أرشيف المقالات

في صحبة العلماء

مدة قراءة المادة : 17 دقائق .
في صحبة العلماء
 
فضل العلم والعلماء:
روى الطبراني في (الكبير) - وصحَّحه الألبانيُّ - عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الله وملائكته، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت في البحر - ليُصلُّون على معلِّم الناسِ الخيرَ))[1].
 
روى ابن ماجه - وحسَّنه الألباني - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سيأتيكم أقوامٌ يطلبون العلم، فإذا رأيتموهم، فقولوا لهم: مرحبًا بوصيةِ رسول الله، وأفتوهم))[2].
 
روى الترمذي - وصحَّحه الألبانيُّ - عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم))[3].
 
وروى أبو نعيم في (الحلية) - وصحَّحه الألباني - عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فضلُ العالم على العابد كفضلِ القمر ليلة البدر على سائر الكواكب))[4].
 
وروى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي - وحسَّنه ابن القيم والألباني - عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((مَن سَلَكَ طريقًا يبتغي فيه علمًا، سَلَكَ اللهُ به طريقًا إلى الجنة، وإنَّ الملائكة لتضعُ أجنحتها رضًا لطالب العلم، وإن العالِم ليستغفرُ له مَن في السماوات ومَن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضلُ العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، إنَّ العلماء ورثة الأنبياء، إنَّ الأنبياء لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا؛ إنما ورَّثوا العلم، فمَن أخذه أخذ بحظٍّ وافرٍ))[5].
 
قال ابن دُريد لطلبة العلم:

أهلًا وسهلًا بالذين أُحِبُّهم
وأودُّهم في الله ذي الآلاء

أهلًا بقومٍ صالحين ذوي تقًى
غرُّ الوجوه وزين كلِّ ملاءِ

يا طالبي علمِ النبيِّ محمدٍ
ما أنتمُ وسواكمُ بسَواءِ

 
خبرٌ من قصر الخلافة:
كان الخليفة المأمون قد وكَّل الفرَّاء يلقنُ ابنيه النحو، فلما كان يومًا أراد الفراءُ أن ينهض إلى بعض حوائجه، فابتدرَا إلى نعل الفرَّاء يقدِّمانها له، فتنازعا أيهما يقدِّمها، ثم اصطلحا على أن يقدِّم كلُّ واحدٍ منهما فردًا، فقدَّماها، وكان المأمون له على كل شيءٍ صاحبُ خبرٍ، فرفع إليه ذلك الخبر، فوجَّه إلى الفرَّاء فاستدعاه.
 
فلما دخل عليه قال له: مَن أعزُّ الناس؟
قال: ما أعرف أحدًا أعزَّ مِن أمير المؤمنين.
قال: بلى، مَن إذا نهض تقاتَلَ على تقديم نعليه وليَّا عهدِ المسلمين، حتى رضي كل واحدٍ منهما أن يقدِّم له فردًا.
 
قال: يا أمير المؤمنين، لقد أردت منعهما مِن ذلك، ولكن خشيت أنْ أدفعهما عن مكرُمةٍ سبَقا إليها، وأكسر نفوسهما عن شريفةٍ حصلا عليها.
 
وقد روي عن ابن عباس أنه أمسك للحسن والحسين رضي الله عنهما ركابيهما حتى خرجا من عنده، فقال له بعض مَن حضر: أتمسك لهذين الحَدَثَين ركابيهما وأنت أسنُّ منهما؟!
فقال له: اسكت يا جاهل، لا يعرف الفضلَ لأهلِ الفضل إلا ذوو الفضل.
 
قال له المأمون: لو منعتهما عن ذلك، لأوجعتك لومًا وعتبًا، وألزمتك ذنبًا، وما وضَعَ ما فعلاه مِن شرفهما؛ بل رفع مِن قدرهما، وبيَّن عن جوهرهما، ولقد ثبتت لي مخيلة الفراسة بفعلهما، فليس يكبرُ الرجُل - وإن كان كبيرًا - عن ثلاث: تواضعه لسلطانه، ووالده، ومعلِّمِه العلمَ.
وقد عوَّضتُهما بما فعلاه عشرين ألف دينارٍ، ولك عشرةُ آلاف درهم على حُسن أدبك لهما[6].
 
