الثمرات الأخلاقية للدعوة إلى الله في المرحلة الثانوية (2)
مدة
قراءة المادة :
15 دقائق
.
الثمرات الأخلاقية للدعوة إلى الله تعالى في المرحلة الثانوية (2)
ثالثًا: تنمية الحس والضمير الأخلاقي:
لقد خلق الله تعالى الإنسان مزودا باستعدادات للخير والشر، والهدى والضلال، قادرا على توجيه نفسه إلى الخير وإلى الشر، حيث أودع الله فيه من المشاعر والمدارك ما يميز به بين فضائل الأخلاق وبين رذائلها، وهو ما يسمى بـ (الحس أو الضمير الأخلاقي)، والذي يجعل الإنسان يشعر بقبح العمل السيئ، وينفر منه، ويذم صاحبه، وبالمقابل يشعر بحسن العمل الطيب، ويرتاح إليه، ويمدح فاعله[1].
والدعوة إلى الله تنمي هذا الحس في قلب الفتاة المسلمة، بتعريفها على موازينه الدقيقة، مما يثمر استقامة ذاتية تنطلق من داخل النفس، وأساس هذه الاستقامة خشيتها لله، ويقينها بمراقبته تعالى لها، في السر والعلن، وتقوية وازع الخير في نفسها، لأن الله تعالى أودع الإنسان هذه الفطرة التي يميز بها بين الحق والباطل، لم يدعه بدون دليل يميز به بين الخير والشر، بل حدد له الموازين الثابتة الدقيقة التي تجلّي له غواشي الهوى، وتبصره الحق في صورته الصحيحة، وتوضح له الطريق وضوحا لا غموض فيه[2]، قال تعالى: ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [3].
ومن صور هذا الميزان أن تفتش المؤمنة عن الطمأنينة في قلبها، فما ترددت فيه ولم تنشرح له نفسها، وحصل منها شك وخوف أن يكون فيه معصية لله، فإنه - غالبا - إثم وذنب.
فضمير المؤمنة الأخلاقي يدفعها لقبول البر والرغبة فيه، كما أنه يدفعها لرفض الإثم والنأي عنه، والإثم هو المعاصي المحرمة بأنواعها، (قال العلماء: البر يكون بمعنى الصلة، وبمعنى اللطف والمبرة وحسن الصحبة والعشرة، وبمعنى الطاعة، وهذه الأمور هي مجامع حسن الخلق)[4].
والفتاة المسلمة تملك البصيرة التي تميّز بين الحق والباطل، ولا يلتبس عليها أمرهما متى كان حسّها الأخلاقي نقيا سليما من العلل والأمراض، فإنها تعرف الحق بدلالة النور الذي يسطع منه، وتحس بفضائل الأخلاق ومحاسن السلوك، وتنتبه كذلك لرذائل الأخلاق ومساوئ السلوك فتنفر من الباطل.
ومن هنا كانت دعوة الطالبة إلى الخير، وحثها عليه وتعريفها بقيم الإسلام، تعمل على غرس المعايير والموازين الأخلاقية السليمة في قلبها، ويكوِّن لديها انضباطا ذاتيا، فتقوم بالسلوك الحسن، وتجتنب السلوك القبيح، دون الحاجة إلى رقابة وضبط خارجي.
ويؤكد أهمية الضبط الداخلي النابع من الحس الأخلاقي، قوله - صلى الله عليه وسلم - للنواس بن سمعان الأنصاري - رضي الله عنه -[5] لمّا جاء يسأله عن البرّ والإثم، فقال: ((البّر: حسن الخلق، والإثم: ما حاك [6] في صدرك، وكرهت أن يطلع عليه الناس))[7].
وقد يشتبه الأمر على الفتاة المسلمة، في حكم بعض الأعمال بسبب تأثير الأهواء وشهوات النفس، أو العادات والتقاليد، أو غير ذلك، فتكون صور الضبط الناتجة عن الحس الأخلاقي في نفس الفتاة المؤمنة عند الاشتباه على الترتيب الآتي:
المرتبة الأولى: إذا سكن قلبها وانشرح صدرها للأمر فهو البرّ والحلال، وما أثر في صدرها حرجا وضيقا وقلقا واضطرابا، بحيث إذا اطلع عليه الناس أنكروه، فهو إثم ومنكر.
المرتبة الثانية: أن يحيك في صدرها ويضيق به، ويفتي لها الناس بأنه ليس إثما، لأنه مستنكر عندها فقط، فهذا جعله النبي - صلى الله عليه وسلم - إثما، وهذا الحس إنما يكون للمؤمنة التي انشرح صدرها بالإيمان، وكان من يفتي لها متأثرا بهوى أو بميل أو جهل من غير دليل.
