وعود الإسلام بين الأمس واليوم
مدة
قراءة المادة :
6 دقائق
.
وعود الإسلام بين الأمس واليومفي ختام حواره مع الزعيم العربي النصراني عدي بن حاتم الطائي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لعلك يا عدي، إنما يمنعك من دخولٍ في هذا الدين ما ترى من حاجتهم، فوالله ليوشكن المال أن يفيض فيهم، حتى لا يوجد من يأخذه، ولعلك إنما يمنعك من دخولٍ فيه ما ترى من كثرة عدوهم وقلة عددهم، فوالله ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت لا تخاف، ولعلك إنما يمنعك من دخولٍ فيه أنك ترى أن المُلك والسلطان في غيرهم، وايْمُ اللهِ ليوشكن أن تسمع بالقصور البِيض من أرض بابل قد فتحت عليهم))؛ رواه الترمذي.
يكاد وضع الإسلام اليوم يتطابق مع يوم جرى فيه هذا الحديث بين الداعية الأول صلى الله عليه وسلم، وبين رجل عاقل سمع عن الإسلام كرسالة تغييرية عظيمة، لكنه يراه من خلال واقعه على الأرض ضعيفًا هزيلاً لا يقوى على حماية نفسه، فضلاً عن اكتساح الأرض وقلب الموازين الفكرية والاجتماعية، لكنَّه بذهنه المتَّقد علمًا وذكاءً أيقن أن مخاطبَه نبيٌّ مرسَل، فآمن به وانتظر تحقُّق التغييرات الهائلة التي تنبَّأ بحدوثها.
ونحن - المسلمين - متيقِّنون من وعد الله ورسوله، وإنما يتسلَّل إلى بعضنا شيء من الريب بسبب حجاب المعاصرة الذي يضبط ساعتنا على اللحظة الحاضرة بهزالها، ويحول دون إبصار الحقائق الباهرة التي أخبرنا بها الوحي، ويدلُّ عليها التحليل الموضوعي وأرصدة التاريخ والتجرِبة.
وليس من قبيل تغييب العقل، ولا تنكُّب طريق الموضوعية - كما يتَّهمنا العلمانيُّون المنقطعون عن الوحي وعن القراءة الكلية لصيرورة الأحداث - أن نأخذ قبسًا من التجربة الأولى التي أثبت فيها الإسلام قدرته الفائقة على تحويل الأفكار إلى برامج تتفاعل مع الأمم وقيمها وثوابتها وثقافتها وأنماط حياتها؛ ليصهر هذه الأمم في تصوُّره للكون والإنسان والحياة، ويجعلها تُحوِّل نفسها ذاتيًّا إلى كيانات جديدة تتولَّى هي عملية التغيير؛ لِتُحقِّق نتائج نفسية وميدانية هائلة تعجز مقاييس علم الاجتماع السياسي - إلى حدٍّ بعيد - عن تفسيرها؛ لأنها تقع خارج معياريتها النمطية، وأبرز مثال على هذا هو النقلة النوعية اللافتة التي حظي بها العرب بعد اعتناقهم الإسلام؛ إذ لم يمرَّ قرن من الزمان على البعثة حتى أحدثوا تغييرًا كليًّا في حياتهم على جميع المستويات:
سياسيًّا: انتقلوا من قبائل متناثرة متناحرة إلى "إخوة" من الناحية الشعورية، وإلى "أمة" من الناحية البنيوية، وأذعنوا لأول مرة لسلطة مركزية تتمتَّع بكلِّ مواصفات الدولة، وقد كان هذا أمرًا صعبًا للغاية على عقلية القبيلة ونفسية التحرُّر من القيود في الصحراء المترامية الأطراف.
دوليًّا: كانت أطراف الجزيرة العربية مستعمرة، وكانوا عرضة للغزو بين الفينة والأخرى من طرف دولتي الروم والفرس، بل تغلَّب عليهم حتى الحبشة بجيش الفِيَلة، فأصبَحوا بعد ذلك أمة مَهِيبة الجانب تتمتَّع بالحرية والعزة، وتتقدَّم شيئًا فشيئًا لتتولَّى القيادة الفكرية للعالم المعروف آنذاك.