دعوةٌ مستجابةٌ:
روى الإمام أحمد بسند حسن عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: كنت أرعى غنمًا لعقبةَ بن أبي مُعيط، فمرَّ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكرٍ فقال: ((يا غلام، هل من لبن؟)).
قلت: نعم، ولكني مؤتمنٌ.
قال: ((فهل مِن شاةٍ لم ينزُ عليها الفحل؟)).
فأتيته بشاةٍ فمسح ضرعها، فنزل لبنٌ، فحلب في إناء، فشرب وسقى أبا بكرٍ، ثم قال للضرع: ((اقلُص)) فقلص.
 
ثم أتيته بعد هذا، فقلت: يا رسول الله، علِّمني من هذا القول، فمسح رأسي، وقال: ((يرحمك الله، إنك غليِّمٌ معلمٌ))[7].
 
اسمع إلى استجابة الدعوة:
روى البخاري عن ابن مسعود قال: (والذي لا إله غيره، ما أنزلت سورةٌ من كتاب الله إلا أنا أعلم أين نَزَلَت، ولا أُنزلت آيةٌ من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت، ولو أعلم أحدًا أعلم منِّي بكتاب الله تبلغه الإبلُ لركبت إليه)[8].
 
سافر شهرًا كاملًا في طلبِ حديثٍ واحد:
روى الإمام أحمدُ - وصحَّحه الحاكم والذهبي - عن جابر بن عبدالله الأنصاري رضي الله عنه قال: بلغني عن رجل من أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم حديثٌ سمعه مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشتريت بعيرًا، ثم شددت رحلي، فسرتُ إليه شهرًا، حتى قدمت الشام، فإذا هو عبدالله بن أُنيس، فقلت للبواب: قل له: جابرٌ على الباب، فقال: ابن عبدالله؟
قلت: نعم.
فخرج عبدالله بن أُنيس فاعتنقني.
فقلت: حديثٌ بلغني عنك أنَّك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخشيت أنْ أموت أو تموت قبل أن أسمعه.
 
فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يحشرُ الله الناس يوم القيامة عُراةً غُرلًا بهمًا))، قلنا: ما بُهمًا؟ قال: ((ليس معهم شيء)).
 
((فيناديهم بصوت يسمعه من بعُد كما يسمعه من قرُب: أنا الملِك، أنا الديانُ، لا ينبغي لأحدٍ من أهل الجنة يدخل الجنة وأحدٌ من أهل النار يطلبه بمظلمة، ولا ينبغي لأحدٍ من أهل النار يدخلُ النار وأحدٌ من أهل الجنة يطلبه بمظلمة، حتى اللطمة)).
قال: قلنا: كيف هو، وإنما نأتي الله تعالى عُراةً غُرلًا بهمًا؟!
قال: ((بالحسنات والسيئات))[9].
 
كُتَّابٌ عجيبٌ:
الضحاك بن مزاحم رحمه الله:
يقول عنه سفيان الثوري: كان الضحاك يُعلِّم ولا يأخذ أجرًا.
وذكر الذهبي في (سير أعلام النبلاء): (أنَّ الضحاك رحمه الله كان فقيه مكتبٍ كبيرٍ إلى الغاية، فيه ثلاثة آلاف صبي، فكان يركبُ حمارًا ويدور على الصبيان)[10].
 
جاع ثلاثة أيام في طلب العلم:
ذكر ابن سعدٍ في (الطبقات) عن أبي شهاب الحناط قال: بعثت أخت سفيان الثوري معي بجرابٍ إلى سفيان، وهو بمكة، فيه كعكٌ وخشكنانج، فقدمت مكة فسألت عن سفيان، فقيل لي: إنه ربما يقعد دبر الكعبة مما يلي باب الحناطين.
 
قال أبو شهاب: فأتيته هناك - وكان لي صديقًا - فوجدته مستلقيًا، فسلمتُ عليه، فلم يسائلني تلك المسألة[11]، ولم يُسلِّم عليَّ كما كنت أعرفُه[12] منه.
 
فقلتُ له: إن أختك بعثت إليك معي بجرابٍ فيه كعكٌ وخشكنانج.
 
