أرشيف المقالات

من صام يوما في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفا

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
(من صام يومًا في سبيل اللهِ، باعَد الله وجهَه عن النار سبعين خريفًا)
 
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين، وبعد:
من رحمة الله تعالى بعباده أن جعل لهم أعمالًا وأقوالًا هي لهم وقاية من عذابه، كما هو في سائر العبادات القولية والعملية، ومن ذلك الصيام، فإن الصيام من أعظم الأعمال التي يتقي بها المسلمُ عذابَ الله تعالى، وحيث كان الأمرُ كذلك، فعلينا معاشر الإخوة الكرام التعرفُ على جُنة الصيام للمحافظة عليها من الخروقات التي تُضعفها أو تُبطلها، وسيكون الحديث في هذا من خلال عشر وقفات في هذا الموضوع.
 
الوقفة الأولى: الصيام من أعظم الأسباب للوقاية من النار؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من صام يومًا في سبيل الله، باعَد الله وجهَه عن النار سبعين خريفًا)؛ رواه مسلم.
 
فيا بشراكم أيها الصائمون بذلك، ولأجل هذا ينبغي للمسلم أن يستكثر من تلك الوقاية، من صيام النفل، فالبعض من الناس لا يعرف من الصيام إلا الفرض، فأين هؤلاء من هذا الحديث وأمثاله، وما هي إلا سُويعات معدودات، وينتهي ذلك اليوم، خصوصًا في فصل الشتاء، فما أحرانا أيها الإخوة الكرام بالاستكثار من ذلك لوقاية أنفسنا من عذاب الله تعالى!
 
الوقفة الثانية: معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (الصيام جُنة)؛ أي: إن هذا الصيام هو حاجزٌ بين الصائم وبين عذاب الله تعالى، وهذا إشارة منه عليه الصلاة والسلام للصائمين ألا يَخرقوا تلك الجُنة بما قد يوصل إليهم عذاب الله عز وجل، فإن الوقاية إذا كثُرت الخروقات عليها، قلَّت وقايتها وفاعليتها، فاحفَظ وحافظ على جُنة الصيام بحفظ جوارحك ومقاصدك ولفظاتك.
 
الوقفة الثالثة: جُبلت الأنفس على حُب الشهوات وبُغض المكاره، وحيث إن هذه الدنيا دار ابتلاء وامتحان، فإن الله حجب النار بالشهوات وحجب الجنة بالمكاره؛ حيث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (حُجبت النار بالشهوات وحُجبت الجنة بالمكاره)؛ رواه مسلم.
 
وانطلاقًا من هذا يتعيَّن على المسلم الصائم وغيره أن يفهم فهمًا عميقًا حقيقة الابتلاء والامتحان، وليعلم أن فيه نجاحًا وإخفاقًا، فمع لذة ومحبة تلك الشهوة، فإن فيها إخفاقًا، ومع مشقة تلك الطاعة، فإن فيها نجاحًا، والعاقل يدور فكره بين هذا وذاك، ويُوازن بين المصالح والمفاسد، فمن أراد النجاح والفلاح أقبَل على تلك الطاعة مع مشقتها، وترك تلك المعصية مع لذتها، وعكسه بعكسه، وعند الصباح يحمد القوم السُّرى، فداعي النفس وداعي الإيمان متعارضان، فمن غلب كان له الجزاء، فعندما يتراءى لك معصية بصرية أو سمعية أو غيرها، فاستدعِ داعي الإيمان والتقوى، وعند تجاوزك لهذه المعصية تجد لذةً إيمانيةً أعظم من لذة المعصية لو فُعلت ولله الحمد، وهذا من عاجل بشرى المؤمن!
 
الوقفة الرابعة: اعلَم أن هذه الجُنة للصيام قد يعدو عليها بعض الخروقات، فالغيبة تخرقها والنميمة تخرقها، والكذب يخرقها، والسمع الحرام والبصر الحرام يخرقها، وهكذا، فالمعاصي هي خروقات لهذه الجُنة، فاتقِ تلك الخروقات تسلَم لك تلك الجُنةُ، لكن اتقاءها هو بتذكر ثلاثة أمور مهمة:
الأول: شُؤم المعصية وما تجرُّه من ذنب وعقوبة، وربما تسلسلت تلك المعصية، فالمعصية تجُر أختها، فتذكُّر هذا الشُؤم يجعل الإنسان ينزع عنه!
 
الثاني: العلم اليقيني بأن الإنسان إذا نجح في تجاوز المعصية ولم يفعلها خوفًا من الله تعالى، فإن هذا يُورثه إيمانًا في قلبه ورضًا في نفسه أعظم من لذة المعصية لو فعلها!
 
وثالثهما: أن الله تعالى يراك وهو الذي ابتلاك بتلك المعصية، فما واقعك لو رآك شخص ذو قدر كبير عندك ومن صالحي عشيرتك، ولله المثل الأعلى، فانتبه لهذه الأمور الثلاثة، كلما سوَّل لك الشيطان معصيةً أو ذنبًا.
 
الوقفة الخامسة: إن تَوقِّي هذه الخروقات لجُنة الصيام يُسهم في تحسين التقوى، فالمتقون هم الموفقون، إن توقي تلك الخروقات يحتاج إلى قوة الإيمان ونسبةٍ من الصبر، فإذا اجتمع الإيمان والصبر، فاستثمرهما بترك تلك المعصية، فإن اجتماعهما هو من توفيق الله تعالى لك.
 
