عظة العيد وعبرة الذكرى
مدة
قراءة المادة :
4 دقائق
.
لصاحب العزة الأستاذ أنطون الجميل بك. . إذا كانت (الهجرة النبوية) من (مكة) إلى (يثرب) قطب الدائرة في انتشار الرسالة المحمدية واستطارة الدعوة إليها من المشرق إلى المغرب في حقبة قصيرة من الزمن، فإنها إلى جانب هذا حادثة من أعظم حوادث التاريخ وأبلغها أثراً في تغيير اتجاهات الإنسانية.
وقد صار يوم الهجرة أو التاريخ الهجري بداية تاريخ جديد إلى جانب تاريخ الخليقة والتاريخ الميلادي.
فلا بدع أن ينصرف الباحثون والمنقبون من جميع الأمم منذ ثلاثة عشر قرنا، إلى درس ذلك اليوم التاريخي، فيتناولوا بالبحث والتحليل ما سبقه من المقدمات، وما صاحبه من الحوادث، وما أعقبه من النتائج، حتى أنه ليخيل أنه لم يبق من زيادة لمستزيد. ولكن الحوادث الكبرى في تاريخ البشرية كنز عبر لا يفنى، ومعين فوائد لا ينضب، يرجع المرء إليها كلما تعقدت حوادث حاضره، والتبس عليه مصيره في مستقبله. والشرق اليوم، في صبره على الحاضر وانتظاره المستقبل، أحوج ما يكون إلى استخلاص الفوائد والعبر من عظائم الحوادث الغابرة.
والإنسان أمام المستقبل المجهول يبحث في الماضي عن قبس ينير له الطريق: فالسياسي يعود إلى السوابق، والقانوني يرجع إلى العرف والتقاليد، والاجتماعي يذهب منقباً في ثنايا التاريخ. أما العبرة التي نحتاج إليها من هذه الذكرى في حاضرنا فهي ما اكتنف الهجرة من اضطهاد؛ وأما الفائدة التي ينبغي أن نستخلصها لمستقبلنا فهي ما قضت به على ذلك المهاجر المقدام من تضحية.
فنفهم حينئذ حق الفهم أن كل دعوة تقوم على يقين صادق وإيمان راسخ لا يستطيع أحد أن ينال منها.
فهي كالحرية: كل ما يصنع ضدها يعود بالخير عليها.
والإرادة الثابتة لا غالب لها، فهي تتخذ من كل ما يقوم في وجهها من العقبات درجات ترتقيها إلى هدفها الأسمى. فالالتجاء إلى الهجرة انتهى بتآلف المهاجرين والأنصار، والعودة إلى الديار تحت رايات الانتصار والاضطرار إلى الاختباء في ظلمات (الغار)، مهد الظهور في وضح النهار ومن السكون الموحش الذي خيم في تلك الليلة الليلاء، انطلق ذلك الصوت المدوي ف جميع الأرجاء. كل فكرة لا تضطهد لا تعيش.
وكل دعوة لا تقاوم لا تقوم على أساس.
وكل صاحب رسالة لا يضحي في سبيلها بأعز ما لديه يفشل وينكص على الأعقاب. تاريخ الأنبياء والرسل شاهد على ما تقول.
بل هذا تاريخ أبطال العالم وعظمائه يدل من الوجهة الإنسانية البحتة على أن الفكرة الكبيرة تحتاج إلى مقاومة، وإلى اضطهاد، وإلى تضحية، لترسخ وتقوى وتنتشر، كالشجرة تعمل فيها الفأس قطعاً فتزداد نمواً، أو كالأرض لا تخرج أحشاؤها خيراتها إلا إذا ذهب المحراث فيها شقاً. وفي الشرق اليوم (فكرة) تجتمع حولها أماني الأفراد، وتتلاقى نزعات الجماعات - في السياسة وفي الاقتصاد وفي الثقافة.
إذا كان المقام لا يتسع للتفصيل، وإذا كانت صبغة هذه الصحيفة الغراء لا تسمح بالتصريح، فإننا لا نتعدى النطاق المرسوم إذا قلنا إن هذه (الفكرة) تلاقي مقاومة من أهوائنا وغاياتنا المتنازعة في الداخل، ومن المطامع والمصالح المتضاربة في الخارج.
وهذه المقاومة نفسها كفيلة بتحقيق هذه الفكرة في يوم يقاس قربه أو بعده بمقياس استعدادنا للتضحية في سبيلها. فيا رجال السياسة والاقتصاد، ويا رجال القانون والاجتماع، أيها المهيمنون على مقدرات هذا الشرق، المسؤولون عن مصايره، اتخذوا اليوم من ذكرى هذا الحادث التاريخي العظيم - التي يحتفل بها مئات الملايين من المسلمين ويشاركهم فيها مواطنوهم من سائر المذاهب - اتخذوا لنا ولكم من هذه الذكرى عظة، ومن هذا العيد عبرة! أنطون الجميل