الحدائق الزاهرة في تبيان الفرق بين سعي الدنيا وسعي الآخرة
مدة
قراءة المادة :
10 دقائق
.
الحدائق الزاهرة في تبيان الفرق بين سعي الدنيا وسعي الآخرةالله تعالى يهدي مَنْ يشاء، ويُضِلُّ مَنْ يشاء، وكذلك يرزُق مَنْ يشاء، ويُضيِّق على مَنْ يشاء، فالهداية بقدر الله، والرزق كذلك بقدر الله، والهداية والآخرة تُطلبان من الله، وكذلك الرزق والدنيا يُطلبان من الله، لكن هناك فرق بين سعي الإنسان لنيل الهداية والآخرة من الله، وسَعيه لنيْل الرزق والدنيا منه جل وعلا - فبعد توحيد الظروف لكلا السعْيَينِ - فالفَرْقُ هو:
أن السعي لنيل الهداية والثواب من الله إذا حقَّق العبد الشروط؛ مثل: الإخلاص وغيره، فإنه يحصل على مراده من الله تعالى ولا بد؛ لأنه وَعْدٌ من كريم صادق الوعد، لا يخلف الميعاد لعبدٍ قام بمرضاته، وجانبَ سَخَطَه، فالعمل للآخرة مع الله مضمونُ النتائج؛ قال تعالى: ﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴾ [القصص: 61]، وقال سبحانه: ﴿ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ﴾ [الإسراء: 19]، وقال أيضًا: ﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ﴾ [الليل: 5 - 7]، وقال سبحانه: ﴿ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ ﴾ [آل عمران: 195]، وقال جل وعلا: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ﴾ [النساء: 122]؛ أي: فلا أحد أصدق من الله قولًا فيما وعده لعباده الصالحين، ثم قال بعدها: ﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ﴾ [النساء: 124]؛ أي: لا قليلًا ولا كثيًرا ممَّا عمِلوه من الخير؛ بل يجدونه كاملًا موفورًا، مضاعفًا أضعافًا كثيرة، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((مَنْ آمَنَ باللهِ ورسولِه، وأقامَ الصلاةَ، وصامَ رمضانَ، كان حقًّا على اللهِ أنْ يُدخِلَه الجنةَ، هاجَرَ في سبيل الله أو جلس في أرضِه التي وُلِد فيها))، قالوا: يا رسول الله، أفلا ننبئ الناس بذلك، قال: ((إن في الجنة مائة درجة أعدَّها الله للمجاهدين في سبيله، كل درجتين ما بينهما كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس؛ فإنه أوسطُ الجنةِ، وأعلى الجنة، وفوقه عرشُ الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة))؛ رواه البخاري.
وعن أبي سعيد الخُدْري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من مسلم يدعو، ليس بإثم، ولا بقطيعة رَحِم، إلَّا أعطاه إحدى ثلاث: إمَّا أن يُعجِّل له دعوتَه، وإمَّا أن يدَّخِرَها له في الآخرة، وإمَّا أن يدفع عنه من السوء مثلها))، قال: إذًا نُكثِر، قال: ((الله أكثر))؛ رواه أحمد.
وأما السعي لنيل الرزق الدنيويِّ، فليس بالضرورة أن يحصل الإنسان على مراده حتى لو حقَّق كل الشروط والوسائل المتاحة؛ لأن بذلك تفسد الحياة الدنيا؛ لأن كل إنسان يريد أن يكون غنيًّا موسعًا له في رزقه، وسيبذل كلَّ ما بوسعه لتحقيق ذلك، فلو كان يصحُّ ذلك في سنة الحياة، لما وجدت فقيرًا ولا ضعيفًا ذا حاجة تستطيع أن تُسخِّره لما تريد، والواقع يشهد بضدِّ ذلك، وهذا ما بيَّنه الله تعالى في كتابه العزيز بقوله: ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الأنعام: 165]، وأيضًا بقوله: ﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [الزخرف: 32]؛ بل بيَّن الله أن ذلك لو كان صحيحًا لكفر كُلُّ الناس؛ فقال سبحانه: ﴿ وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ﴾ [الزخرف: 33]؛ أي: ولولا كراهة أن يكفر الناس جميعًا إذا رأوا الكفار في سَعة من الرزق، لجعلنا لبيوت مَنْ يكفر بالرحمن سقفًا ومصاعدَ يرتقون عليها من الفضة؛ لهوان الدنيا علينا؛ (تفسير المنتخب بتصرُّف)؛ بل بغوا وطغوا في الأرض؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ﴾ [الشورى: 27].