قال: فعجِّل به عليَّ، واستوى جالسًا!
فقلت: يا أبا عبدالله، أتيتك وأنا صديقك، فسلَّمت عليك فلم تردَّ عليَّ ذاك الرد، فلما أخبرتك أني أتيتك بجراب كعكٍ لا يساوي شيئًا، جلست وكلمتني؟!
 
فقال: يا أبا شهاب، لا تلمني، فإنَّ هذه لي ثلاثة أيامٍ لم أذُق فيها ذواقًا.
قال أبو شهابٍ: فعذرته[13].
 
رؤيا صالحةٌ للإمام مالك:
ذكر الذهبيُّ في (سير أعلام النبلاء) عن خلفٍ قال: دخلت على الإمام مالكٍ رحمه الله، فقال لي: انظر ما ترى تحت مصلاي، فنظرت، فإذا أنا بكتاب.
 
فقال: اقرأه، فإذا رؤيا بعثها بعض إخوانه، يقول: رأيت النبيَّ صلى الله عليه وسلم في المنام، في مسجدٍ قد اجتمع عليه الناس، فقال لهم: إني قد خبَّأت تحت منبري طيبًا أو علمًا، وأمرتُ مالكًا أن يفرقَه على الناس، فانصرف الناس وهم يقولون: إذًا ينفذُ مالكٌ ما أمَرَه به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ثم بكى، فقمتُ عنه[14].
 
مفاجأةٌ:
ذكر القاضي عياضٌ في (ترتيب المدارك) أنَّ محمد بن القاسم المصري رحل إلى المدينة النبويَّة؛ يطلب العلم على يد الإمام مالكٍ سبع عشرة سنة، يقول: فبينما أنا عند الإمام مالكٍ إذ أقبل حُجاج مصر يسلِّمون على الإمام مالكٍ وبينهم شابٌّ ملثمٌ، فسلَّم على الإمام مالكٍ، ثم قال: أفيكم ابن القاسم؟ فأشاروا إليَّ، فأقبل يقبلُ عيني، ووجدت منه ريحًا طيبةً، فإذا هي رائحة الولد، وإذا هو ابني، وكان ابن القاسم ترك أُمَّه حاملًا به، وكانت ابنة عمه، وقد خيَّرها عند سفره؛ لطول إقامته، فاختارت البقاء[15].
 
الإمام محمد بن سحنون القيرواني:
هو الإمام الفقيه المالكي، كان مشغولًا في تأليف كتابٍ إلى الليل، فأحضرت أَمَتُه الطعام، فقال لها: أنا مشغولٌ، فلما طال عليها، جَعَلَت تلقمه الطعام حتى أتت عليه، واستمرَّ في كتابه إلى أن أذَّن الصبحُ، فقال: أين الطعام؟ قالت: ألقمتُه لك.
قال: ما شعرتُ بذلك[16].
 
الإمام أبو يوسف القاضي:
هو الإمام العَلَم، القاضي الفاضل، يحكي عن نفسه فيقول: (مات ابنٌ لي فلم أحضر جهازه ولا دفنه، وتركته على جيراني وأقربائي؛ مخافة أن يفوتني من أبي حنيفة شيءٌ - يعني درس علمٍ - لا تذهب حسرته عني)[17].
 
الإمام وكيع بن الجراح:
قال الإمام أحمد: كان وكيع إمام المسلمين في زمانه، وكان مِن بحور العلم، وأئمة الحفظ.
وقال: ما رأيت مثل وكيع في الحفظ والإتقان مع خشوع وورع.
 
برنامجه اليومي:
يقول ابنه سفيان بن وكيع: كان أبي يجلس لأصحاب الحديث من بكرةٍ إلى ارتفاع النهار، ثم ينصرف فيَقيلُ، ثم يصلي الظهر، ثم يذهب إلى الرعاة حيث يريحون نواضحهم فيعلِّمهم من القرآن ما يؤدُّون به الفَرض إلى حدود العصر، ثم يرجعُ إلى مسجده، فيصلِّي العصر، ثم يجلس يدرس القرآن ويذكر الله إلى آخر النهار، ثم يدخل منزله، فيُقدَّم له إفطاره، ثم يقوم فيصلِّي وِرْدَه من الليل، ثم ينام.
 
دواءٌ للحفظ:
ما كان وكيعٌ رحمه الله يمسك كتابًا، وإنما يملي الأحاديث من حفظه.
قال علي بنُ خشرمٍ: فسألته عن أدوية للحفظ.
فقال: إن علَّمتُك الدواء استعملتَه؟
قلتُ: إي والله.
قال: تركُ المعاصي؛ ما جربتُ مثله للحفظ.
الإمام إسحاق بن راهويه:
هو الإمام الفقيه المحدِّث الحافظ شيخ البخاري.
أملى على طلابه أحد عشر ألف حديثٍ من حفظه، ثم أحضر الكتاب فقرأها عليهم، فما زاد حرفًا، ولا نقص حرفًا.
قال الذهبي: هذا والله الحفظ!
 

عبادَ الله:
هكذا رفع الله قدر العلم والعلماء ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾ [المجادلة: 11].
فاطلبوا العلم تنالوا خيرَيِ الدنيا والآخرة.
واطلبوا العلم تنالوا الخشية الحقيقية لله: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28].
واصبروا على طلب العلم ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10].
وجلسات العلم هي أفضل الجلسات لذكرِ الله ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28].

[1] صحيح: أخرجه الترمذي (2685)، والدارمي (289)، والطبراني في (الكبير) (7912)، والخطيب في (الفقيه والمتفقِّه) (63)، وصحَّحه الشيخ الألبانيُّ في (صحيح الجامع) (1838، 4213).

[2] حسن: أخرجه ابن ماجه (247)، والخطيب في (الفقيه والمتفقِّه) (904)، وحسَّنه الشيخ الألباني في (صحيح الجامع) (3651)، و(الصحيحة) (280).


[3] صحيح: أخرجه الترمذي (2685)، والدارمي (289)، والخطيب في (الفقيه والمتفقِّه) (63)، وصحَّحه الشيخ الألباني في (صحيح الجامع) (1838، 4213).

[4] صحيح: أخرجه أبو نعيم في (الحلية) (9/ 45)، وصحَّحه الشيخ الألباني في (صحيح الجامع) (4212).

[5] صحيح: أخرجه أبو داود (3641)، والترمذي (2682)، وابن ماجه (223)، وأحمد في (المسند) (2/ 252، 407)، والدارمي (342)، وابن حبان في (صحيحه) (88)، كلهم من طريق أبي الدرداء، وفي الباب عن أبي هريرة، وصحَّحه الشيخ الألباني في (صحيح الجامع) (6297).


[6] (تاريخ بغداد) (14/ 155).


[7] حسن: وفيه عاصم بن بهدلة وهو صدوق، أخرجه أحمد في (المسند) (1/ 379، 453، 457، 462)، وأبو يعلى في (مسنده) (4985)، وابن أبي شيبة (7/ 1/ 163) (كتاب الفضائل)، والطبراني في (الكبير) (8455، 8456، 8457)، وابن حبان في (صحيحه) (6504، 7061)، وقال الذهبي في (السير) (92)، في ترجمة ابن مسعود: صحيح الإسناد.


[8] خبر صحيح: أخرجه البخاري (5002).


[9] صحيح لغيره: رواه البخاري بصيغة تمريض في (صحيحه) كتاب التوحيد باب (32)، وقال: يذكر عن جابر عن عبدالله بن أنيس، وأخرجه في (الأدب المفرد) (970)، وأحمد في (المسند) (3/ 495)، والحاكم في (المستدرك)، وصححه ووافقه الذهبي (2/ 437، 438)، وفي الباب عن ابن عباس مختصرًا أخرجه البخاري (6526)، ومسلم (2860)، والنسائي (2081)، وحسَّنه الشيخ الألباني في (السلسلة الصحيحة) (160).

[10] (السير) (4/ 599).

[11] أي: لم يسألني عن أحوالي كعادته.


[12] أي: رد السلام بصوت بطيء، ولم يهش ويبش كعادته معي.


[13] (الطبقات الكبرى) (6/ 372).

[14] (سير النبلاء) (8/ 62)، و(الحلية) (6/ 317).


[15] (ترتيب المدارك) (3/ 250) نقلًا عن (صلاح الأمة)، (1/ 198) بتصرف.


[16] (ترتيب المدارك) (3/ 114).


[17] (مناقب أبي حنيفة) للمكي (1/ 472) نقلًا عن (صلاح الأمة) (1/ 217).

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