إنها وسيلة للإثبات والاعتراف:
فحينما يريد الإنسان أن يثبت شيئاً مادياً أو معنوياً فهو بحاجة إلى الكلمة.
أ- فالاستدلال في الاحتجاج هو كلام.
 
ب- ولكي يثبت بأنه مسلم عند دخوله في الإسلام لا بد من كلمة التوحيد أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله.
 
ولذلك فإنه متى قالها عصم نفسه وماله وعرضه.
 
قال عليه الصلاة والسلام: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم»[36].
 
وأنكر - صلى الله عليه وسلم - على أسامة بن زيد - رضي الله عنه - قتله لرجل بعد أن قال لا إله إلا الله[37].
 
جـ- والاعتراف بما عند الإنسان من حقوق للغير يحتاج إلى كلام وكذلك الاعتراف بما للّه تعالى من حق ولذلك قال الفقهاء: «الإنسان مؤاخذ بإقراره»[38].
 
د- وإذا أراد أن يدلي بشهادة في أمر من الأمور فإنها تقوم على الكلام أيضاً.
 
وكل ذلك من الأمور الظاهرة البيّنة.
 
3- أنها وسيلة للنفي والإنكار:
أ- فإذا نُسب إلى الإنسان شيء ولم يعترف به، فوسيلته للنفي الحقيقي هي الكلمة[39].
 
ب- وإذا أراد تغيير المنكر وإزالته، فوسيلته القريبة والميسرة هي الكلمة أو القول.
 
قال الله عز وجل: ﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾[40].
 
وفي الحديث: «من رأى منكم منكراً فليُغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»[41].
 
4- أنها سبب لسعادة الإنسان أو شقائه:
فالكلمة لها أعظم الأثر في حياة الإنسان دون شك، وقد تكون سبباً لسعادته، كما قد تكون سبباً لشقائه.
 
5- وأخيراً فالكلمة هي البريد إلى القلب والعقل، وسبيل الوصول إلى الإقناع والتفاهم.
 
المطلب الثاني
أهداف الكلمة:
إن المسلم في تعامله الخطابي الفكري مع الآخرين، لا يريد به سمعة ولا ثناء من الناس، ولا جزاًء ولا شكوراً، وكان كل نبي يقول لقومه ما قال الله عنهم في كتابه: ﴿ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ﴾[42].
 
ولكن يسعى إلى تحقيق أهداف سامية عالية، تتواءم مع سمو الدين الذي يدعو إليه.
 
ولعل أبرز هذه الأهداف:-
أ- إعلاء كلمة الحق.
ب- ردّ الباطل.
جـ- كسب المخاطب.
د- الدفاع عن النفس.
 
فإلى شرح موجز لها:
(1)
إن إعلاء كلمة الحق من أسمى الغايات التي يسعى المسلم إلى تحقيقها في كل تصرفاته، لأنها هي الغاية من إرسال محمد - صلى الله عليه وسلم - كما قال سبحانه: ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾[43].
 
والجهاد وهو أبرز صور التعامل مع المخالفين (الكفار) إنما شُرع لذلك، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله»[44].
 
وهكذا الكلمة لا بد أن تسير في الطريق ذاته لإعلاء كلمة الله وراية الحق والعدل، لا أن يُراد بها مقاصد مغايرة، ولما قال الخوارج (المحكّمة): «لا حكم إلا لله» قال الإمام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - منكراً عليهم مقاصدهم: «كلمة حق أريد بها باطل»[45] ولذا كان لا بد أن تكون هذه الكلمة بعيدة عن مناهج أهل العناد واللجاج الذين وصفهم الحق تعالى بقوله: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾[46].
 
ومما يدخل في ذلك الأُغلوطات، وهي المسائل التي يُغالط بها لإيقاع الفتنة بين العلماء وغيرهم، فقد جاء النهي عنها[47].
 
(2)
ومن أهداف المسلم أيضا في خطابه الدعوي: ردّ الباطل.
 
وهذا من أنواع الجهاد، كما جاء في الحديث: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم»[48].
 
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لحسان بن ثابت - رضي الله عنه -: «أُهج المشركين، فإن جبريل معك، وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول لحسان: «أجب قريشا فإنه أشد عليهم من رشق النبل»[49].
 
فالمسلم الحق إذا رأى أو سمع باطلاً فمن حق الإسلام عليه أن يُبطل ذلك الباطل بقدر استطاعته، سواء أكان شبهة مثارة، أم قدحاً في الدين وأهله، أم سخرية منهما، أم غير ذلك.
 
(3)
ومن الأهداف أيضاً كسب المخاطب (المخالف) وذلك بردّه إلى الحق وهذا من أعظم نتائج الدعوة قال عليه الصلاة والسلام لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - لما أعطاه الراية يوم خيبر: «...
فوالله لأن يُهدَى بك رجل واحد خير لك من حمر النعم» [50].
 
وغنيٌ عن البيان أن ذلك يتطلب فقهاً عظيماً للخطاب والتعامل، يقوم على الرفق والحكمة وحسن الخلق.
 
(4)
ومن الأهداف أيضاً: الدفاع عن النفس.
 
وهذا قد يكون واجباً على الإنسان وقد يكون مندوباً وقد يكون جائزاً فإذا قُصِدَ عرضه بسوء فلا بد أن يدافع ولا يسكت، قال النووي: وأما المدافعة عن الحريم فواجبة بلا خلاف»[51].
 
