أرشيف المقالات

ثلاث رسائل ما بعد رمضان

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .

(1) الرسالة الأولى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27].
أيها الأحبة الأفاضل الأكارم ها هو شهر رمضان قد ودعنا وصعد إلى الله تعالى بأعمالنا، وقد سبق فيه من سبق، وفاز فيه من فاز، وخسر فيه من خسر، فمن المقبول فنهنيه ومن الخاسر فنعزيه؟ فالله تبارك وتعالى لا يتقبل إلا من المتقين المخلصين، قال تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [سورة المائدة: 27].
وعَنْ شَدَّادٍ أَبِى عَمَّارٍ، عَنْ أَبِى أُمَامَةَ الْبَاهِلِىِّ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَرَأَيْتَ رَجُلاً غَزَا يَلْتَمِسُ الأَجْرَ وَالذِّكْرَ مَا لَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لاَ شَيءَ لَهُ، فَأَعَادَهَا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ يَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لاَ شَيءَ لَهُ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلاَّ مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا، وَابْتُغِىَ بِهِ وَجْهُهُ» (أخرجه النسائي 6/25 وفي (الكبرى) 4333).

وعَنْ ثَوْبَانَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «لأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضا، فَيَجْعَلُهَا اللهُ عز وجل هَبَاءً مَنْثُورًا، قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللهِ صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا، أَنْ لاَ نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لاَ نَعْلَمُ؟ قَالَ: أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللهِ انْتَهَكُوهَا» (أخرجه ابن ماجة (4245) الألباني في (السلسلة الصحيحة) 2 / 18، وانظر حديث رقم: 5028 في صحيح الجامع).
وأثر عن علي رضي الله عنه: "كونوا لقبول العمل أشد اهتماماً منكم بالعمل، ألم تسمعوا الله عز وجل يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [سورة المائدة: 27]".

خرج عمر بن عبد العزيز رحمه الله في يوم عيد الفطر فقال في خطبته: "أيُّها الناس صُمتمْ للهِ ثلاثينَ يوماً، وقُمتمْ ثلاثينَ ليلةً، وخرجتم اليوم تطلبون من الله أنْ يَتَقبَّلَ منكم ما كان".
وكان بعضُ السلفِ يَظْهَرُ عليه الحزنُ يومَ عيدِ الفطر، فيُقَالَ له: إنَّه يومُ فرحٍ وسرور، فيقول: صَدَقْتُمْ؛ ولكني عبدٌ أمرني مولاي أنْ أعملَ لَهُ عملاً، فلا أَدْرِي أَيْقبَلُهُ مِنِّي أَمْ لا؟
 
غدا توفى النفوس ما كسبت *** ويحصد الزارعون ما زرعوا
إن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم *** وإن أساءوا فبئس ما صنعوا قال ابنُ رجب رحمه الله: "لقد كان السلفُ رحمهم الله يَدْعُون الله ستةَ أشهرٍ أنْ يُبلّغهم شهرَ رمضان، ثم يَدْعُون الله ستةَ أشهرٍ أنْ يَتقبَّله منهم".