المرتبة الثالثة: أن يحيك الأمر في صدرها ويتردد، ولا ينشرح قلبها له، ويفتى لها بما لا تطمئن إليه ولكن مع وجود الدليل الشرعي، فهنا عليها الرجوع للأمر، ولا عبرة لعدم انشراح الصدر، لأنه قد يكون بسبب الجهل ومخالفة الهوى، فتسلِّم لقوله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾ [8].[9]
ومرتبة رابعة: يوجه فيها الإسلام ضمير المسلمة وحسها الأخلاقي، بأن تسلك طريق التقوى، باتقاء الشبهات والاحتياط للدين، والابتعاد عما يريب،كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة، وإن الكذب ريبة))، [10] والمعنى: (اترك ما تشك فيه من الأقوال والأعمال، أنه منهي عنه أو لا أو سنة أو بدعة، واعدل إلى ما لا تشك فيه منهما، والمقصود أن يبني المكلّف أمره على اليقين البحت، والتحقيق الصرف، ويكون على بصيرة في دينه)[11].
فكما يُحدث الصدق الطمأنينة، وتكون المؤمنة الصادقة مطمئنة النفس، مستريحة آمنة، يُحدث الكذب الريبة، فتكون الكاذبة مرتابة قلقة شاكة، فهي مأمورة بأن تدع الكذب، وتتجنب كل ما يحدث في قلبها من القلق والشك الذي ربما أوقعها في الإثم، وبهذا يتجسد في قلبها الراحة والطمأنينة والشعور بالأمن والاستقرار[12].
رابعًا: تكافل المجتمع وترابطه:
للمجتمع الإسلامي الذي تعيش فيه الطالبة –بنظمه وقيمه وعاداته وتقاليده- أثر كبير في التكوين الأخلاقي للطالبة، فهي تتشرب تراثه طيلة حياتها، وتشعر برقابته عليها حتى لو كانت بمفردها، وهذا التأثير متبادل بينها وبين مجتمعها، ففي الوقت الذي تتأثر الطالبة فيه بأخلاق المجتمع، فإنها تصبح هي عنصرا مؤثرا في بنائه الأخلاقي.
إن الطالبة المسلمة التي تتخلق بالفضائل والقيم الأخلاقية، وتكتسب العواطف الإنسانية، سوف يصبح ذلك خلقاً ملازما لها، يصدر عنها دون تكلّف أو مشقة أو رياء، فيصلح حالها وتسعد، وهذا بدوره ينعكس على مجتمعها بالخير والبر والرقي والسعادة.
كما أن الطالبة التي تتصف بالتضحية والبذل والعطاء والإيثار، والحب للآخرين ومساعدتهم والتواضع لهم والتعاون معهم على البر والتقوى، ستكون قادرة على بناء علاقات اجتماعية متينة صالحة، ترتبط فيها مع أفراد مجتمعها برباط المحبة والتراحم والتآزر، فتهنأ حياتهم جميعا، ويعملون معا كبنيان مرصوص على تحقيق أهدافهم ورقي مجتمعهم، وحماية بنائهم الأخلاقي والاجتماعي من التفكك والانحلال[13].
وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أهمية تعامل المسلم مع أخيه المسلم معاملة الأخوة والتآلف، ومعاشرته له بالودّ والرفق والتلطف، في قوله: (( لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا))[14]، فتضمن الحديث: (تحريم بغض المسلم والإعراض عنه، وقطيعته بعد صحبته بغير ذنب شرعي، والحسد له على ما أنعم به عليه، وأن يعامله معاملة الأخ النسيب وأن لا ينقب عن معايبه)[15].
وهذا التعامل له أثره العظيم في البناء الأخلاقي للمجتمع، كما أن التمسك بقواعد الأخلاق الإسلامية كفيل بتحقيق سعادة الفرد والمجتمع.
ومنطلق الطالبة المسلمة في ذلك حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه))[16]، والمسلمة التي تعامل الناس على أساس أنها تحب لهم ما تحب لنفسها، فإنها ستعاملهم –بلا شك- بكل خلق رفيع، لأن هذا هو ما تحب أن يعاملوها به، فهي حين تعدل مع المسلمين وتعطي كل ذي حق حقه، سوف تجد العدل منهم، وحسن التعامل وصدق القول والثناء على فعلها، الأمر الذي يثمر قبول قولها، وحين تصدق في قولها وفعلها، سيصدق الآخرون معها، وإذا بدر منهم ما يسيء إليها، رفقت بهم وحلمت وتجاوزت عنهم وسترت عيوبهم، وعاملوها كذلك هم بالمثل[17]، وهذه قاعدة أخلاقية رفيعة أرشد إليها النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: ((فمن أحب أن يُزحزح عن النار، ويدخل الجنة، فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه))[18].