وقد يكون الدفاع مندوباً في حق المال والنفس إذا كان المعتدي كافراً أو مسلماً جائراً، بحيث يجرئه العفو على ظلم الآخرين.
 
وربما كان جائزاً في الأحوال العادية[52].
 
وعلى أية حال فإن الدفاع بالكلمة أمر مشروع لا غبار عليه، قال الله عز وجل: ﴿ لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ ﴾[53].
 
وقال: ﴿ وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ﴾[54].
 
وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: كان لرجل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حق، فأغلظ له، فهمّ به أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن لصاحب الحق مقالاً»[55] الحديث.
 
وبمثل هذه الأهداف تسمو الكلمة إلى آفاق بعيدة، ومقاصد رشيدة، وتكون بعيدة عن مواطن الوحل والزغل والهزل، والتكلف المذموم.
 
كما قال الحق سبحانه: ﴿ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ﴾[56].
 
قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: «من سئل عما لم يعلم فليقل: لا أعلم، ولا يتكلف، فإن قوله: لا أعلم علم»[57].
 
ولذا قال الطبري في معنى ﴿ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ﴾ [ص: 86]: «أي أتخرص وأتكلف ما لم يأمرني الله به»[58].
 
المطلب الثالث
ضوابط الكلمة:
ليس كل كلمة أو خطاب يكون في محله ويكون له تأثيره، بل إن لكل مقام مقالاً، ولكل حادثة حديثاً.
 
ومتى أحيطت الكلمة بسياج العقل والشرع فإنها تفعل فعل السحر، كما قال عليه الصلاة والسلام: «إن من البيان لسحراً»[59].
 
إذن لا بد من ضوابط حاكمة للكلمة، حتى تؤدي غرضها.
 
ولعل سمو الهدف والصدق واختيار اللفظ المناسب واللين من أهم جوامع الضوابط.
فلنلق إضاءات حولها.
 
(1)
فسمو الهدف من أهم ضوابط الكلمة في الإسلام بل من خصائصها بحيث يُراد بها نشر الخير والفضيلة ودرء الشر والرذيلة وفي المطلب السابق أوضحنا أبرز أهداف الكلمة، بما يغني عن التكرار والإعادة.
 
(2)
والضابط الثاني: هو الصدق، وهو خلق ملازم للمسلم لا ينفك عنه أبداً، في حالة العسر واليسر، والمنشط والمكره، وفي معاملته لكل الخلق.
 
قال الله عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾[60] وضد الصدق الكذب، وهو من أمارات النفاق، قال الله عز وجل ﴿ إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ ﴾[61].
 
وفي الحديث: آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان»[62].
 
وله صور عديدة منها:
التمويه، والمخادعة، والمغالطة، والتحريف، والتأويل، وقلب الحقائق ونحو ذلك.
 
قال ابن عباس في قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ ﴾[63] «لا تخلطوا الصدق بالكذب»[64]
 
وقال سبحانه: ﴿ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ﴾[65].
 
والتزام المسلم الصدق يجعله حذراً كل الحذر مما يتنافى معه، كالتسرع في الأحكام، والتحدث بكل ما يسمع، وقد نعى الإسلام على من نهج هذا المسلك.
قال تعالى في سياق قصة الإفك:
﴿ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾[66].
 
وفي الحديث: «كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع»[67] كما جاء النهي عن قيل وقال[68].
 
وعلى أي حال فالمسلم متى عوَّد نفسه على الصدق اعتاده.
 
واسمع قول الحكيم:






عوِّدْ لسانك قول الخير تخط به
إن اللسان لما عودت معتاد[69]







 
أجل: إن الكلمة الصادقة هي السيف الذي يُجاهد به الداعية، فبها تقوم الحجة، وبها يرتّد الباطل على أدباره منهزماً، وبها تنجذب القلوب، وبها يرضى العاقل.
 
فما أحوج الداعية إلى هذه الكلمة في خطبه، ودروسه، ومحاضراته، وكتاباته، وغيرها.
 
(3)
الضابط الثالث: اختيار اللفظ المناسب ووضعه في موضعه المناسب، إذ ليس كل كلمة صادقة يصلح نشرها وتبليغها، مهما كانت النوايا طيبة والأهداف سامية.
 
بل إن من الحكمة وضع الشيء في موضعه.
 
فلا بد من اختيار الخطاب المناسب للمقامات.
 
فمخاطبة العالم غير مخاطبة الجاهل، ومخاطبة الكبير غير مخاطبة الصغير، ومخاطبة الأمير غير مخاطبة غيره.
 
فقد روت عائشة - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أنزلوا الناس منازلهم»[70].
 
وقال البخاري في صحيحه: باب من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية ألا يفهموا، وقال علي بن أبي طالب: «حدّثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يُكذّب الله ورسوله»[71] وقال ابن مسعود - رضي الله عنه - فيما رواه مسلم في مقدمة صحيحه: «ما أنت بمحدّثٍ قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة».
 
«وليس كل ما يعلم مما هو حق يطلب نشره، وإن كان من علم الشريعة ومما يفيد علماً بالأحكام»[72].
 
