أرشيف المقالات

الفن بخير

مدة قراءة المادة : 24 دقائق .
للأستاذ محمود تيمور المسرح يقاسي اليوم محنة عسراء، محنة يدرك وطأت أهل الفن، ويخشون منها أسوأ العقبى.
ولست أعني مسرحنا المصري وحده، فالمحنة عامة يصلي نارها المسرح كله في العالم المتحضر أجمع. لا يغرنك ما عسى أن تراه من إقبال الناس على دور التمثيل، وما تشهد من شغفهم بها في مختلف الأمم.
فإن الحقيقة الواقعة التي يعرفها الواقفون على بواطن الأمور أن المسرح لا يستطيع الثبات في الميدان الفني، معولاً على نفسه، مكتفياً بقوته؛ فهو في غالب شأنه ينشد العون، ويلتمس من العوامل المصنوعة ما يكفل له البقاء والاستمرار. لقد أتى على المسرح حين من الدهر لم يكن فيه مفتقراً إلى مؤازرة وناصر، وإنما كان في ازدهاره وتألقه موفور القوة، شديد الأسر، مشاراً إليه بالبنان.
فأما اليوم فإنه يفقد ما سلف له من تألق وازدهار، بل إنه ليبلغ منه الاضمحلال كل مبلغ، حتى أن بعض النقاد ليبادرون إلى نعيه، والترحم عليه، وما زال فيه رمق، وما برحت تتردد فيه أنفاس! ولو صدق هذا التطير بمستقبل المسرح، لكان ذلك رزءاً يثير الأسى ويستتبع الحسرة، فللمسرح من العشاق والمشايعين خلق كثير، وإنهم ليعدون رحيله عن عالم الفن زوالاً لمظهر أنيس جذاب، صحب الإنسانية ردحاً من الدهر وكان له أطيب الأثر في صقل الأذهان وتبصيرها، وفي رياضة النفوس والترفيه عنها. فماذا دهى المسرح حتى تفشاه هذا الاضمحلال؟ وما تلك الأسباب التي تسوغ التشاؤم بمستقبله، وتوقع القضاء عليه؟ ربما تباينت الأسباب واختلفت، بيد أنها تتجمع كلها في كلمة واحدة، هي: (السينما). حقاً لقد استطاعت (السينما) خلال ثلث قرن أن تزعزع قواعد المسرح، وأن تنال من سلطانه.

