الاحتساب بالصمت
مدة
قراءة المادة :
11 دقائق
.
الاحتساب بالصمتالحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيعد الاحتساب من الأمور العظيمة التي يوفَّق لها العبد في حياته، سواء كان في الجانب التعبدي؛ في أمور العبادة لله تبارك وتعالى، أم في الجانب الشخصي، وذلك حين يحتسب ما يصيبه في حياته اليومية لله، ويحتسب على نفسه أن تقع في منكَر من جراء ذلك، فلا ينتصر لنفسه إن أوذي، ولا يرد الإساءة بالإساءة، وقد يفتح الله على العبد، فيوفقه للاحتساب في أمور أخرى قد تزلُّ فيها أقدام الكثيرين من الناس، إلا من رحم الله - عز وجل.
وتتحقق عبادة الاحتساب أكثر ما تتحقق في أيام الصيام؛ ولهذا فإن الصمت دواء نبوي أرشد ودلَّ عليه الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إذا أصبح أحدكم يومًا صائمًا فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤ شاتمه أو قاتله، فليقل: إني صائم، إني صائم))[1].
هكذا يبدو الحل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يسيرًا، لا يكلف العبد أي مشقة، فطوال الوقت تجده كابحًا لنزوات النفس في الانتقام، أو في الاسترسال في العدوان من الخصم.
هنا يقف العبد موقف المحتسب على نفسه، وفي الوقت ذاته على غيره، يحتسب ما أصابه من شتم ومنازعة لله - تبارك وتعالى - واستحضارًا لعبادة الصوم، كل هذا لله - عز وجل - وهو محتسب على نفسه، ينهاها بتذكره ذلك واستشعاره، وهنا مسألة جمعت بين ثلاث مسائل، هي:
هل يقول وينطق بلسانه: إني صائم، باللسان ليسمع الخصم؛ لينكفَّ عنه خصمه، أم بالجَنان لتنزجر النفس، وتهدأ عن الانتقام ورد الإساءة بمثلها، ويذكِّر نفسه باستحضاره صيامه بقلبه ليكف نفسه، أم أنه يجمع بين اللسان والجنان؟ وأي هذه الأمور أولى؟
"اختلفوا في معناه؛ فقيل: يقوله بلسانه جهرًا يسمعه الشاتم والمقاتل، فينزجر غالبًا، وقيل: لا يقوله بلسانه، بل يحدث به نفسه؛ ليمنعها من مشاتمته ومقاتلته ومقابلته، ويحرص صومه عن المكدرات، ولو جمع بين الأمرين كان حسنًا، واعلم أن نهي الصائم عن الرفث والجهل والمخاصمة والمشاتمة ليس مختصًّا به، بل كل أحد مثله في أصل النهي عن ذلك، لكن الصائم آكد، والله أعلم"[2].
"قيل: يقولها جهرًا في الفرض والنفل، وهذا الراجح، ورجحه ابن القيم، وفي ذلك فائدتان:
الأولى: بيان أن المشتوم لم يترك مقابلة الشاتم إلا لكونه صائمًا لا لعجزه.
الثانية: تذكير هذا الرجل بأن الصائم لا يشاتم أحدًا"[3].
إن كبح جماح النفس وكَتْم الغيظ في الصيام أمر لا يستطيعه إلا الأقوياءُ في الإيمان بالله - تبارك وتعالى - أما غيرهم فلا؛ ولهذا نجد أن كثيرًا من مشاكل الأسرة والمجتمع تكثُر في رمضان.
إن العبد المؤمن حين يستشعر أن شهر الصوم هو شهرُ الصبر والمصابرة، فيكون ممتثلاً لذلك في أخلاقه، وتعاملاته، وجميع جوانب حياته، حتى في وقت الاعتداء عليه، لكن تظل هذه العبادة نُصب عينيه، فيمتنع عن أن يخرج عن آدابها.
وما أجمل أن يهذب العبد خُلقه لله، أو أن يمنع نفسه من أن يماري الجهال بفعالهم لله - عز وجل - ولهذا تطالعنا كتب الحديث والسير عن أفضل الخَلق صلى الله عليه وسلم؛ فقد ضرب أروع الأمثلة، وأفضل القدوات لكل مسلم في هذا المجال، فحين لقي من أهل الطائف ما لقي قال: ((فانطلقتُ وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقَرْن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني، فقال: إن الله قد سمع قولَ قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملَك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملَك الجبال، فسلَّم عليَّ، ثم قال: يا محمد، فقال: ذلك فيما شئت إن شئت أن أُطبِق عليهم الأخشبين؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا))[4].
وحين دخل صلى الله عليه وسلم مكة منتصرًا يوم الفتح بعد أن آذاه قومه، وكادوا يقتلونه، وطردوه من أرضه، وشردوه من وطنه، فلما أمكنه الله - تبارك وتعالى - منهم قال لهم: ((يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟)) قالوا: خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم، قال: ((فإني أقول لكم ما قال يوسف لإخوته: لا تثريبَ عليكم اليوم، اذهبوا فأنتم الطلقاء))[5].
وهذا رجل من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم امتثل هذا الخُلق أشد الامتثال؛ فعن علية بن زيد، أخبرني حارثة، رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال: اللهم إني تصدقت بعِرضي على مَن نالني من خلقك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أين المتصدق بعِرضه البارحة؟))، قال: أنا يا رسول الله، قال: ((إن الله تعالى قد قبِل صدقتك))[6].
ما أجمل أن يمتثل العبد المؤمن اليوم في صيامه هذا العلاج النبوي: (إني صائم، إني صائم)، الذي يحفظ للعبد صيامه، ويُغلق عليه باب شر لو فُتح قد لا تُحمد عقباه، وفي الوقت ذاته يحفظ للمجتمع المسلم مودته، والأخوة التي بينهم، ويغلق باب فتنة تشق صفهم، كلمةٌ واحدة حفظ العبد بها صومه، وأبقى على طاعته لربه، وقطع بها سبل الشيطان.
وأيضًا من خلال هذه الكلمة نستطيع القول: إن في هذا تربية حقيقية للعبد على أعلى فضائل الأخلاق، ويتبين في الواقع حقيقة الصائم، بمعنى لا يكون العبد في صومه وفطره سواء، فيحفظ لسانه، وينزهه عن كل ما قد يفسد صومه؛ قال الإمام أحمد رحمه الله: "ينبغي للصائم أن يتعاهد صومه من لسانه، ولا يماري، ويصون صومه، كانوا إذا صاموا قعدوا في المساجد وقالوا: نحفظ صومنا، ولا يغتاب أحدًا، ولا يعمل عملًا يجرح به صومه"[7].
إن الصوم في حقيقته وقاية للعبد، وعلاج ناجح له في كسر الشهوات، ونجد أن الشارع الحكيم ندب إليه في أكثر من موضع، ولعلاج أكثر من داء قد يصيب العبد، ولكن الناظر إلى حال أمتنا اليوم يجد أن الأمور انقلبت، نجد اليوم أن أغلب مشاكل المجتمع تقع في رمضان، وأن كثيرًا من قضايا الطلاق لا تقع إلا في رمضان، وأن أكثر العداوات تنشأ في رمضان، فهل رمضان تغير أم أن نفوسنا التي تغيرت، وتمسُّكنا بآداب عباداتنا هو الذي اندثر؟!
إن كثيرًا من الناس - إلا من رحم الله - غاب عن عقولهم وتفكيرهم قول المولى تبارك وتعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183]، نعم ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ هذه غاية الصوم، والهدف المراد تحقيقه، وهذه هي الحكمة الشرعية التعبدية للصوم؛ فالصيام وسيلة لأن يزداد العبد الصائم من تقواه لله - عز وجل - وأن يبتعد عن شهوات ونزوات النفس، وأن يزداد أيضًا تقربًا إليه، فإذا ما صام ولم يتغير حاله عما كان عليه من قبل رمضان، فإن هذا لم يحقق الغاية المنشودة من الصيام؛ لأن التقوى تبدأ بالإيمان والإسلام.
إن المتأمل في فريضة الصيام والناظر إليها ليجد أن الشارع الحكيم لم يشرَعْ لنا هذه الفريضة من أجْل الصيام والقيام والصدقة والدعاء فقط، وإنَّما شرعه لحِكَمٍ كثيرة، ومنافع جسيمة؛ ليرتقي العبد المؤمن في منازل التقوى، التي تدخل فيها أمورُ العقائد والعبادات، والمعاملات والأخلاق؛ ليزكي العبد نفسه، وخُلقه، وعبادته، فإذا عُلِمَ هذا تجد الإنسان يحرص أشد الحرص على أن ينقضي يومه من الصيام دون أن يخالطه شائبة من رفث أو صخب، وتجده يحتسب مَن سبَّه أو شتمه، يحتسب على نفسه الصبر على الأذى، ويحتسب على غيره أن يرد القبيح بالقبيح، أو أن يؤذي الناس، فيحتمل هذا الأذى؛ امتثالًا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك واضحُ المعنى والدَّلالة.
فهنا تحصل المجاهدة والمصابرة للنفس، ليكون الصوم صحيحًا، وهكذا يأتي الصمت في الصيام علاجًا ناجحًا وفعالًا، فيكون معدلًا لسلوك العبد الصائم، وبهذا تصلح النفوس، وتزكو الأخلاق وترقى؛ لتنال ما عند الله عز وجل من الأجر العظيم، والثواب الجزيل.
إن الإنسان إذا حافَظ على صومه من الوقوع فيما يكدره، وقدم الصمت، وكبح جماح النفس عن الرد على الأذى، وأخلص كل هذا لله تبارك وتعالى - فقد عمِل بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال الله: كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جُنة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابَّه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم، والذي نفس محمد بيده، لَخُلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما، إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح بصومه))[8].
نسأل الله أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، وأن يوفِّقنا إلى صيام هذا الشهر وقيامه، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
[1] البخاري 1795، ومسلم 1151، واللفظ لمسلم.
[2] شرح النووي على مسلم (4/151).
[3] إعانة المسلم في شرح صحيح مسلم (ص: 51).
[4] البخاري (3059)، ومسلم (1795).
[5] فقه السيرة (ص: 332).
[6] شعب الإيمان (7729).
[7] الفروع (3/ 48).
[8] البخاري: (1805)، ومسلم: (1151).