اقتصاديًّا: كانت الحياة الاقتصادية مقتصرة على رحلتي الشتاء والصيف للتبادل التجاري في جنوب الجزيرة وشمالها، كانت الأسواق زهيدة والمعيشة بسيطة، ثم تطوَّرت الأوضاع إلى حركة اقتصادية دؤوبة بلغ فيها تبادل السلع والخدمات أَوْجَهُ، ليس كعمل تجاري فحسب، ولكن كعملية اقتصادية متكاملة الأركان من جهة، ومنضبطة في جميع مراحلها بضوابط الشرع والأخلاق من جهة أخرى، ولم تعُدْ حركة العرب مقتصرة على أطراف الجزيرة، بل انسابت شرقًا حتى أقاصي آسيا، وغربًا حتى اجتاحت معظم القارَّة الأوربية، فحدثت بذلك نهضة اقتصادية رائعة.
علميًّا: سبق الإسلام الأديان سبقًا بعيدًا في الدعوة إلى العلم والإشادة بفضله وأهله، فانطلق العرب والمسلمون الأولون ينهلون من جميع العلوم، حتى فاقوا فيها باقي الأمم، استوعبوا العلوم والثقافات القديمة، ودرسوها بعناية وحافظوا عليها بأمانة، وزادوا عليها وطوَّروها حسب الرؤية الإسلامية للحياة، وشملت دراساتهم وابتكاراتهم جميع مجالات المعرفة؛ من الفَلَك والرياضيات إلى الطبِّ والزراعة ونحوها، وكانوا هم مؤسِّسي العلم التجريبي كما أصبح يعترف - أخيرًا - مؤرخو العلوم من كل الجنسيات، وللمرء أن يعجب من هذه النقلة الأخرى التي حوَّلت العرب من أمة أمية إلى أرباب للمعارف والعلوم، إبداعًا وتنظيمًا وتدوينًا ونشرًا، أقاموا مراكز علمية وجامعات عالمية احتضنت طلبة وخرَّجت عباقرة أوروبيين حين كانت قارَّتُهم غارقة في ظلمات القرون الوسطى التي يلفُّها الجهل والشعوذة والخرافة باسم المسيح.
حضاريًّا: بكلِّ ما سبق خرج العرب في فترة وجيزة جدًّا بمقياس التاريخ من الحياة البدائية والاعتماد على إنتاج روما وفارس المادي والأدبي، إلى تأسيس تلك الحضارة العالمية التي كان لها إسهامها الواسع في الإرث الإنساني، حضارة المادة والروح، والإنتاج والأخلاق، والربانية والإنسانية.
كلُّ هذا صنعه العرب بالإسلام، أو صنعه الإسلام بالعرب، وهو شيء أقرب إلى المعجزة، صعُب فهمُه على المحلِّلين المقتصرين على العوامل الموضوعية - كما يقولون - المستبعدين لعناصر الدين والإيمان والأخلاق، ولحيويَّة الإسلام الخاصة التي يستمدُّها من كونه منهجًا للحياة، وليس مجرَّد عقيدة مختلجة في الوجدان، أو قوانين صارمة تطبِّقها مؤسسة كهنوتية على الناس، والذي يرشِّح الإسلامَ لتحقيق وعوده للمسلمين وللبشرية اليوم هو بالضبط بقاؤه في الأذهان والقلوب والدراسات منهجًا حياتيًّا متكاملاً يبني الحضارة ويُسعد الدنيا، وما زال حاملاً لتلك الحيوية رغم ما أصاب أهله ومسيرته، ولولاها لاندثر كدِينٍ وأمَّة وحضارة، وإذا لم تعلق أذهانُنا بعقبات طريق الإحياء والنهوض، وتجاوزتها إلى الانخراط في الدورة التاريخية المتكاملة المنسجمة مع سنن التغيير، فسنبصر وعود الإسلام ونلمسها في عالم الناس من غير شكٍّ، ولمن ساوره شكٌّ في ذلك بسبب حال المسلمين وحركتهم التغييرية، فليتذكَّر حال الأوائل وهم قلَّة في بدر، منكسرون في أُحُد، محاصَرون وراء الخندق، مهدَّدون بحروب الردَّة، ومواجهون للغزو المغولي من الشرق، والصليبي من الغرب، هل أفناهم شيء من ذلك؟
إن الإسلام قادر اليوم على توحيد الأمة، وشحذِ هِممها، وتحريك عزائمها، ووضعها على سكَّة الرجوع القوي إلى ركب الحياة لأداء مهمة الشهود الحضاري، ولن يغيِّر التكالب العلماني التغريبي من ذلك شيئًا إلا ما كان من ابتلاءات تؤخِّر الإنجاز ولا تُلغيه.