وهي التي تديل دولته إن كان مقدراً عليه أن يصير إلى زوال. نشأت هذه (السينما) تعمل في ميدان المسرح نفسه منتهجة أغراضه متخذة أدواته، ولم تكن نشأتها ضرباً من العبث، أو لوناً من التطفل، وإنما كانت وليدة عوامل طبيعية قضى بها حكم الحياة ونظام العمران. لقد أخذ العالم منذ القرن الماضي يصطنع الآلة في شتى أسباب العيش، فكانت (السينما) نتيجة من نتائج هذا التطور الآلي، وكانت لوناً من ألوان التطبيق العملي له، فهي إذن مظهر طبيعي يلائم العصر، ويساير التجدد. من سرف القول أن تعد (السينما) خصماً للمسرح فالفن السينمائي في جوهره هو ابن المسرح وربيبه، تخلق من لحمه ودمه، وأغتذى بلبانه، فهما معاً يتقاسمان عناصر الفن من رواية ومنظر وممثلين. فإذا أردت الدقة والتعمق تجلت لك (السينما) على أنها امتداد للمسرح، أو تطور له، وفقاً لحقيقة التجديد وطوعاً لروح العصر، فهي مسرح آلي مستحدث، يستكمل ما عجز عنه المسرح القديم، ويخلفه في أداء رسالة الفن للجيل الجديد. لا غلو في القول بأن (السينما) قد حلت محل المسرح وقد تناولت منه المشعل، لتمضي به أسطع توهجاً، وأبعد مدى، بيد أن هذا لا يمنع أن يبقى للمسرح نوع من الحياة في إطار ضيق، وإن فقد ما كان له من سيادة وقيادة. لكأن المسرح قصر عظيم على الطراز القديم، تكاملت له الفخامة والأبهة.
ولكنه لم يعد يواتي العصر الحاضر بحاجاته ومطالبه. أو لكأنه (جنتلمان) هرم يتباهى بمجده، ويعتز بأرستقراطيته، ولكنه قاعد متخلف يدب فيه البلى، ينافسه ما للشباب من فورة ووثبة ونشاط. أو لكأنه مؤسسة نبيلة الغرض، رفيعة الهدف، ولكنها لا تملك أن تعيش بما لها من جهد، فهي أحوج ما تكون إلى ضروب الصدقات وألوان المعونات، لكي تؤتي ثمارها طيبات. أو لكأن هذا المسرح إمبراطورية عظيمة، فقدت عناصر المرونة للتطور الحديث، فلم تعد موائمة لروح الشعوب التي تحكمها، فليس لها إلا أن تغدو دويلة صغيرة تساير ركب الدول، متنحية عن مكان الزعامة الذي كانت تملأه فيما حلا من العهود! وفي معتقدي أن المحاولات التي يبذلها للمسرح أنصاره ومحبوه، جديرة أن تشد من عضده، ولكن هذه المحاولات - مهما تبلغ من قوتها - لا تحتفظ للمسرح بما كان له من مركز الزعامة، ولا تستطيع أن تزحزح (السينما) عن مكانها الذي سمت إليه، لتؤدي فيه رسالة الفن على أوسع نطاق. ليس من الخير أن ننظر إلى المسرح و (السينما) باعتبارهما عدوين، فلنجعلهما يمضيان معاً جنباً إلى جنب، يبذل المسرح (للسينما) ما يبذل الأب لابنه من عطف وحدب، وتعرف (السينما) للمسرح حق الأبوة من بر وولاء. لقد تكاثر حديث النقاد في شأن المسرح و (السينما) على تباين واختلاف.

فهذه يقيم من حديثه حفلاً تكريمياً (للسينما) يؤيد به ما أوتيت من زهو، وما بلغت من فوز.
وذلك يجعل حديثه مناحة للمسرح، يسح فيها الدمع الهتون على الفن الشهيد! ولسنا في هذا المقام نريد تكريماً (للسينما) أو تأبيناً للمسرح، وإنما نبغي أستكناه ذلك التطور الفني الذي مهد (للسينما) أن تتسنم تلك المكانة، فساق المسرح إلى ذلك المصير. في الغرب والشرق جميعاً جمهرة من المفكرين ينعون على (السينما) أنها ليست من الفن في شيء، بل إنها تقضي على الروح الفنية التي أذكاها المسرح وبثها في جوانب المجتمع البشري، ولهذه الجمهرة من المفكرين معارضون كثيرون ينتقصون من قدر المسرح، وينادون بأنه ليس إلا طوراً من أطوار الفن عتيقاً، لم يعد للتقدم العصري كفئاً، فعلينا أن نقوم على تكفينه، وأن نشيعه إلى مقره الأخير، نهيل عليه تراب النسيان! وأولئك الذين يضيقون (السينما) يأخذون عليها أنها (آلية) فهي تعتمد على الآلة كل الاعتماد.
وليس ضيقهم (بالسينما) إلا نوعاً من ضيقهم (بالآلية) في كل مظهر من مظاهرها في العصر الحديث، إذ يحسبون أن هذه الآلة لا تمتد إلى لون من ألوان الفنون إلا أفقدته عنصره الأصيل، وجوهره الرفيع! فهل صدق الساخطون على الآلة في حسبانهم أنها تقضي على الفن، أو على الأقل تمسخه وتشوه جماله؟ وهل الآلة كما يقولون رمز تدمير للحضارة، وانهيار للعالم على وجه عام؟ شد ما يغلون في هذا الحكم! وشد ما يستسلمون لأوهام الفروض والتخمينات حين يستشعرون الذعر من الآلة، ويقدرون لها أوخم الآثار! لنكن متفائلين بالعصر الآلي وما ينجم عنه، وليكن هذا التفاؤل على أساس أن العالم متجهاً أبداً وجهة الخير، لأن القوة التي إليها مرد الأمر كله في هذا الكون قوة خيرة في صميمها، وبذرة الخير الكامنة في الطينة البشرية هي التي تدفع به دائماً إلى التجدد والتطور، فهذا العالم ماض إلى الخير قدماً، وإن تعثرت خطاه بأشواك الشر حيناً بعد حين. وبرهان هذا ساطع كل السطوع في تاريخ البشرية والحضارة منذ الأحقاب الخالية، منذ كان الكون سديماً إلى أن انبسط أديم الأرض، ودب على ظهرها الإنسان، وقامت هذه المدنيات العظيمة على أنقاض الكهوف والغابات. وما برح التطور موصول الخطأ، نحس به فيما ندرك من نواميس الطبيعة، وقوانين الحياة، وفيما نتخذ من وسائل الحضارة وأنظمة الاجتماع. وهذا التطور ينتقل به المجتمع البشري من حسن إلى أحسن، إلا أنه يقتضي مزاولة التجربة بعد التجربة.
وهيهات أن يستقر للحياة طور من أطوارها إلا بعد أن يثبت كفايته في ذلك الميزان العظيم: ميزان بقاء الأصلح.

فالأحياء لا يبقى منها إلا ما يصلح أن يكون عوناً على تطور الإنسانية والمضي بها إلى الأمام.
والأنظمة على اختلاف أهدافها ومناحيها لا يستقر منها إلا ما هو كفء لتوفير الحياة المثلى. وما أقسى هذه التجارب التي يزاولها الإنسان! وما أكثر ما يكون فيها من تعسف وعنت! ولكن ذلك كله لا مفر منه لكي تظفر البشرية بالانتقال من طور إلى طور يمضي بها خطوة في سبيل الخير العام. والآلة ليست إلا وليدة ضرورة طبيعية أحس بها الإنسان.
وهي نتيجة حتمية للتطور البشري الذي لم يكن منه بد.
وإننا لنجد الآلة وقد أتت بالمعجزات في مجال التحضر، وبها تأثرت مذاهب الاقتصاد ونظم الاجتماع حتى أصبحت هناك قيم للحياة جديدة، تلائم ذلك التطور الذي أدت إليه الآلة في عصرها الجديد. وفي مقدورك أن توازن بين الإنسان القديم، إذ كانت الآلة لم تخترع، أو على الأصح حين كانت الآلة في مظهرها العاجز المحدود، وبين الإنسان الحديث، إذ بلغت الآلة هذا المبلغ العظيم من القوة والجبروت، فإنك إذا أجريت هذه الموازنة نحلى لك البون شاسعاً بين الماضي والحاضر في مجال الرقي الثقافي والاجتماعي، المادي والمعنوي.
وإذن يستعين لك فصل الآلة فيما شمل الإنسانية من رخاء وانتعاش، وفيما فاض عليها من بركة وخير. وهذه الآلة من صنع الإنسان، توصل بها إلى أن يختصر المسافات، وأن يختزل الأزمنة، وأن يسخر بها ما في الأرض والسماء من قوى وعناصر.
وهي في يده، يحركها إرادته، ويسيطر عليها بحكمته.
فإن وقف منها موقف الحزم والتبصر استطاع أن يفيد منها ما شاء.
فأما إن أساء استعمالها، وأفلت منه زمامها، فإنها تدمر مدنياته وتدمره معها.
ولكن الأمل وثيق ألا يفقد الإنسان رشده، وأن يظل ضابطاً للآلة في يده، حتى تكون طوع خيره.

بها يتم نفع العالم، وعليها تقوم عمارة الكون. وإن صحبة الإنسان للآلة فيما يمارس من أسباب عيشه ومرافق حياته، ستخلق منه إنساناً جديداً يتخذ له في نظامه الاجتماعي طرازاً جديداً، فإذا هو يتطور في نزعاته النفسية، وفي مطالبه العقلية، وفي ذوقه الفني، وفق التطور الحديث الذي تسبغه الآلة على المجتمع البشري. ما من شيء كانت تصنعه الأيدي إلا وقد امتدت إليه الآلة تصنعه؛ والناس إزاء هذا يتغافلون أن (شغل اليد) هو العمل الفني، وأما صنع الآلة فهو عمل غير فني.
وحجتهم في ذلك أن اليد تعمل بوحي الإنسان، وتستمد حركتها من رأسه وعاطفته، فالإنسان ينفض نفسه في كل وحدة من وحدات عمله الفني، وأما الآلة فتستمد قوتها من محركات صماء. وللناس في تعزيز هذا الرأي ضروب من التمثيل.
فهم يضربون المثل بالحلة المفصلة على قد إنسان بعينه، فيرونها ألق بصاحبها، وأدق صنعاً وأوفر فنية، من الحلل المجهزة على أقيسه عامة.

وكذلك الصورة الزيتية، يرونها أروع من الصورة (الفوتوغرافية) أو الصورة المطبعية الملونة، فهذه آلية وتلك يدوية.

وكذلك الصوت لا يسحر السامع إذا سمعه من الحاكي أو المذياع، قدر ما يسحره إذا سمعه من فم المغني نفسه. وأنت قد تجد في زخرف هذه الحجة التي يسوقها الناس مظهر الحق، ولكنك إذا أنفذت بصرك إلى الأعماق تكشفت لك حقائق لا تبغي عنها حولاً.
فإن هذه الآلة التي نزري بها وجدت منذ وجد الإنسان، منذ خرج من إطار الحيوانية الغافلة إلى مستوى البشرية المفكرة.
وقليل من التدبر يقنعنا بأن الآلة هي العنصر الأساسي في بناء المدنيات منذ فجرها الأول.

ولعل ما نسميه (شغل اليد) لا وجود له بالمعنى الحقيقي في تاريخ الإنسان.
فالمغزل والمنسج والإبرة في أطوارها الأولى ليست إلا آلات بدائية.
والمرقم للرسام والأزميل للمثال كلاهما آلة، ولماذا تذهب بعيداً واليد نفسها ليست إلا آلة توسل بها الإنسان للقيام بعمل فني؟ فهذه الوسائل والوسائط، أو بتعبير آخر: هذه الآلات البدائية، ظلت تقوم بالأعمال الفنية، يسيطر عليها الرأس، وتوحي إليها العاطفة.

ثم تطورت مع الإنسان آلاته، تساير حاجاته، وتواتيه بمطالبه، حتى انتهى بها الأمر إلى هذا المظهر الآلي العجيب المعقد الذي بدأنا نخشاه.

أرأيت إذن أن تلك الآلة الحديثة ليست إلا امتداداً وتطوراً للآلة القديمة التي عاصرت الإنسان منذ درج الإنسان؟ دونك (الكتاب) مثلاً.

ذلك الذي نحوطه بالتقديس، ونعده ذخراً وموئلاً للعلوم والفنون والآداب، ونرى فيه مرآة العقل الإنساني، والفكر البشري، ومن ثم نخشى عليه أن تنال منه (الآلية) الحديثة التي تكمن في (الراديو) و (السينما) وما إليهما، ونطلق صرخة الرعب والفزع، طالبين حماية الكتاب من هذه الويلات.

بل إن فينا من يقول بأن ثقافة المستقبل سيتطرق إليها الوهن إذا ضعف شأن (الكتاب) وأنتسخ ظله، وأنه ليس من شيء يقوم مقامه ويعوضنا عنه، وينهض بالعبء الذي نهض به. والحق في ذلك أن (الكتاب) ما هو إلا سجل يضم نتاج القرائح، ويحوي عصارات الأذهان، وما هو إلا مظهر للتعبير عن الاحساسات والمشاعر.

وقد كان هذا (الكتاب) يوم كان لوحاً محفوظاً في الذاكرة يتلقاه الأحلاف من الأسلاف، وكان كذلك أحجاراً وجلوداً ولحاء شجر، ثم كان بعد ذلك مخطوطاً على الأوراق لا تزيد نسخه على العشرات.
فلما جاء عصر الطباعة اتخذ (الكتاب) هذا الشكل الحديث، وأتيح له ذلك التعميم، فهو مدين للآلة بما بلغ من جاه عريض، وصيت بعيد. وما دام (الكتاب) في حقيقة أمره وسيلة تعبير، فلا ضير على المدنية الحديثة إذا اصطنعت لها وسيلة أكثر ملاءمة للتطور، وأبعد مدى في تحقيق الغرض.
ولن تكون الوسيلة المستحدثة إلا امتداداً (للكتاب) في مظهر آخر هو أقرب إلى روح العصر، وأدعى إلى نشر الثقافة بين الناس، وإذن فالآلة تخدم غرض (الكتاب)، وإن كانت في الظاهر تخمل (الكتاب).
فهدف الآلة دائماً هو التيسير، هو أن تتيح للجمهور الأكبر ما هو متاح للخواص من استمتاع وانتفاع، وكذلك تعمل الآلة على أن توفر من الجهد، وتقتصد في الوقت، ليستفاد بذلك في ميدان الابتكار والتجديد والتجويد. وإليك الغناء مثلاً آخر، فالمغني لا يملك إلا أن يسمع طائفة من الناس في زمن مخصوص، وبذلك يقتصر الاستمتاع به على القليل، ولكن الآلة تنهض بدورها في إشاعة هذا الصوت المحبب، وفي تقريب مناله من الأسماع في كل زمان وفي كل مكان. وكذلك الشأن في التمثيل، فالرواية التي تشهدها جمهرة لا تتجاوز بضع مئات، بأجور مرتفعة لا تتيسر للكثير، تستطيع (السينما) أن تبذلها للألوف بثمن بخس، في قدرة على التنقل، وفي حرية من الوقت، وتمكن من التكرار، وأمان من وطأة التكاليف. على أن الذين يسلمون بأن (السينما) تيسير للفن، وتعميم له، يتساءلون: أليس التيسير يسيء إلى الفن؟ أو ليس تعميمه يدعو إلى تبسيطه، والنزول به عن مستواه الرفيع؟ والجواب عن هذا التساؤل يصدق على (السينما) كما يصدق على المذياع والكتاب.
ولقد كان الكتاب وما يزال درجات، فيه الرفيع الخاص، وفيه المنخفض العام.

وما شأن (السينما) والإذاعة إلا كذلك، يجب أن يكون فيهما لكل طالب حاجته، ولكل مستوى ما يناسبه. والواقع أن تيسير الفن لا يحط من الفن، بل أن هذا التيسير سبيل إلى أن يتذوق الشعب ما يقدم له من الأعمال الفنية، فتتأثر بها نفسه، ويرتفع مستواه، ويصبح للفن عوناً على النهوض والازدهار.
والذين يأخذون على (السينما) أنها آلية، ويؤثرون عليها المسرح لأنه غير آلي، ينسون أن المسرح نفسه يتخذ من الآلات ما يعينه على بلوغ أغراضه.