ومن ظن أن الرزق يُنال بالقوة أو بالحيلة، لَما وجدت قويًّا أو ذكيًّا فقيرًا؛ بل الله تعالى هو مقسم الأرزاق، يرزُق القوي والضعيف والعالم والجاهل.
فكيف تخافَ الفَقْرَ واللهُ رازِقٌ
فَقَدْ رَزَقَ الأطْيارَ والحُوتَ في البَحْرِ
ومَنْ ظنَّ أنَّ الرِّزْقَ يأتي بقوَّةٍ
لَما أكَلَ العصْفُورُ شيئًا مع النَّسْرِ
وكما قال أهل التجربة في مثلهم الشعبي: "لو جريْتَ جَرْيَ الوحوش غير رِزْقِكَ ما تحوش"، "لو كل مَنْ جاء ونجر ما بقي في الوادي شجر"؛ لذا لن يحصل طالب الرزق الدنيوي مهما فعل إلا على ما قدِّر له؛ كما قال تعالى: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا ﴾ [الإسراء: 18]، ﴿ عَجَّلْنَا لَهُ ﴾؛ أي: لذلك المريد ﴿ فِيها ﴾؛ أي: في تلك العاجلة، وهي الدنيا، ثم قيَّد المعجل بقيدين: الأول: قوله: ﴿ مَا نَشَاءُ ﴾ تعجيله له من نعيمها، لا كل ما يريد؛ فإن الحكمة لا تقتضي وصول كل طالب إلى مرامه ومطلبه؛ ولهذا ترى كثيرًا من هؤلاء المريدين للعاجلة، يريدون من الدنيا ما لا ينالون، ويتمنون ما لا يصلون إليه، والقيد الثاني: قوله: ﴿ لِمَنْ نُرِيدُ ﴾؛ أي: لمن نريد التعجيل له منهم ما اقتضته مشيئتُنا، ولا ينال من الدنيا إلا ما قدره له الله سبحانه؛ (تفسير حدائق الروح والريحان بتصرُّف).
وقال الله في الحرثين: ﴿ اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ * مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ﴾ [الشورى: 19، 20]؛ أي: من كان يريد بأعماله وكسبه ثواب الآخرة، نُوفِّقه لصالح الأعمال، ونَجزه بالحسنة عشر أمثالها، إلى ما شاء الله تعالى، ومن كان سعيُه مُوجَّهًا إلى شؤون الدنيا وطلب طيِّباتها واكتساب لذاتها، وليس له هم في أعمال الآخرة، نؤته منها ما قسمناه له، وليس له في ثواب الآخرة حظٌّ.
فهنيئًا لمريد الآخرة بفضل الله؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ﴾ [الإسراء: 19]، وهذا هو حال المؤمن التقي، فإنه ينال من الدنيا بعد بذله السبب ما قدره الله له وأراده بلا هَلَعٍ منه، ولا جزع، مع سكون نفسه واطمئنان قلبه، وثقته بربِّه عملًا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أجملوا في طلب الدنيا، فإن كلًّا مُيَسَّر لما خُلِقَ له))؛ رواه ابن ماجه، وصحَّحه الألباني، وهو مع ذلك عامل للآخرة، منتظر للجزاء من الله سبحانه وهو الجنة.
وقد بشَّر الله تعالى مريد الآخرة بأن له الدنيا معها؛ فقال سبحانه: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ [النساء: 134]، إن المؤمن بالله واليوم الآخر لا يخاطر بدنياه ليربح آخرته، كلَّا، إنه بإيمانه يربح الحياتين ويفوز بالحسنيين؛ (من خطب الشيخ صالح بن حميد).
فبالإيمان والعمل الصالح يفوز المؤمن بالآخرة، وتأتي الدنيا معها تبعًا ببذله الأسباب التي شرعها الله تعالى لنيل الدنيا؛ كما قال الله تعالى: ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ﴾ [القصص: 77]، وهذا كان حال سلفنا الصالح، فقد فازوا بالحسنَيَينِ.
وأخيرًا أذكِّر بقول الله تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [الزمر: 52]؛ فاختَرْ لنفسِكَ أي السعيين تريد؟!