وما أحسن قول المتنبي:






ووضع الندى في موضع السيف بالعلا
مضرٌّ كوضع السيف في موضع الندى






 
ولذلك استحب العقلاء تقليل الكلام، والاكتفاء منه بما يُحتاج إليه مما هو نافع.
 
قال عمر - رضي الله عنه - «رحم الله امرءاً أمسك فضل القول وقدّم فضل العمل»[73] ورضي الله عن عبادة بن الصامت الذي يقول: «ما تكلمت بكلمة منذ بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا مزمومة مخطومة»[74].
 
(4)
وأخيراً فإن من الضوابط المهمة اللين والرفق في توجيه الخطاب، قال الله عز وجل لنبيه موسى وأخيه هارون - عليهما السلام - حينما أرسلهما إلى فرعون: ﴿ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ﴾[75].
 
وامتن الله تعالى على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - باللين، فجعله خلقاً فيه، قال سبحانه: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾[76].
 
ولذا لما دخل ذلك الرجل السيئ الخلق على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألان له الكلام، مع أنه قال قبل أن يدخل: ائذنوا له، بئس أخو العشيرة»[77].
 
ولما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن في الجنة غرفة يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها» قال له أبو موسى الأشعري: لمن هي يا رسول الله؟ قال: «لمن ألان الكلام، وأطعم الطعام وبات لله قائماً والناس نيام»[78].
 
واللين يشمل أمرين: الكلمة ذاتها، وأسلوب إيصالها.
 
فإذا كانت الكلمة لينة رقيقة ورافقها لين في التعامل، فإنها تلامس الوجدان وتهزّ المشاعر، وتنفذ إلى القلب والعقل.
 
وفي سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - أمثلة لا تكاد تحصى، تؤكد أثر الكلمة الطيبة.
 
ومن ذلك قصة الأعرابي الذي بال في المسجد فانتهره الناس فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - دعوه، ثم دعا بذنوب من ماء وأهريق على بوله، ثم دعا الأعرابي فعلمه برفق، قال الأعرابي بعد أن فقه: فقام إليّ بأبي وأمي فلم يُؤنّب ولم يسبّ فقال: «إنَّ هذا المسجد لا يُبال فيه وإنما بني لذكر الله وللصلاة»[79].
 
وجاء إليه أعرابي آخر فجبذ[80] برداء النبي - صلى الله عليه وسلم - جبذة شديدة قال أنس بن مالك: «فنظرت إلى صفحة عاتق النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أثّرت بها حاشية الرداء من شدة جبذته، ثم قال يا محمد: «مُرْ لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فضحك ثم أمر له بعطاء»[81].
 
من هنا تأتي أهمية اللين في الخطاب ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا يُنزع من شيء إلا شانه»[82] على أن اللين لا يتنافى مع الحزم والأخذ بالقوة على السفهاء والمجرمين على حد قول الشاعر:






فقسا ليزدجروا ومن يك حازماً
فليقس أحياناً على من يرحم






 
المبحث الثاني
مسؤولية الكلمة
في المبحث السابق تبيّن لنا قيمة الكلمة وأنها ذات شأن كبير وخطير، وهي سلاح ذو حدين، فإن أحسن الإنسان استغلاله أفاده كثيراً وجنى له خيراً عظيماً، وإن كانت الأخرى فلا تسأل عن الأضرار المترتبة على ذلك.
 
فإذا عرفنا تلك الأهمية للكلمة، وعرفنا أهدافها، وضوابطها برزت لنا حقيقة جليّة هي أن هذه الكلمة ذات مسؤولية[83]، أي أن عليها تَبِعة ومعنى التَّبِعة: العاقبة وما يترتب على الأمر من أثر[84].
 
فالكلمة إذن ليست شيئاً يمكن أن يُلفظ فيُهمل، أو يُودع في عالم النسيان، كلا، بل هي ذات شأن جليل، سلب، أو إيجاب، ولها تبعة دنيوية وأخروية، فإنها مسجلة ومكتوبة لن تضيع أبدا.
 
قال اللّه عز وجل: ﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾[85].
 
وورد أن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر فأخذ يسأله ويستفتيه عن قضايا عديدة، ثم قال - صلى الله عليه وسلم - «ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا نبي الله، فأخذ بلسانه، وقال: كُفّ عليك هذا، فقلت: يا نبي الله؟ وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكبّ الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم»[86].
 
ونظراً لأهمية هذا الموضوع «مسؤولية الكلمة» نُفصلّه وفق أنواع الكلمة حتى تنكشف لنا على الوجه المأمول - بإذن من الله -.
 
والكلمة في الجملة نوعان: كلمة طيبة، وكلمة خبيثة، ويا بعد ما بين الكلمتين، ولذلك نخصّ كلاً منهما ببحث مستقل.
 
وإذا قيل: أليس ثمة نوع ثالث بين النوعين ووسط بين الطرفين، وهو: الكلمة الجائزة والمباحة؟.
 
قيل: بلى، ذلك موجود، كما سبقت الإشارة إلى ذلك في المطلب الأول من المبحث الأول في معنى قوله تعالى: ﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق: 18] حيث قيل: إنه يكتب على الإنسان كل ما يتكلم به فإذا جاء آخر النهار محي عنه ما كان مباحاً.
 