(2) الرسالة الثانية: {وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [المائدة: 21].
إن من أعظم الجرم، وإن من أكبر الخسران أن يعود المرء بعد الغنيمة خاسراً، وأن يبدد المكاسب التي يسرها الله عز وجل في هذا الشهر الكريم، وأن يرتد بعد الإقبال مدبراً، وبعد المسارعة إلى الخيرات مهاجراً، وبعد عمران المساجد بالتلاوات والطاعات معرضاً؛ فإن هذه الأمور لتدل على أن القلوب لم تحيَ حياة كاملة بالإيمان، ولم تستنر نورها التام بالقرآن، وأن النفوس لم تذق حلاوة الطاعة ولا المناجاة، وأن الإيمان ما يزال في النفوس ضعيفاً، وأن التعلق بالله عز وجل لا يزال واهناً؛ لأننا أيها الإخوة على مدى شهر كامل دورة تدريبية على الطاعة، والمسارعة إلى الخيرات، والحرص على الطاعات ودوام الذكر والتلاوة، ومواصلة الدعاء والتضرع والابتهال والمسابقة في الإنفاق والبذل والإحسان، ثم ينكس المرء بعد ذلك على عقبه.
فاحذر أيها الحبيب من العودة إلى المعاصي وإلى الغفلة والانتكاسة بعد الهداية، والاعوجاج بعد الاستقامة ، يقول تعالى: {وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [سورة المائدة: 21].
  يا شهر مفترض الصوم الذي خلصت *** فيه الضمائر والإخلاص للعمل
أرمضت يا رمضان السيئات لنا *** بشر بنا للتقى علا على نهل
ولقد قال الله تعالى واصفاً حال بعض الناس في العبادة: {ومِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [سورة الحج : 11].
قال السعدي رحمه الله في تفسيره: "أي: ومن الناس من هو ضعيف الإيمان لم يدخل الإيمان قلبه، ولم تخالطه بشاشته، بل دخل فيه إما خوفاً، وإما عادة على وجه لا يثبت عند المحن، {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ} أي: إن استمر رزقه رغدا، ولم يحصل له من المكاره شيء اطمأن بذلك الخير، لا بإيمانه، فهذا ربما أن الله يعافيه ولا يقيض له من الفتن ما ينصرف به عن دينه، {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ} من حصول مكروه، أو زوال محبوب {انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} أي: ارتد عن دينه، {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ} أما في الدنيا : فإنه لا يحصل له بالردة ما أمله الذي جعل الردة رأساً لماله، وعوضا عما يظن إدراكه، فخاب سعيه، ولم يحصل له إلا ما قسم له، وأما الآخرة: فظاهر، حرم الجنة التي عرضها السماوات والأرض، واستحق النار {ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} أي: الواضح البين.
فهذا حال المنافق إن صلحت له دنياه أقام على العبادة، وإن فسدت عليه دنياه وتغيرت انقلب، ولا يقيم على العبادة إلا لما صَلَح من دنياه، وإذا أصابته شدّة أو فتنة أو اختبار أو ضيق؛ ترك دينه ورجع إلى الكفر" (تفسير السعدي 534).

فلا تكن كعبد السوء إن أعطي رضي، وإن منع قنط وسخط، بل وطن نفسك مع الصادقين المخلصين، ولا تجعل نفسك في زمرة هؤلاء المنتكسين الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا النقم مكان النعم.

(3) الرسالة الثالثة: «أحب الأعمال إِلَى اللَّهِ تعالى أدْوَمُهَا، وَإِنْ قَلَّ».
الله تعالى بحكمته ورحمته لم يكلف الناس من العبادات والطاعات والتشريعات ما لا يطيقون، بل كلفهم بما يستطيعونه ويقدرون عليه، قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286]، عن عَائِشَةَ رضي الله عنها أنَهَا قَالَتْ: «سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أحَبُّ إلى اللَّهِ؟ قَالَ: أدْوَمُهَا، وَإِنْ قَلَّ، وَقَالَ: اكْلُفُوا مِنَ الأعمال مَا تُطِيقُونَ» (أخرجه أحمد 6/176 والبخاري 8/122 ومسلم 2/189).

إن الكثير منا ليشعر بالتقصير ويؤنبه ضميره دائماً لتقصيره في العبادات، والتقرب من الله بالطاعات، فتأتيه مشاعر صادقة بعد موجة الندم تلك فنجده قد التزم بالأعمال الصالحة الكثيرة، فهو قد ألزم نفسه بالصوم المتواصل، والقيام الدائم، والذكر الكثير، حتى إنه يملأ أيامه الأولى كلها بتلك الأعمال الصالحة، ولكنه وللأسف ما إن يمضي بعض الوقت إلا ونجده قد خفت همته، وبدأ حماسه يقل، وهذه آفة قد تعتري البعض منا، فما يأتي فجأة يذهب فجأة كما قيل، وهنا يقال لا ينبغي لمن كان يعمل صالحاً أن يتركه؛ وليحرص على مداومته لتلك الأعمال الصالحة ولو كانت تلك الأعمال قليلة، فقليل دائم خير من كثير منقطع.
عن عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ لِيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا عَبْدَ اللهِ، لاَ تَكُنْ مِثْلَ فُلاَنٍ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ، فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ» (متفق عليه).