الوقفة السادسة: إذا سوَّلت لك نفسك وفعلتِ المعصية، وخرقت تلك الجُنة، فسارع إلى الاستغفار والإنابة، فإنك أحوجَ ما تكون إليها، فاستغفر الله تعالى؛ فإن هذا الاستغفار إذا تحقق فله مردود إيجابي لاحقًا في عدم مزاولة المعصية مرةً أخرى، ولكن لا تستهن بالمعصية مهما صغُرت، وانظُر إلى عظمة مَن عصيت، فإنك فعلت المعصية بأحد جوارحك، والله تعالى هو الذي رزَقك تلك الجارحة، ومنعها آخرين وهو يراك حين تفعل، فما موقفك حين تستشعر أن الله عز وجل يراك وهو الذي رزقك وبيده العطاء والمنع، لا يكون لك بعد ذلك إلا النزع عن تلك المعصية، والاتجاه إلى التوبة والإنابة، وأيضًا تُكثر من الاستغفار، فإن هذا المسلك هو لجميع المعاصي في رمضان وغيره!
 
الوقفة السادسة: من فضل الله تعالى على عباده أن الحسنات يُذهبن السيئات، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأتبِع السيئة الحسنة تَمحُها)، فما أحرانا بالإكثار من الحسنات، لا سيما وأن الحسنة مضاعفة إلى عشر، بل إلى أضعاف كثيرة، وحيث إن جانب السيئات هو من الشهوات، فهو قريب في التناول وسهلٌ في الفعل، ومُشتهى للنفس، لكنه مع ذلك هو ابتلاء لإيمان المرء وعزيمته، فاحترِز منها ما استطعت، ولكنك إذا وقعت فأتْبِعْها بحسنات لعلها تَمحُوها، وإن تتابُعَ تلك الحسنات والحرص عليها، يُسهِّل عليك وقاية السيئات والبُعد عنها.
 
الوقفة السابعة: إن استكمال جُنة الصيام والمحافظة عليها، يحتاج إلى صبر الجوارح وإحاطتها بسياج الإيمان وتعظيم الله رب العالمين؛ إذ كيف يهنأ صاحب المعصية بمعصيته وأمره كله بيد من عصاه، يفعل ما يريد، ولكن لُطف الله بعباده عظيم، وأنه غفور رحيم، ولكنه قال عن نفسه: ﴿ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ ﴾ [الحجر: 50]، فاتَّقِ من تتابع السيئات، فإنها تجتمع على المرء فتُهلكه، فبالصبر نُحافظ على جُنة الصيام من مضاداتها ومخالفاتها وخروقاتها.
 
الوقفة الثامنة: إن المحافظة على جُنة الصيام هو حراك للمراقبة الذاتية في نفس الإنسان، فإن المسلم إذا راقب ذاته سلِم من كثيرٍ من الآفات؛ لأن تلك المراقبة الذاتية هي الواعظ الداخلي في القلب، يستنكر كل ما يُخالف هذه الفطرة، فإذا طرأت عليه المعصية استنكرها، فلم يستجب لها، بخلاف من لا يسلك مسلك المراقبة الذاتية، فإنه قد تمر على قلبه معاصٍ عدة، فيتشربها القلب ويقبلها، وهذا هو الران في قوله تعالى: ﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [المطففين: 14]، فلا تعجب ممن يفعل المعصية ولا يُقيم لذلك وزنًا، فإن الران قد استحكم على قلبه، فهو بحاجة إلى تخلية القلب من تلك النوازع السيئة، ثم تَحْليته بالطاعة؛ ليسلُك مسلك الفطرة.
 
الوقفة التاسعة: إياك والتساهل مع محقرات الذنوب، فإنها هي العتبات الأولى للذنوب والسيئات، فاجعَل يوم صومك مصونًا عن الخطأ؛ حتى تكتمل عندك جُنة الصيام، ولعل الله أن يُمدك بتوفيقه، فيرزقك هذه الجُنة يوم فطرك أيضًا، فيا بشراك، واعلم أن من صفات المتقين أنهم لا يُصرون على الذنوب إذا سوَّلت لهم نفوسُهم مزاولتها، بل سريعًا ما يفيئون ويرجعون مستشعرين بذلك قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ﴾ [العلق: 14]، فيستغفرون الله عما فعلوا، لذلك كانت لهم طوبى وهي شجرة في الجنة لمن كان في صحيفته استغفارٌ كثير.
 
الهمسة العاشرة: كم هو جميل تربية من تحت أيدينا على المحافظة على جُنة الصيام لمعرفتها وصيانتها؛ ليكتمل أجرهم، ولعل الله أن يهَبَنا مثله؛ حيث دللناهم على ذلك، والدال على الخير كفاعله، وحينما تتسع دائرة الانتفاع والدعوة، فنطرح ذلك على جُلسائنا وأقربائنا ومن نلتقي بهم، فإن الأجر يعظُم بإذن الله تعالى، ورُب مبلغٍ أوعى من سامع، فحينها سنسعد بمجتمع محافظٍ على تلك الجُنة مما يخرقها أو يُعكر صفوها.
 
وفي الختام أهمس في أذنك أخي الكريم قائلًا: كل معصية ترِد على خاطرك ويُسول لك الشيطان فعلها، اجعل أمامها نصوص الوحيين، فإنها ستحرقها، ولكن اعزم واصدُق، وستوفَّق بإذن الله تبارك وتعالى.
 
أسأل الله تعالى لنا جميعًا الخير كله، وأن يُجنبنا الشرَّ كله، وإلى لقاء آخر، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن