int(1458) array(0) { }

أرشيف المقالات

الاهتمام في إعداد الدعاة بالكيف لا بالكم

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
الاهتمام في إعداد الدعاة بالكيف لا بالكم
 
ذلك أن الكيف في الإسلام مقدم على الكم، والعبرة بكثرة الكيفية لا بكثرة العدد، وصدق الله العظيم حيث يقول: ﴿ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [1].
 
وذلك يستلزم قوة التربية وحسن إعداد الدعاة، بحيث يكون ذلك ضمن منهج متكامل واضح المعالم، يستنبط قواعده وأصوله من شرع الله، ويلزم الدعاة بالتشبث بها[2]، وذلك ليخرجوا ونفوسهم ممتلئة بالروح الجهادية الفعالة، ويشعر كل واحد منهم بمسئوليته تجاه أمته، فيطلقها من كبوتها، ويبعثها من مرقدها، وهذه الروح الجهادية تورثه الثقة بالنفس، وتجعله مستعصيا على التحديات والعقبات التي تعترض مسير دعوته[3]، وتنمي فيه الإرادة الحرة، التي تدفعه إلى الدعوة إلى الله، والعمل الصالح، وتعزز عنده شعور الولاء للمسلمين، فيتحقق فيه قوله تعالى ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [فصلت: 33] [4].
 
وقد تحقق في الصحابة رضوان الله عليه أرفع مستويات التحقق بصفات الدعاة إلى الله، المستنيرين بتعاليم ربهم وهدي نبيهم صلى الله عليه وسلم، وقد جمعهم ووثق عرى الأخوة بينهم، التقاؤهم على الإيمان والبذل والجهاد وطاعة الله وطاعة رسوله، والدعوة إلى دينه، وقد قال تعالى في مدحهم: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا ﴾ [الأنفال: 72] [5].
 
وقد كانوا تلامذة للرسول صلى الله عليه وسلم في كل أحواله، في سفره وإقامته، في حربه وسلمه، فهو نبيهم وقائدهم وقدوتهم ومعلمهم، وكان كل صحابي يدعو إلى الإسلام من خلال ظروفه وواقعه عن رغبة ومبادرة ذاتية، على قدر وسعه وطاقته، ثم نمت مدرسة النبي صلى الله عليه وسلم مع نمو الدعوة، حتى أخذت الوفود تتوالى على المدينة تتعلم ثم تغادر وتنطلق هنا وهناك تنقل الدعوة وتبلغ الرسالة[6].
 
وقد عاش هؤلاء الصحابة في الجاهلية ثم أسلموا فعاصروا أحداث نزول القرآن، ووقائع المعارك وتقاسموا الشدة والرخاء مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فأثمر لهم ذلك بصيرة وعلما وثباتا على الحق، كانوا على علم تام بمنهج الإسلام ودعوته وغاياته وأهدافه.
 
قال ابن القيم رحمه الله في فضل من عاش في الجاهلية ثم أسلم، وكيف أثر ذلك في نفوسهم فكانوا أشد الناس حباً ورغبة في الإسلام، وأبغض الناس للكفر ومظاهر الانحراف الخلقي ومفاسد الجاهلية:
(وبذلك برز الصحابة على جميع من أتى بعدهم إلى يوم القيامة، فإنهم نشأوا في سبيل الضلال والكفر والشرك...
ثم جاءهم الرسول فأخرجهم من تلك الظلمات إلى سبيل الهدى وصراط الله المستقيم، فخرجوا من الظلمة الشديدة إلى النور التام...
ومن الجهل إلى العلم...
ومن الحيرة والعمى إلى الهدي والبصائر، فعرفوا مقدار ما نالوه وظفروا به...
وكانوا أحب الناس في التوحيد والإيمان والإسلام، وأبغض الناس في ضده، عالمين بالسبيل على التفضيل.
أما من جاء بعد الصحابة فمنهم من نشأ في الإسلام، غير عالم تفضيل ضده، فالتبس عليه بعض تفاضيل سبيل المؤمنين بسبيل المجرمين، فإن اللبس إنما يقع إذا ضعف العلم بالسبيلين أو أحدهما، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنما تُنقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية)[7].
 
وهؤلاء الصحابة أفضل أمة محمد بعد نبيها صلى الله عليه وسلم، وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم التفاضل الحاصل بين المؤمنين، بنص القرآن الكريم، في قوله تعالى ﴿ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [الحديد: 10] [8]، (فكان من أسلم قبل الفتح وقاتل أعظم درجة وأجرا وثوابا ممن لم يسلم ويقاتل وينفق إلا بعد ذلك، كما هو مقتضى الحكمة)[9].
 
كما تضع هذه الآية الكريمة ميزان التفاضل بين الدعاة، حين تدل على أن (فضيلة العمل على قدر رجوع منفعته إلى الإسلام والمسلمين، أو لكثرة المحنة به لقلة المسلمين وكثرة الكفار، وهو مثل قوله تعالى: ﴿ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ﴾ [التوبة: 117] [10])[11].
 
فهذا دليل على التفاوت الموجود بين الدعاة إلى الله والمجاهدين في سبيله، في البذل والتضحية والاستعداد النفسي، وصفوة الصحابة وكبراؤهم كانوا من السابقين للإسلام، من المهاجرين والأنصار، وهم الذين قال صلى الله عليه وسلم معاتبا خالد بن الوليد رضي الله عنه، في دفاعه عنهم:(( لا تسبوا أحدا من أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه))[12]، فهذا كلام موجه إلى سيف الله المسلول، دفاعا عن أحد الثمانية الذين بادروا إلى الإسلام، وأحد البدريين، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وهو عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه[13] -،وذلك بعد أن كان بينهما شيء فسبه خالد رضي الله عنهما -، فكيف بمن جاء بعدهم ممن لم ينل شرف الصحبة والجهاد في سبيل الله.
 
قال القاضي عياض [14] رحمه الله:
(ومن أصحاب الحديث من يقول أن هذه الفضيلة مختصة بمن طالت صحبته، وقاتل وأنفق وهاجر ونصر، لا من رآه مرة كوفود الأعراب، أو صحبه أخيرا بعد الفتح وبعد إعزاز الدين، ممن لم يوجد له هجرة ولا أثر في الدين ومنفعة للمسلمين، والصحيح الأول)[15]، ويعني بالأول: أي تفضيل الجمهور للصحابة كلهم، على جميع من بعدهم، لنصرتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وطاعتهم له وجهادهم معه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
 
وجيش الفتح لم يكن جنوده على مستوى إيماني واحد، فقد اختلط فيه أعداد غفيرة من مسلمي القبائل المقيمة خارج المدينة، فكان منهم من لم يخالط الإيمان شغاف قلوبهم، ولم يتلق التربية والإعداد الكافيين، ليكون بمستوى من رافق الرسول صلى الله عليه وسلم مدة أطول وتلقى منه مباشرة، فحدثت بعض التجاوزات عند زحف الجيش نحو مكة، كما حدث مع أخت أبي بكر رضي الله عنه حين تلقاها رجل - وفي عنقها طوق من فضة - فقطعه وأخذه، وقام أبو بكر رضي الله عنه بعد استقرار الجيش، وقال: أنشد الله والإسلام، طوق أختي.
فلم يجبه أحد، فقال: أي أخية احتسبي طوقك، فوالله إن الأمانة في الناس اليوم لقليل[16].
 
ومما يدل على أن العاقبة الحميدة ليست بكثرة العدد، بل بقوة الإيمان وحسن الإعداد، قوله تعالى: ﴿ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا ﴾ [التوبة: 25][17]، حين أوقعت هذه الكثرة الجيش في الاغترار والإعجاب بالكثرة، فلم تغن عنه شيئا، فقال أحدهم: لن نغلب اليوم من قلة.
فهزم العسكر فتنة ومحنة، ثم استقر الأمر على النصر والظفر[18]، (وكذلك شأن الدعوات، لا يمكنها أن تعتمد على كثرة المصفقين لها، بل على عدد المؤمنين بها، والمضحين في سبيلها)[19].



[1] سورة البقرة جزء من آية 249.


[2] بتصرف، المتساقطون على طريق الدعوة ص 111.


[3] بتصرف، جذور الانحراف في الفكر الإسلامي الحديث: جمال سلطان ص 154، مركز الدراسات الإسلامية بريطانيا، ط:1، 1412ه 1991م.


[4] سورة فصلت آية 33.


[5] سورة الأنفال جزء من آية 72.


[6] بتصرف، دور المنهاج الرباني في الدعوة الإسلامية ص 181.


[7] باختصار، الفوائد ص 143.


[8] سورة الحديد جزء من آية 10.


[9] تيسير الكريم المنان في تفسير كلام الرحمن 7/288.


[10] سورة التوبة جزء من آية 117.


[11] أحكام القرآن: الكيا الهراس 4/447.


[12] صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة باب تحريم سب الصحابة رضي الله عنهم 4/1968 ح 2541.


[13] بتصرف، سير أعلام النبلاء 1/68.


[14] هو عياض بن موسى بن عياض بن عمرو الأندلسي ثم السبتي المالكي، الإمام العلامة الحافظ، ولد سنة 476هـ، تبحر في العلوم وولي القضاء وعمره 35 سنة، كان هينا من غير ضعف، صلبا في الحق، توفي سنة 504هـ بمراكش رحمه الله.
بتصرف، سير أعلام النبلاء 20/212.


[15]صحيح مسلم بشرح النووي 16/93.


[16] بتصرف، سيرة النبي صلى الله عليه وسلم: ابن هشام 4/25.
ودلائل النبوة 4/95، وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: (يعني به الصديق ذلك اليوم على التعيين، لأن الجيش فيه كثرة، ولا يكاد أحد يلوي على أحد، مع انتشار الناس، ولعل الذي أخذه تأول أنه من حربي) البداية والنهاية 4/294.


[17] سورة التوبة جزء من آية 25.


[18] بتصرف، زاد المعاد 3/111.
ونحو ذلك وقوع الفتنة والإعجاب بالكثرة الحديث الذي رواه حذيفة رضي الله عنه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اكتبوا لي من تلفظ بالإسلام من الناس))، فكتبنا له ألفا وخمسمائة رجل، فقلنا: نخاف ونحن ألف وخمسمائة؟، فلقد رأيتنا ابتلينا، حتى إن الرجل ليصلي وحده وهو خائف).
رواه البخاري في صحيحه كتاب الجهاد باب كتابة الإمام الناس 4/33.


[19] السيرة النبوية، دروس وعبر ص 127.
وقد قال ابن القيم رحمه الله:






هذا وإن قتال حزب الله بال
أعمال لا بكتائب الشجعانِ


والله ما فتحوا البلاد بكثرة
أنى وأعداهم بلا حسبان


وكذاك ما فتحوا القلوب بهذه
الآراء بل بالعلم والإيمان.







الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية المعروفة بالقصيدة النونية ص 20، إدارة ترجمان السنة باكستان، ط: بدون.

شارك المقال

ساهم - قرآن ٢