إن المسلم الحق هو الذي يستغل مواسم الطاعات، وفترات إقبال العبادات قال تعالى: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [سورة إبراهيم: 5].
عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: "الْتَمِسُوا الْخَيْرَ دَهْرَكُمْ كُلَّهُ، وَتَعَرَّضُوا لِنَفَحَاتِ رَحْمَةِ اللهِ، فَإِنَّ لِلَّهِ نفَحَاتٍ مِنْ رَحْمَتِهِ يُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَسَلُوا اللَّهَ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَاتِكُمْ، وَيُؤَمِّنَ رَوْعَاتِكُمْ".
(قال الألباني في (السلسلة الصحيحة) 4 / 511: رواه الطبراني في (الكبير) رقم: 720").

فالإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعات وينتقص بالمعاصي والسيئات، فلا يمكن لإيمان أن يسير على وتيرة واحدة بل لا بد من الزيادة والنقصان، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: «ذُكِرَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم رِجَالٌ يَجْتَهِدُونَ فِي الْعِبَادَةِ اجْتِهَادًا شَدِيدًا، فَقَالَ: تِلْكَ ضَرَاوَةُ الإِسْلاَمِ وَشِرَّتُهُ، وَلكُلِّ ضَرَاوَةٍ شِرَّةٌ، وَلكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ، فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى اقْتِصَادٍ وَسُنَّةٍ فَلأُمٍّ مَا هُوَ، وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى الْمَعَاصِي فَذَلِكَ الْهَالِكُ» (أخرجه أحمد: 2/165-6539).
والعاقل هو من يستغل فترة زيادة الإيمان، كان علي رضي الله عنه يقول: "إن للقلوب إقبالاً وإدباراً، فإذا أقبلت فاحملوها على النوافل، وإذا أدبرت فاقتصروا بها على الفرائض".
والمداومة على الخير وإن كان قليلاً أفضل عند الله تعالى من تركه بالكلية، فلرب شق تمرة تنقذ صاحبها من غضب الجبار، ومن دخول النار عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلاَ يَرَى إِلاَّ مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلِهِ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلاَ يَرَى إِلاَّ مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلاَ يَرَى إِلاَّ النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ» (أخرجه البُخَارِي: 8/14- 6023، ومسلم: 3/86- 2312).

أيها الحبيب: لربما يوفق الله تعالى عبداً من خلقه إلى عمل من أعمال الخير يداوم عليه، ثم يقبضه وهو مقيم على هذا العمل الصالح فيدخل به الجنة عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَمِقِ الْخُزَاعِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا اسْتَعْمَلَهُ، قِيلَ: وَمَا اسْتَعْمَلُهُ؟ قَالَ: يُفْتَحُ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ بَيْنَ يَدَيْ مَوْتِهِ، حَتَّى يَرْضَى عَنْهُ مَنْ حَوْلَهُ» (أخرجه أحمد: 5/224- 22295، وعَبْد بن حُمَيْد: 481).
وأخيراً أيها الغالي الحبيب قل لنفسك:
  لا تقل من أين ابدأ؟ ‍*** طاعة الله البداية
لا تقل أين طريقي؟ ‍*** شرعة الله الهداية
لا تقل أين نعيمي؟ ‍*** جنة الله الكفاية
لا تقل في الغد ابدأ ‍*** ربما تأتي النهاية اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي، اللهم أعنا على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك.


بدر عبد الحميد هميسه
 

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١