غير أنه ينبغي توجيه النظر إلى أن المباح كثيراً ما تعتريه الأحكام التكليفية الأربعة وهي: الوجوب والندب، والتحريم، والكراهة، لأنه إن كان وسيلة إلى أحدها أخذ الحكم نفسه، من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
 
فإن كان مندوباً فيكون المباح مندوباً، وإن كان وسيلة إلى حرام فيكون حراماً، وإن كان إلى مكروه فيكون مكروهاً، فالوسائل لها حكم المقاصد[87].
 
وربما تحوّل أيضا المباح إلى أحد تلك الأحكام بسبب النية[88].
 
فالخطيب مثلا إذا أورد في خطبته بعض الحكايات أو الطرائف من أجل تنشيط الحاضرين، وجذبهم إليه فتكون مشروعة.
 
والكاتب حينما يورد شعر العرب الغزلي بقصد إثارة شهوة القراء وتشجيعهم على شعر المجون فيكون ذلك محرماً، وهكذا.
والآن إلى تفصيل المسؤولية.
 
المطلب الأول
الكلمة الطيبة:
وأعني بها الكلمة الخيّرة، والخطاب المهذب المتزن، وهي مشروعة كما في الحديث: «كل سلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس يعدل بين الاثنين صدقة، ويُعين الرجل على دابته فيحمل عليها، أو يرفع عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة يخطوها إلى الصلاة صدقة ويميط الأذى عن الطريق صدقة»[89].
والشاهد من الحديث «والكلمة الطيبة صدقة».
 
وقد ورد ذكرها في القرآن العظيم في قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾[90].
 
قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: المراد بالكلمة الطيبة في الآية: هي شهادة أن لا إله إلا الله، والشجرة الطيبة قلب المؤمن، أي لا إله إلا الله ثابتة في قلب المؤمن، وقوله: ﴿ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ﴾ [إبراهيم: 24]: أي يُرفع بها عمل المؤمن إلى السماء[91].
 
وقال البغوي في تفسير الآية: «ألم تعلم، والمثل قول سائر لتشبيه شيء بشيء ﴿ كَلِمَةً طَيِّبَةً ﴾ [إبراهيم: 24] وهي قول لا إله إلا الله ﴿ كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ ﴾ [إبراهيم: 24] وهي النخلة يريد كشجرة طيبة الثمرة»[92].
 
نعم، فالكلمة الطيبة ذات أثر عظيم في الدنيا والآخرة.
 
فما آثارها في الدنيا؟ وما آثارها في الآخرة؟
 
إن من العسير على الباحث أن يُحصي الآثار كلها، ولكنها الأمثلة وبالمثال يتضح المقال.
 
أولاً: آثار الكلمة الطيبة في الدنيا:
1- عصمة الدم والمال والعرض:
فالإنسان إذا قال لا إله إلا الله، أو أعلن توبته من كلمة كفر فإنَّ ذلك يعصم نفسه وماله وعرضه (وذلك من الكلم الطيب).
 
قال - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم»[93].
 
2- الذكر الحسن وجريان الصدقة:
فالكلمة الطيبة تبقى خالدة للإنسان، يتذكرها الناس ويرددونها جيلاً بعد جيل، سواء أكانت حكمة، أم خطبة، أم كتاباً مصنفاً، أم نحو ذلك، والذكر للإنسان عمر ثانٍ كما قال المتنبي.
 
وها هي ذي أشعار الحكمة والأمثال السائرة والخطب البليغة والكتب المفيدة للسابقين يحرص الناس على حفظها وروايتها والاستفادة منها، مع الثناء العاطر على أصحابها، والدعاء للمسلمين منهم بالمغفرة والرحمة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «أصدق كلمة قالها شاعر، كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل»[94].
 
3- استمالة العقول والنفوس:
إذ كلما كان الكلام طيباً شد العقول ووطن النفوس على الاستماع، وعمل فيها عمل السحر.
 
وفي قصة نفر الجن الذين وفدوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - لاستماع القرآن، دليل وأي دليل! فإنهم بمجرد سماعهم قال بعضهم لبعض أنصتوا كما قال الله عنهم: ﴿ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ﴾[95].
 
وكان على العكس منهم مشركو قريش، فقد كانوا يعرفون أثر كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وقراءته، ولذلك كانوا يحذرون من الاستماع خشية أن يتأثروا قال الله عنهم: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾[96].
 
وهكذا يتبين أثر الكلم الطيب على كل ذي عقل سليم.
 
4- تأليف القلوب:
قال الله عز وجل: ﴿ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ﴾[97] فالكلمة الطيبة تَسلُّ السخيمة من القلوب، حتى أباح الإسلام الكذب بقصد الإصلاح بين المتشاحنين كما في الحديث: «ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمّي خيراً ويقول خيراً»[98].
 
5- إحقاق الحق وإبطال الباطل:
وهذا إنما يتحقق غالباً بالكلمة الطيبة، ولذلك جاء في الحديث: «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر»[99].
 
6- وذكر الله تعالى وهو أفضل الكلم فيه راحة للنفس والقلب وحياة لهما.
 
قال سبحانه: ﴿ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾[100].
 
وروى أبو موسى الأشعري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت»[101].
 
