أين العلماء والأدباء؟
مدة
قراءة المادة :
4 دقائق
.
أين العلماء والأدباء؟[1]في كل زمان وفي كل مكان، يقوم دعاة خير ممن صفت نفوسهم وعلت هممهم وزكت أخلاقهم، يضيئون الطريق لأمتهم وينيرون سبل الإصلاح لها، والبلاد تفخر بهؤلاء وتعتز بهم؛ لأنهم الشعلة الوهاجة التي تبني على ضوئها صرح عزها ومجدها، وتشيد عليهم مفاخرها، فإنما يُعلي البلاد بَنُوهَا، وبهم تصعد إلى العلا وتهبط إلى الحضيض، فإذا خمد هذا الصوت - صوت الضمير صوت الإصلاح - انطفأت الشعلة وذاب النور، وتبلدت العقول وأسنت الأفكار، واضمحل الوقود الذي يدفع ركب الأمة.
فأعيذكم بالله يا علماءنا ويا أدباءنا من ذلك، وأدعوكم إلى أن تواكبوا عصركم عصر السرعة، فتُوَجِّهُوا الأمة وتقودوها إلى الحق وإلى طريق مستقيم، فإن إحجامكم وانشغالكم بالتوافه من أموركم عن مسايرة عصركم وعن توجيه أمتكم والدفاع عنها وإيضاح السبيل لها، ليس من المثل العليا في شيء.
فلا تظنوا أيها العلماء الأفاضل وأيها الأدباء الكرام أنكم قد أديتم رسالتكم، وأنتم في أبراجكم تناجون كتبكم، وقد جفت أقلامكم، وكلت هممكم وبردت عزائمكم، فاشحذوا أفكاركم وأشهروا ألسنتكم وأقلامكم، وأنيروا الطريق لأمتكم، فنحن في عصر أنتم به عالمون، ولحوادثه مدركون، وسرعته لا ترحم المتباطئين، ولا تنتظر النائمين.
فعوجوا على أنفسكم واسألوا ضمائركم:
هل أديتم واجبكم نحو مواطنيكم؟
هل شاركتم في بناء بلادكم على النحو المأمول منكم والواجب عليكم؟
إنكم لم تفعلوا ذلك، وما أبرئ نفسي، وإن عصرًا تمر حوادثه ووقائعه سراعًا يستدعى منكم أقدامًا ثابتة على المبادئ، وفكرًا مستنيرًا يقظًا ينير الدروب ويوضح الطريق، ويضع الدواء على الداء، ويساير الزمن في سرعته ومضائه.
فما هذا الوجوم والركود؟
هل استفحلت مشاكلنا إلى درجة جلبت لكم اليأس والقنوط، فأصبحتم لا تنبسون ببنت شفة، إلا لمما أو همسًا في مجالسكم الخاصّة؟!.
إن ميادينكم خلو منكم، وكأني بها وقد تسننها غيركم من الذين يدعون الوطنية؛ هراء ونفاقًا، أصحاب الأغراض السافلة والمقاصد الدنيئة، المتهافتين على الشهرة، الذين يقدمون ضمائرهم على أكفهم ثمنًا رخيصًا لأي منصب من أولئك الذي قال فيهم معروف الرصافي:
كم يدَّعي وطنيةً
من لم تكن مَرَّتْ ببابه
فتراه يرمِي المخلصين
بكلِّ سهم من جِعَابِهْ
ويعيب قوما بالخيانةِ
والخيانةُ بعضُ عابه
فتراه ينفخُ لاغيًا
فيها وينفخُ في جرابه
فيحتلون الصدارة ويصبح بيدهم توجيه الأمة، ثم لا تشعرون إلا وقد استفحل الداء وعز الدواء، وتولى الأمر غير أهله، وقاد الأمة غير الأكفاء المخلصين من أبنائها، فتختل المعايير وتتغير المفاهيم وتنعكس الأوضاع ويضيع الرعيل ومن يقوده، وتصبح الأمة في ضلالة عمياء وجهالة جهلاء، ثم تطيب منادمة المنايا، كما قال القاضي عبدالوهاب المالكي:
متى يصل العطاش إلى إرتواء
إذا استقت البحار من الركايا
ومن يثني الأصاغر عن مراد
إذا جلس الأكابر في الزوا يا
وإن ترفع الوضعاء يومًا
على الرفعاء من أقسى الرزايا
إذا استوت الأسافل و الأعالي
فقد طابت منادمة المنايا
فانتبهوا من سباتكم، واعتلوا مراكز القيادة، قيادة الأمة وهدايتها التي هي أمانة في رقابكم، وأنتم مسئولون عنها أمام مواطنيكم وخالقكم، فأنتم أرباب القلم والبيان، وأنتم أصحاب العلم والعرفان، وعليكم الآمال تعقد، ومنكم التوجيه يطلب، وإن تواكُلَكُم وتكاسلكم هما الداء الدوى، الذي ينخر عظام الأمة ويؤدي بها إلى الدمار والفناء، والله ولي التوفيق وكافئ العاملين.
من كتاب "رسالتان في القدر والربا ومقالات متنوعة" للمؤلف.
[1] مقال نشر في مجلة الجزيرة، العدد (9)، السنة الثالثة، رجب 1382هـ، الموافق ديسمبر 1962م.