الداعية المبارك
مدة
قراءة المادة :
8 دقائق
.
الداعية المباركيقول الله تعالى عن عيسى عليه السلام: ﴿ وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ﴾ [مريم: 31]، قال السعدي رحمه الله في معنى قوله تعالى: ﴿ وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ ﴾: "أي في أي مكان وأي زمان، فالبركة جعلها الله فيَّ من تعليم الخير والدعوة إليه، والنهي عن الشر، والدعوة إلى الله في أقواله وأفعاله، فكل مَن جالسه، أو اجتمع به، نالته بركته، وسعد به مصاحبه"[1]، وقد اشتملت الآية على دروس دعوية، منها:
1- قوله: ﴿ وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ ﴾ إن من الصفات الحسنة التي ذكرها عيسى عليه السلام عن نفسه أنه مبارك، قال ابن القيم رحمه الله: "فالمبارك كثيرُ الخيرِ في نفسه الذي يحصله لغيره تعليمًا وإقدارًا ونُصْحًا وإرادةً واجتهادًا؛ ولهذا يكون العبد مباركًا؛ لأن الله بارك فيه، وجعله كذلك، والله تعالى متبارك؛ لأن البركة كلها منه، فعبده مبارك وهو المتبارك"[2]، والبركة هي الخير واليُمْن.
قال ابن عاشور رحمه الله: "والمبارك: الذي تُقارن البركة أحواله في أعماله ومحاورته ونحو ذلك؛ لأن المبارك اسم مفعول من باركه، إذا جعله ذا بركة، أو من بارك فيه، إذا جعل البركة معه، والبركة: الخير واليُمْن"[3]، وقد ذكر كثيرٌ من علماء التفسير أن المقصود ببركة عيسى عليه السلام أنه كان مُعلِّمًا للناس الخير، وآمرًا بالمعروف ناهٍ عن المنكر[4]، قال ابن كثير رحمه الله: "وقد أجمع الفقهاء على قول الله: ﴿ وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ ﴾، وقيل: ما بركته؟ قال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أينما كان"[5]، وهذا هو عمل الداعية إلى الله ووظيفته، وقال القرطبي رحمه الله: "﴿ وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا ﴾؛ أي: ذا بركات ومنافع في الدِّين والدعاء إليه ومعلمًا له، وجعلني آمرًا بالمعروف، وأنهى عن المنكر، وأرشد الضال، وأنصر المظلوم، وأغيث الملهوف"[6].
2- إن من أعظم النِّعَم التي يمتنُّ بها الله على الداعية أن يجعله مباركًا، فيجعله مباركًا أينما نزل وحَلَّ، وجلس وقام، ينفع عباد الله، ومن بركته أنه كلما جلس في مجلس حلَّتْ به البركة بتذكير الناس، ونصحهم، وحثهم، وقراءة آيات من القرآن، أو حديث من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن القيم رحمه الله: "﴿ وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ ﴾؛ أي: معلمًا للخير، داعيًا إلى الله، مُذكِّرًا به، مرغبًا في طاعته، فهذا من بركة الرجل، ومن خلا من هذا فقد خلا من البركة ومُحِقَتْ بركةُ لقائه والاجتماع به؛ بل تمحق بركة مَنْ لقيه واجتمع به، فإنه يضيع الوقت في الماجريات ويفسد القلب، وكل آفة تدخل على العبد فسببها ضياع الوقت وفساد القلب، وتعود بضياع حظِّه من الله، ونقصان درجته ومنزلته عنده"[7].