7- والكلمة الطيبة تقع في موقعها اللائق بها، حيث تصعد إلى السماء وتحضى بالقبول الحسن، قال الله عز وجل: ﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ﴾[102]
 
يقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في تفسيره للآية ﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ﴾ [فاطر: 10] أي من قراءة وتسبيح وتحميد وتهليل، وكل كلام حسن طيب فيرفع إلى الله ويعرض عليه ويثني الله على صاحبه بين الملأ الأعلى، (والعمل الصالح) من أعمال القلوب وأعمال الجوارح (يرفعه) الله تعالى إليه أيضا كالكلم الطيب»[103].
 
ثانياً: آثار الكلمة الطيبة في الآخرة:
وإذا كانت للكلمة الطيبة تلك الآثار العظيمة في الدنيا، فإن لها في الآخرة آثاراً أعظم، ومن ذلك:
1- أن لا إله إلا الله وهي رمز الكلم الطيب ومفتاحه، هي سبب لدخول الجنة.
 
كما في الحديث: «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة»[104].
 
والمقصود بذلك إذا كان قلبه مؤمناً مصدقاً بمضمونها.
 
2- والكلمة الطيبة سبب في النجاة من عذاب النار.
 
قال الترمذي في سننه[105] باب ما جاء في الذبّ عن عرض المسلم، ثم روى بسنده إلى أبي الدرداء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من ردّ عن عرض أخيه ردّ الله عن وجهه النار يوم القيامة».
 
وروى البخاري عن محمود بن الربيع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله»[106].
3- ورب كلمة طيبة رفعت صاحبها إلى أعلى الدرجات.
 
كما في الحديث: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يُلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات»[107].
 
وفي الحديث الآخر: «سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله»[108].
 
المطلب الثاني
الكلمة الخبيثة:
وهي المضادة للكلمة الطيبة، وقد جاء ذكرها في كتاب الله الكريم في قوله: ﴿ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ ﴾[109].
 
قال القرطبي: الكلمة الخبيثة: كلمة الكفر، وقيل: الكافر نفسه، والشجرة الخبيثة شجرة الحنظل[110].
 
وقال الراغب الأصفهاني: وقوله تعالى: ﴿ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ ﴾ [إبراهيم: 26]: إشارة إلى كل كلمة قبيحة من كفر وكذب ونميمة وغير ذلك[111].
 
وعلى هذا الرأي فالكلمة الخبيثة شاملة لكل كلام قبيح وهذا ما أعنيه هنا.
 
وإن كان هذا الخبث يتفاوت في حجمه وأثره، فكلمة الكفر والكذب على الله أعظم من الكذب على الناس، والكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعظم من الكذب على غيرهم.
وهكذا فما آثار هذه الكلمة في الدنيا وفي الآخرة؟.
 
أولاً: آثار الكلمة الخبيثة في الدنيا:
1- أنها إذا كانت كلمة كفر - وقال بها المتكلم معتقداً - فإنها تُخرجه من جماعة المسلمين ومن دائرة الإسلام، ويكون مرتداً.
 
ويترتب على ذلك ما يترتب على الردة من الاستتابة، والقتل، وانفصام عقد الزوجية، وقطع التوارث، وغير ذلك.
 
2- وإذا كانت تلك الكلمة قذفاً بالفاحشة فإنها تُوجب حداً شرعياً وهو ثمانون جلدة، إلا أن يأتي بأربعة شهداء عدول، قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾[112].
 
3- الذكر السيئ للإنسان: فإن الناس متى تذكروا صاحب الكلمة الخبيثة ذموه وحقروا من شأنه، وقد قال أهل العلم: لا غيبة لفاسق[113].
 
4- وهي من علامات النفاق وتقلّب الشخصية، ففي الحديث: «آية المنافق ثلاث إذا حدّث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان»[114]، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن من شر الناس ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه»[115].
 
5- نفرة القلوب وفساد ذات البين، فالكلمة الخبيثة أياً كانت تباعد بين القلوب وتُفرّق بين المجتمعين، وفي مقدمة ذلك: النميمة والغيبة والتطاول على أعراض المسلمين، سباً وسخرية.
 
6- وصاحب الكلمة الخبيثة لا يجني إلا الإثم، ويُعرض عمله الصالح للبطلان، قال عليه الصلاة والسلام: «من حلف على ملة غير الإسلام كاذباً فهو كما قال»[116].
 
ويقول عليه الصلاة والسلام في حق الصائم: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه»[117].
 
وروى مسلم عن جندب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حدّث أن رجلاً قال: «والله لا يغفر الله لفلان، وإن الله تعالى قال: «من ذا الذي يتألى عليّ ألاّ أغفر لفلان فإني قد غفرت لفلان، وأحبطت عملك»[118].
 
7- وصاحب الكلمة الخبيثة ممقوتٌ عند الناس، بغيض إلى قلوبهم، ينفر منه القريب قبل البعيد، ومهما جامله الناس وداروه فإنه يعيش على هامش المجتمع، بل إن قلوبهم تلعنه.
 
فقد استأذن رجل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «ائذنوا له، بئس أخو العشيرة أو ابن العشيرة، فلما دخل ألاَنَ له الكلام، قالت عائشة: يا رسول الله قلت الذي قلت ثم ألنْت له الكلام، قال: أي عائشة: عن شر الناس من تركه الناس، أو ودعه الناس اتقاء فحشه»[119].
 
ولذلك أوصى العباس ابنه عبد الله - رضي الله عنهما - قائلاً: «إني أرى أمير المؤمنين - يعني عمر بن الخطاب - يدنيك ويقربك، فاحفظ عني ثلاثاً: إياك أن يُجرب عليك كذبة، وإياك أن تفشي له سراً، وإياك أن تغتاب عنده أحداً، ثم قال: يا عبد الله ثلاث وأيّ ثلاث!، فقال رجل: يا ابن عباس، كل واحدة خير من ألف، فقال: بل كل واحدة خير من عشرة آلاف[120].
 
وهكذا ينبغي للمسلم أن يكون بعيداً عن الخطاب الخبيث لما فيه من الآثار الخلقية الذميمة، كما ينبغي على المسلم أن يكون حذراً من هذا الصنف الذي لا يأتي بخير «وحسبك من شر سماعه».
 
ثانياً: آثار الكلمة الخبيثة في الآخرة.
ليست آثار الكلمة الخبيثة قاصرة على حياة الإنسان الدنيوية، بل إنها شؤم يُلاحقه إلى الأبد.
 
وحسبك قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قال»[121].
 
ومن هذه الآثار:
1- أنها سبب في دخول النار - نسأل الله السلامة منها.
 
أ‌- فكلمة الكفر موجبة لسخط الله وعقابه، قال سبحانه عن المنافقين:
﴿ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴾[122].
 
ب- ورُبّ كلمة خبيثة زلّ بها اللسان ولم يحسب لها صاحبها حساباً، تهوي به دركات كما في الحديث: «وإنّ العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوى بها في جهنم»[123].
 
جـ- والاستطالة على أعراض المسلمين توجب عذاباً أليماً لا يُطاق.
 
قال - صلى الله عليه وسلم -: «لما عرج بي ربي مررت بقوم لهم أظافر من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم»[124]، وإذا كان المسلم من أولياء الله كالعلماء العاملين وأهل التقى والصلاح كانت أعراضهم أشد حرمة، كما في الحديث القدسي: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب[125].
 
2- وهي سبب لمقت الله وغضبه.
 
قال - صلى الله عليه وسلم -: «إنّ الله ليبغض الفاحش البذيء»[126].
 
وفي صحيح مسلم عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
«...........
إنّ الله لا يُحب الفحش ولا التفحش»[127].
 
وبعد: فتلك من أهم آثار الكلمة ونتائجها.
 
الأمر الذي يدل دلالة قاطعة على مسؤولية الكلمة، وأن لها تبعات كبيرة سلباً أو إيجاباً، فقد ترفع المتكلم إلى أعلى درجات العزة والنعيم، وذلك إذا كانت من الكلم الطيب.
 
وقد تضع المتكلم وتردّه إلى أسفل سافلين من الذلة أو العذاب الأليم، وذلك إذا كانت من الكلم الخبيث، وهذا يتطلب من الإنسان الحذر من لسانه فإنّ زلّته أشد من زلة القدم، وفق الحكمة القائلة:







موت الفتى من عثرة بلسانه
وليس يموت المرء من عثرة الرجل


فعثرته من فيه ترمي برأسه
وعثرته بالرجل تبرأ على مهل[128]







 
فهل يبقى بعد ذلك أدنى شك في عظم مسؤولية الكلمة وضخامتها؟!
 
وختاماً:
فلله الحمد أولاً وآخراً على توفيقه وعونه.
 
وقبل أن أطوي هذه الصفحات ويجف مدادها، أتوجه بهذه الكلمة إلى من يعنيهم أمر الدعوة والإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
 
فأقول: إن الكلمة هي سلاحكم - معشر الدعاة - سواء كنتم على المنابر أم في قاعات الدروس والمحاضرات، أم في ميدان المناقشات والمحاورات، أم من خلال المكاتبات والمصنفات، أم غير ذلك.
 
فليكن هذا السلاح قوياً، وليوضع في مكانه اللائق، وليسلط على حزب الباطل وأنصاره.
 
أما أهل الحق وأهل الفضل فحقهم التقدير والاحترام، وطلاقة الوجه وبشاشته.
 
وبهذا يتميز أهل الحق من أهل الباطل، وتتحقق علاقة الولاء والبراء وفق ما شرع الله.
 
وإذا كانت الكلمة لها هذا الشأن الجليل فما أحوجنا جميعاً إلى اصطفاء الكلمة واختيارها ومن ثم وضعها في موضعها المناسب.
 

والله ولي التوفيق.



[1]البلد/ 8 - 10.



[2]الروم/ 22.



[3]انظر تفسير الطبري 21/31 - 32.
دار الفكر.



[4]التعريفات للجرحاني ص 39.


[5]أدب الدنيا والدين للماوردي ص283.



[6]روضة العقلاء ونزهة الفضلاء ص43.


[7]تكفر: أي تخضع وتتذلل، أو تُذكّر.



[8]رواه الترمذي في السنن كتاب الزهد الباب 60 وأحمد في المسند 3/96 ورمز له السيوطي بالصحة (الجامع الصغير ح/ 454).



[9]المفردات في غريب القرآن للأصفهاني ص 439.



[10]لسان العرب باب الميم حرف الكاف مادة كلم 12/522 فما بعدها.



[11]انظر: المعجم الوسيط ص 796.



