بيان منزلة النصيحة من الدين
مدة
قراءة المادة :
9 دقائق
.
بيان منزلة النصيحة من الدينعن تميم بن أوس الداري - رضى الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الدين النصيحة" (ثلاثًا).
قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: "لله ولكتابه ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - ولأئمة المسلمين وعامتهم"[1].
ذكره الإمام النووي - في الأربعين التي عليها مدار الدين، ونقل ابن رجب - في الشرح عن أبي داود: أنَّ هذا الحديث أحد الأحاديث التي يدور عليها الفقه، وقال الحافظ أبو نعيم: هذا الحديث له شأن عظيم، وذكر محمد بن أسلم الطوسي أنَّه أحد أرباع الدين.
وقال النوويُّ - في شرح الحديث بصحيح مسلم: "هذا حديث عظيم الشأن عليه مدار الإسلام...وأمَّا ما قاله جماعات من العلماء أنَّه أحد أرباع الإسلام؛ أي أحد الأحاديث الأربعة التي تجمع أمور الإسلام؛ فليس كما قالوه بل المدار على هذا وحده...
قال الخطابي: ومعنى الحديث: عماد الدين وقوامه النصيحة، كقوله: الحجُّ عرفة أي: عماده ومعظمه عرفة"[2].
وهذا الأسلوب من أساليب الحصر والقصر، ومما يؤكد أنَّ الأمر محمول على الحقيقة أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كرَّر الجملة ثلاث مرَّات كما هو ثابتٌ في روايات الحديث.
وورد في بعض روايات الحديث: "إنما الدين النصيحة"، وذلك مزيدٌ في الحصر والتوكيد.
فصار قصد الحصر واضحًا من ثلاث جهات:
الأولى: إسناد الاسمين المعرَّفين (الدين النصيحة).
ثانيًا: قوله (إنَّما)، ومعلومٌ أنَّها تفيد الحصر والقصر.
ثالثًا: تكرار الجملة ثلاث مرَّات لرفع أيِّ توهُّم في قصد الحصر.
وقد أشار ابن قتيبة وغيره إلى أنَّ المجاز لا يؤكَّد بالتكرار[3].
ومن النصيحة لله: الإيمان به، ونفي الشريك عنه، وترك الإلحاد في صفاته ووصفه بصفات الكمال والجلال كلها، وتنزيهه من جميع النقائص، والقيام بطاعته واجتناب معصيته...
وحقيقة هذه الصفات راجعة إلى العبد في نصحه نفسه فالله تعالى غنيٌّ عن نصح الناصح"[4].
وأما النصيحة لكتابه؛ فمنها: الإيمان بأنه كلام الله تعالى غير مخلوق لا يشبهه شيءٌ من كلام البشر، وأنَّه مُعجزٌ ببيانه، ومعجزٌ بما فيه من تشريع صالحٍ لكل زمانٍ ومكان، والعمل بما فيه من أوامر، واجتناب نواهيه، والاجتهاد في إقامة حدوده وحروفه وتعلمه وتعليمه، ونفي انتحال المبطلين وتأويل المحرفين، وهذا عائد نفعه في جملته على الناصح نفسه.
وأمّا النصيحة لرسوله؛ فمنها: تصديقه برسالته، والإيمان بما جاء به من ربِّه، وطاعته في أمره ونهيه، وتوقيره ونصرته حيًّا وميتًا، والذب عن سنته، وبث دعوته ورسالته، والتلطف في تعلمها وتعليمها وإعظامها، ومحبة أهل بيته وأصحابه وأزواجه.
وأما النصيحة لأئمة المسلمين؛ فمنها: معاونتهم على الحق، وطاعتهم فيه، وأمرهم به، ومناصحتهم برفقٍ ولُطفٍ، وترك الخروج عليهم، وتأليف قلوب الناس لطاعتهم، والدعاء لهم بالتوفيق والصلاح.
والمقصود بالأئمة: الولاة ومن دونهم من المسئولين، وداخلٌ فيهم أئمةُ الدين المشهود لهم بالإمامة في العلم والعمل.
وأما نصيحة عامة المسلمين؛ فمنها: إرشادهم لخيري الآخرة والدنيا، وتعليمهم وإعانتهم ومواساتهم بالقول والفعل والمال، وستر عوارتهم، والذب عن أموالهم وأعراضهم، وسدّ خلاتهم، ودفع المضار عنهم، وجلب المنافع لهم، وإدخال السرور عليهم، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر برفق وإخلاصٍ، والحرص عليهم، والشفقة بهم، وتوقير كبيرهم، ورحمة صغيرهم، والعطف على مسكينهم، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه.
فإن قيل: كيف عطف النصيحة لله على النصيحة لرسوله ومن سواه؟
فالجواب بفضل الله وتوفيقه: إنَّ النصيحة من المعاني التي إن أضيفت إلى الله اختلف معناها عن إضافتها إلى غيره وإن اتَّفق اللفظ، وذلك كقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].
روى البخاري - مُعلَّقًا - عن أبي العالية قوله:" صلاة الله: ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة: الدعاء.
وقال ابن عباس: يصلون: يبرِّكون".
وروى الترمذي عن سفيان الثوري وغير واحد من أهل العلم قالوا: "صلاة الرب: الرحمة، وصلاة الملائكة: الاستغفار".
وعند تفسير قوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب: 43]؛ قال أبو حيان: "قال الحسن: ﴿ يُصَلِّي عَلَيْكُمْ ﴾: يرحمكم.
وقال ابن جبير: يغفر لكم.
وقال أبو العالية: يُثني عليكم.
وقيل: يترأف بكم.
وصلاة الملائكة الاستغفار، كقوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ﴾ [غافر: 7]، وقال مقاتل: الدعاء، والمعنى: هو الذي يترحم عليكم، حيث يدعوكم إلى الخير، ويأمركم بإكثار الذكر والطاعة، ليخرجكم من ظلمات المعصية إلى نور الطاعة...
وصلاة الله غير صلاة الملائكة، فكيف اشتركا؟ [لأنّهما اشتركا] في قدر مشترك؛ وهو إرادة وصول الخير إليهم.
فالله تعالى يريد برحمته إياهم إيصال الخير إليهم، وملائكته يريدون بالاستغفار ذلك"[5].
وعليه؛ فإنَّ الاشتراك بالعطف لا يعني أنَّ الله - عز وجل - مفتقر إلى النصيحة؛ سبحانه هو الغنيُّ له ما السماوات والأرض؛ بل يَعني أنَّ الناصحَ مُثابٌ على إقامة النصيحة لله، ومُوطِئٌ سبيل الاقتداء لغيره فكأنه ينصحهم باستقامته، ولو نظرتَ في كلِّ المعطوفات بعدُ لوجدتَ أنَّ هذا القدر مشتركٌ بينها فساغ العطف.
والله أعلم.
وقد أشار بعض العلماء إلى معنًى واضح، ولكنَّه - مع وضوحه - قد يخفى على المُتعجِّل غير الناظر، فالاقتصار في الحديث على المذكورين لا يعني أنَّ النصيحة لا تكون لغير المسلم بل كونها لغير المسلم هو ما تؤكده وظيفة الأنبياء، فالأنبياء ما هو إلا ناصحون لأقوامهم الذين هم - على الجملة - كُفَّارٌ، بل ومحاربون متحدُّن أنبياءهم.
وها هو نوح - عليه السلام - يقول لقومه: ﴿ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [الأعراف: 62]، ويقول أيضًا: قَالَ ﴿ وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [هود: 34]، وها هو صالح يقول: ﴿ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ﴾ [الأعراف: 79].
وها هو المصطفى - صلى الله عليه وسلم - يبلغُ من نُصحه لقومه - مع إعراضهم عنه - أنَّه تكاد تذهبُ نفسه عليهم حسراتٍ؛ فيقول له ربه - عز وجل -: ﴿ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾ [فاطر: 8].
يقول ابن حجر -:"والتقييد بالمسلم للأغلب، وإلا فالنُّصح للكافر مُعتبرٌ بأن يدعى إلى الإسلام، ويشار عليه بالصواب"[6].
[1] رواه مسلم (ح55).
[2] انظر: مسلم بشرح النووي (1/248).
[3] انظر في ذلك: تأويل مشكل القرآن (ص 111).
[4] انظر: مسلم بشرح النووي (1/248-249).
[5] البحر المحيط (9/169).
[6] فتح الباري: (1/140).