3- قال ابن عاشور رحمه الله في قوله: ﴿ أَيْنَ مَا كُنْتُ ﴾: "والتعميم الذي في قوله: ﴿ أَيْنَ مَا كُنْتُ ﴾ تعميم للأمكنة؛ أي: لا تقتصر بركته على كونه في الهيكل بالمقدِس أو في مجمع أهل بلده؛ بل هو حيثما حلَّ تحل معه البركة"[8]، وقد يكتفي بعض أئمة المساجد والخطباء على التذكير والتوجيه والنصيحة داخل المسجد فقط عن طريق الخطب والكلمات، وهذا أمر يشكرون ويُثابون عليه؛ ولكن من بركتهم أن تكون دعوتهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر داخل المسجد وخارجه أينما كانوا بين الأهل والأقارب، وفي السوق ومجمع الناس، وفي اجتماعاتهم وفي عملهم ووظيفتهم.
4- من بركة الداعية أن يستخدم وسائل التقنية والتواصل الاجتماعي في الدعوة إلى الله، فكلما دخل على هذه الوسائل تجده ينصح هذا، ويوجه ذاك، ويأتي بالمفيد والجديد والنافع، ويُذكِّر الناس بربِّهم وخالقهم جل وعلا، وإن رأى منكرًا نهى عنه برفق ولين ولطف، ودعوة طيبة.
5- من بركة الداعية أن يعُمَّ نفعُه وخيرُه أقربَ الناس إليه؛ من والديه، وزوجته، وأولاده، والأقربين إليه، وهم أولى الناس بالمعروف، فبعض الدُّعاةِ حريصٌ ونشيطٌ في دعوة الأبعدين؛ ولكنه يغفل عن أهل بيته الأقربين وأولاده ومَنْ له حق عليه، قال تعالى: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ [الشعراء: 214]، وقال عليه الصلاة والسلام: ((الأقربون أولى بالمعروف)).
6- من بركة الداعية أن يستثمر الفرص في الدعوة إلى الله، فإذا قابل شخصًا غير مسلم انتهز الفرصة ودعاه للإسلام بمطوية أو كُتيِّب أو غيرها، وإذا قابل رجلًا وقع في معصية نصحه ووجَّهَهُ وأمره بالمعروف ونهاه عن المنكر، وإذا جلس مجلسًا فيه أهل غِنًى وأهل دعوة اقترح عليهم بعض الأفكار والمشاريع التي ربما لا يستطيع هو القيام بها؛ ولكن غيره قد يتبنَّاها ويعمل بها.
7- إن العمل إذا بارك الله فيه، كثر خيرُه، وعظُم نفعُه، وامتدَّ أثرُه، وظهرت بركتُه، وما بارك الله في الأعمال ولو كانت قليلة إلا بالإخلاص لله ربِّ العالمين، فكم من عملٍ قليلٍ بارك الله فيه، وعظم بسبب الإخلاص، وكم مِن عملٍ كثيرٍ قلَّ نفعُه بسبب ضعف الإخلاص، وكما قال أحد السلف: "رُبَّ عملٍ قليلٍ تُعظِّمه النية، ورُبَّ عملٍ كثيرٍ تُصغِّره النية".
8- من بركة الداعية بركة مجلسه وبركته على جلسائه بتذكيره ووعظه ونُصْحه، وتذكيرهم بالكِتاب والسُّنَّة، وقد ورد في حديث مجالس الذكر في آخره: ((قال: فيقولون: ربِّ فيهم فلان عبد خطَّاء، إنما مرَّ فجلس معهم، قال: فيقول: وله غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم))، قال ابن القيم مُعلِّقًا عليه: "فهذا من بركتهم على نفوسهم، وعلى جليسهم، فلهم نصيب من قوله: ﴿ وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ ﴾"[9].
[1] تفسير السعدي: 2 / 492.
[2] جلاء الأفهام في فضل الصلاة على محمد خير الأنام لابن القيم: 1 /168.
[3] تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور: 16 / 99.
[4] ذكر ذلك ابن جرير وابن كثير والقرطبي.
[5] تفسير القرآن العظيم لابن كثير: 5 / 266.
[6] تفسير القرطبي: 11 / 103.
[7] رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه: 1 / 5.
[8] تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور: 16 / 99.
[9] الوابل الصيب لابن القيم: 1 / 101.