[12]حسب اصطلاح النحويين.



[13]الكليات للكفوي ص 419.



[14]رواه مسلم في صحيحه كتاب الجمعة ح/ 47.



[15]وقد بسطها كثير من علماء الملة.
يراجع: جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر.
والجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي وتذكرة السامع والمتكلم في أدب العلم والمتعلم لابن جماعة الكتاني.



[16]يراجع في ذلك: أصول الدعوة للدكتور عبد الكريم زيدان ص 477.
على أنه يلحظ أن هذا المصطلح [المحاضرة] محدث (انظر: المعجم الوسيط ص 181) أما أصل المحاضرة لغوياً: فهي المجالدة والمجاثاة عند السلطان، وأن يعدو معك، وأن يغالبك على حقك فيغلبك.
(القاموس المحيط باب الراء فصل الحاء ص 482) ويرى الأستاذ محمد العدناني: أن تستعمل المحاضرة للموضوعات العلمية والأدبية التي يسود في قادتها العقل، أما الخطبة، فهي التي تسود فيها العاطفة (معجم الأغلاط اللغوية ص 160 مكتبة لبنان).



[17]الكهف/ 37.



[18]النحل/ 125.



[19]الأنعام/ 80.



[20]يراجع: إحياء علوم الدين للغزالي 1/42 فما بعدها والفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي 1/229 فما بعدها.
والكافية في الجدل لإمام الحرمين الجويني ص 529 وأصول الحوار.
وهو رسالة صغيرة أصدرتها الندوة العالمية للشباب الإسلامي.



[21]انظر: الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 339.


[22] كشف الخفاء ومزيل الإلباس للعجلوني 2/361 ح/ 2592.



[23]انظر: أدب الدنيا والدين ص 286 - 287.



[24]ينظر: جواهر الأدب للأستاذ السيد أحمد الهاشمي 2/484.



[25]سورة ق/18.



[26] تفسير القرطبي 17/11.



[27]الأحزاب/ 70 - 71.



[28]تفسير ابن كثير 3/529.



[29]رواه مسلم في مقدمة صحيحه ح/ 5.



[30]رواه الترمذي وحسنه ح/ 2019.



[31]ينظر: رياض الصالحين ص 301.



[32]النساء/ 135.



[33]الدر المنثور للسيوطي 2/714.



[34]متفق عليه (صحيح البخاري كتاب الأحكام الباب 43 وصحيح مسلم كتاب الإمارة ح/ 41)


[35]رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.
كتاب الفتن الباب 26 ورواه الإمام أحمد في المسند 3/5 وابن ماجه في سننه كتاب الفتن الباب 20.


[36] متفق عليه (صحيح البخاري كتاب الصلاة الباب 28 وصحيح مسلم كتاب الإيمان ح 32 - 35).



[37]متفق عليه (صحيح البخاري كتاب الديات الباب 2 وصحيح مسلم كتاب الإيمان ح/ 158 - 160).


[38]انظر الأشباه والنظائر للسيوطي ص 464.



[39]انظر: الموسوعة الفقهية الكويتية 7/53 مادة إنكار.


[40] المائدة/ 78.



[41]رواه مسلم في صحيحه كتاب الإيمان ح / 78.



[42] هود/ 29، 51، الفرقان/ 57، الشعراء/ 109، 127، 145، 164، 180، ص/ 86.


[43]سورة التوبة / 33 وسورة الصف / 9.



[44] متفق عليه (صحيح البخاري كتاب الجهاد الباب 15 وفي مواضع أخر.
وصحيح مسلم كتاب الإمارة ح / 149 - 151)
.



[45]رواه مسلم في صحيحه.
كتاب الزكاة ح / 157.



[46]البقرة / 204 - 206.



[47]انظر: سنن أبي داود ح 3656.



[48]رواه أبو داود في سننه في كتاب الجهاد باب كراهية ترك الغزو ح /2504 والإمام أحمد في المسند 3/124 والنسائي في السنن (مع شرح السيوطي 6/7)، قال النووي في رياض الصالحين ح / 1352: سنده صحيح.



[49]متفق عليه (صحيح البخاري كتاب المغازي الباب 30 وفي مواضع أخر من الصحيح، وصحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة ح/ 151 - 153).



[50]رواه البخاري في صحيحه كتاب الجهاد الباب 102.


[51] شرح صحيح مسلم 2/165.



[52]ينظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 16/38 - 44.



[53]النساء / 148.



[54]الشورى / 41.



[55]متفق عليه (صحيح البخاري كتاب الاستقراض الباب 4 وصحيح مسلم كتاب المساقاة ح / 120).


[56]ص / 86.



[57]الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 15 / 230.



[58]تفسير الطبري 23 / 188.



[59] رواه البخاري في صحيحه كتاب النكاح الباب 47.


[60]التوبة / 119.



[61]النحل / 105.



[62]متفق عليه (صحيح البخاري كتاب الإيمان ب 24 وصحيح مسلم كتاب الإيمان ح / 107).


[63]البقرة / 42.



[64]الدر المنثور 1/ 155.



[65]الحج / 30.



[66]النور / 15 - 17.



[67] رواه مسلم في مقدمة صحيحه ح / 5.



[68]في حديث متفق عليه (صحيح البخاري ك: الأدب الباب 2 وصحيح مسلم ك: الأقضية ح / 10).