قال الإمام النووي[19]- رحمه الله-:
(هذا من جوامع كلمه - صلى الله عليه وسلم - وبديع حكمه، وهذه قاعدة مهمة ينبغي الاعتناء بها، وإن الإنسان يلزم أن لا يفعل مع الناس إلا ما يحب أن يفعلوه معه)[20].
والمجتمع المسلم هو البيئة المناسبة لتنمية الأخلاق الإسلامية، التي تؤدي إلى تكافل المجتمع وترابطه، لا سيما إذا استهدفت الجهود الدعوية ترسيخ الأخلاق الإسلامية النبيلة في سلوك الأفراد، وفي كل ما يقومون به من عمل وترك، أو قول وصمت، فإن المجتمع سيعيش حياة أخلاقية صالحة، تتضح فيها قيم الإسلام ومبادئه.
وهذا يؤكد أهمية التواصي بالحق بين أفراده، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالتناصح بين الناس مما يرسخ علاقة الأخوة بين المؤمنين، وقد امتدح الله المؤمنين والمؤمنات القائمين بهذه الشعيرة، وذلك في قوله تعالى: ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ [21] كما أكد النبي - صلى الله عليه وسلم - ضرورتها وأهميتها لكافة طبقات المجتمع بقوله: ((الدين النصيحة قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ورسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم))[22].
[1] ينظر: الأخلاق الإسلامية وأسسها: عبدالرحمن الميداني 1/72، وأسس التربية الإسلامية:د.
عبدالحميد الزنتاني ص 667.
[2] ينظر: في ظلال القرآن 6/3918.
[3] سورة الشمس: الآيات 7-10.
[4] شرح صحيح مسلم للنووي 16/111.
[5] النواس بن سمعان بن خالد بن عمرو بن قرط بن عبدالله بن أبي بكر بن كلاب العامري الكلابي، له ولأبيه صحبة - رضي الله عنه - وسكن الشام.
ينظر: الإصابة 3/572، وتهذيب التهذيب: الحافظ ابن حجر العسقلاني 10/480، مطبعة دار المعارف النظامية، الهند، ط:1، 1325هـ.
[6] حاك في صدرك: أي تحرك فيه وتردد ولم ينشرح له، وحصل في القلب منه الشك وخوف كونه ذنبا.
ينظر: شرح صحيح مسلم للنووي 16/111.
[7] صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تفسير البر والإثم 3/1980 ح 2553.
[8] سورة الأحزاب: جزء من آية 36.
[9] ينظر: جامع العلوم والحكم ص 78-79.
[10] مسند الإمام أحمد 1/200، سنن الترمذي، كتاب صفة القيامة، باب 60 4/668 ح 2518، وقال: حسن صحيح، وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/309 ح 2045.
[11] تحفة الأحوذي 7/221.
[12] وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه:( فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه) سبق تخريجه ص 60.
[13] ينظر: أسس التربية الإسلامية: د.
عبدالحميد الزنتاني ص 411.
[14] متفق عليه: صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر، ح6064 ( فتح الباري 10/481)، وصحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب باب تحريم التحاسد والتباغض والتدابر 4/1983 ح 2559.
[15] فتح الباري 10/483.
[16] متفق عليه: صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ح13 (فتح الباري1/57)، وصحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه من الخير 1/67 ح 45.
[17] ينظر: الأخلاق الإسلامية وأسسها: عبدالرحمن الميداني 1/81، والأخلاق الفاضلة قواعد ومنطلقات لاكتسابها: د.
عبدالله بن ضيف الله الرحيلي ص 59، مطبعة سفير، الرياض ط:1 1417هـ/1996م.
[18] صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول 3/1473 ح 1844.
[19] يحيى بن شرف بن مري بن حسن الحوراني النووي الشافعي أبو زكريا، علامة بالفقه والحديث، ولد بنوا بسورية سنة 631هـ، وتعلم في دمشق وأقام بها زمنا طويلا، توفي سنة 676هـ رحمه الله، ينظر: البداية والنهاية: الحافظ ابن كثير(774هـ)، 13/278، دار الفكر، بيروت ط:بدون، 1402هـ/1982م، والأعلام: الزركلي 8/149.
[20] شرح صحيح مسلم للنووي 12/233.
[21] سورة التوبة: جزء من آية 71.
[22] صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة 1/74 ح 55.