[69]روضة العقلاء ص 51.


[70]رواه أبو داود في سننه ح / 4842 ورمز له السيوطي بالصحة (الجامع الصغير ح / 2735).



[71]صحيح البخاري كتاب العلم الباب 49 وانظر جامع بيان العلم وفضله 1/ 134.



[72]الموافقات للشاطبي 4/189.


[73]عيون الأخبار 1/330.


[74]البيان والتبيين للجاحظ 1/107 - 108 ومزمومة أي لها زمام تنقاد به.



[75]طه / 43، 44.



[76]آل عمران / 159.



[77]متفق عليه (صحيح البخاري كتاب الأدب الباب 38 وصحيح مسلم كتاب البر ح / 73).


[78]رواه الإمام أحمد في المسند 2 / 173.
قال الهيثمي في مجمع الزوائد 2/254 ورواه الطبراني في الكبير، وإسناده حسن.



[79] رواه ابن ماجة في سننه ح / 529 وأصل الحديث في الصحيحين.



[80]أي جذب.



[81] متفق عليه (صحيح البخاري كتاب الأدب الباب 68 وصحيح مسلم كتاب الزكاة ح / 128).



[82]رواه مسلم في صحيحه كتاب البر والصلة ح / 78.



[83]انظر في تعريف المسؤولية: المعجم الوسيط ص 411 مادة سأل.
وقد ذكر صاحب المعجم: أنها محدثة.



[84]انظر: المرجع السابق ص 81 مادة تبع.



[85]سورة ق / 18.



[86]رواه الإمام أحمد في المسند 5 / 231 والترمذي في كتاب الإيمان الباب 8 ح 2616 وقال: حسن صحيح.



[87] على أن تكون الوسيلة إلى المشروع أو الجائز مشروعة أو جائزة.



[88]في تفصيل هذه المسائل ينظر: الموافقات للشاطبي 1 / 128 - 143.


[89]رواه البخاري في صحيحه كتاب الجهاد الباب 128.



[90]إبراهيم / 24 - 25.



[91] تفسير الطبري 13/ 203.



[92]تفسير البغوي 3 / 32.



[93]سبق تخريجه.



[94]رواه البخاري في صحيحه (فصائل الصحابة الباب 58).
ومسلم في صحيحه كتاب الشعر ح / 2-6.


[95]الأحقاف / 29.


[96] فصلت / 26.


[97]النساء / 114.



[98]رواه البخاري في صحيحه.
الصلح الباب 2.



[99]رواه أبو داود في السنن ح / 4344، والترمذي في السنن كتاب الفتن الباب 13، وابن ماجة ح / 4011.



[100]الرعد / 28.



[101]رواه البخاري في صحيحه كتاب الدعوات الباب 66.



[102]فاطر / 10.



[103]تيسير الكريم الرحمن 6 / 303.


[104] رواه الإمام أحمد في المسند 5 / 233.
وأبو داود في السنن ح / 3116، والحاكم في المستدرك 1 / 351 وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.
وانظر: مجمع الزوائد 2 / 323.



[105]كتاب البر والصلة ح/1931 وقال: حديث حسن، والحديث رواه أحمد في المسند 6/450.



[106]صحيح البخاري كتاب الصلاة الباب 46.



[107]رواه البخاري كتاب الرقاق الباب 23.



[108]رواه الحاكم في المستدرك 3/195 وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
ويراجع: سلسلة الأحاديث الصحيحة للشيخ الألباني ح/374.



[109] إبراهيم / 26.



[110]تفسير القرطبي 7 / 361.



[111] المفردات في غريب القرآن ص 141.


[112] النور / 4.



[113]وقد ورد فيه أثر لا يصح (انظر كشف الخفا ومزيل الإلباس ح / 2151).



[114]متفق عليه (صحيح البخاري كتاب الإيمان الباب 24 وصحيح مسلم كتاب الإيمان ح / 107).


[115]متفق عليه (صحيح البخاري كتاب الأدب الباب 52، وصحيح مسلم كتاب البر والصلة ح / 98 - 100).


[116]رواه البخاري في صحيحه كتاب الأدب الباب 44 وفي مواضع أخرى.



[117]رواه البخاري في صحيحه كتاب الصوم الباب 8.



[118]صحيح مسلم كتاب البر والصلة ح / 137.


[119] رواه البخاري كتاب الأدب الباب 48.


[120]بهجة المجالس وأنس المجالس لابن عبد البر القسم الأول / 402.



[121]رواه أبو داود في سننه ح / 3597 قال المنذري في الترغيب والترهيب 3/ 516 ورواه الحاكم بنحوه وقال: صحيح الإسناد.



[122]التوبة / 74.



[123]رواه البخاري كتاب الرقاق الباب 23.


[124] رواه أبو داود في سننه ح/4878 والإمام أحمد في المسند 3/24 ورمز له السيوطي بالصحة (الجامع الصغير ح/ 7371).



[125]رواه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق ب 38.



[126]رواه الترمذي في كتاب البر والصلة الباب 62 ح/2002.
وقال: حديث حسن صحيح.



[127]صحيح مسلم كتاب السلام ح/11.



[128]عيون الأخبار 5/180.

شارك المقال

مشكاة أسفل ٢