فأنت إذا دخلت مسرحاً من المسارح الراقية ألفيت نفسك في مصنع كبير تحتشد فيه عدد وآلات، يستكمل بها المسرح عناصر التمثيل، ويتلافى ما فيه من نقص وعجز، ويساير بها ما بلغ الفن من تقدم وتطور، وقد يبعثك هذا الذي تراه على القول بأن هذه (السينما) لم تكن إلا عوناً من الآلة على تحقيق أحلام فنية لم يستطع المسرح تحقيقها في نطاقه الضيق، ووسائله المحدودة. ولتجدن كثيراً من المتعصبين للمسرح يقولون: حسبك من ميزة له على (السينما) أن عماده وجوهره هو الممثل الحي، هو ذلك الذي تراه بشراً سوياً حياً لك، تملأ منه عينيك، وترعيه سمعك، فأما (السينما) فما هي إلا أخيلة وأطياف، والفرق واضح بين حقيقة ماثلة، وخيال موهوم! والهاتفون (بالسينما) لا يعدمون رداً على المتعصبين للمسرح بهذه الحجة، فهم يقولون بأن فنية التمثيل لا تزيد فيها واقعية المسرح، ولا تنقص منها خيالية (السينما).
.
إذ المعول كله على الإجادة والإتقان، حتى يتيسر بذلك اندماج المتفرج في العمل الفني المعروض، فإذا هو يستجيب لما يسمعه وما يراه. واعتبر ذلك بالغناء، فإن الأغنية الرائعة هي التي لا تكاد تهز أوتار سمعك حتى تهتز أوتار قلبك، فإذا أنت تفنى فيها، وتحلق معها، وذلك هو جوهر الإمتاع بالسماع، فأما الأغنية التافهة فهي التي لا تتجاوز الآذان هي التي تضل الطريق إلى مشاعرك، فلا استجابة بينك وبينها ولا اندماج. وكذلك الشأن في التمثيل، فهو يقوم في جودته وإتقانه على أن ينسلخ المتفرج مما حوله، ويمضي في مساق القصة المعروضة، يعايش أجواءها، ويعاشر أشخاصها، ويشاركهم ما يزاولون من تجربة إنسانية صادقة غير مكذوب بها على الحياة. وربما تلقف أنصار (السينما) هذا القول بالتعويل على فنية التمثيل، فاتخذوا منه حجة للفن السينمائي.
قائلين: إن المسرح فن ناقص، إذ يشعرك في كثير من ظواهره بأنك أمام أخشاب ملونة، وأوراق مقواة، ومناظر ملفقة سرعان ما تصدمك، فتعيد إليك وعيك، وتحول بينك وبين الاندماج فيما تحاول تمثيله من واقع الحياة.
وأن مناظر البحار والأنهار، وتمثيل الغرق والحريق، وتصوير البواخر والقطارات والطائرات، لتخفق الإخفاق كله على منصة المسرح، بل أنها لتبعث على الهزؤ والسخرية.

ومن ثم لجأ المسرح الحديث إلى الرمز يستعين به على التأثير ويعالج به أن يوحي إلى الأذهان بالجو المنشود في القصة المبسوطة.
ولكن (السينما) بمنجاة من ذلك النقص، فالوسائل فيها أقوى على تصوير الواقع، وتمثيل الحقيقة، إذ أنها تنقل المشاهد والواقف، بحيث لا يشك ناظر إليها في أنها قطعة من الحياة لا زيف فيها ولا نشوز ولا استكراه، وبذلك يبلغ الفن السينمائي ذروته في ضمان التأثير، وفي تنويم الوعي، وفي تيسير الاندماج بين النظارة والتمثيل. ومما يثيره أنصار المسرح في مجال الموازنة بينه وبين (السينما) أن الممثل المسرحي يشعر بشخصيته كاملة يعبر عنها يوماً بعد يوم في طلاقة وتجدد.
فإنه في الرواية الواحدة يستطيع أن يتشكل ويتطور في أدائه لدوره، كلما مضى في تمثيله مرة بعد مرة.
وفي هذا التشكل والتطور تتوهج شخصية الفنان وتتألق. على إن أنصار (السينما) يرون ذلك حجة على المسرح لا حجة له، إذ أن العبرة في أداء العمل الفني بإجادته وبلوغ أعلى درجاته.
والممثل الذي لا يتقيد في أداء دوره كلما أعاد تمثيله هو الممثل الذي يعلو مرة ويهبط أخرى، والمتفرجون في هذا هم المظلومون، إذ تتفاوت حظوظهم في مشاهدة الرواية الواحدة للمثل الواحد.
فمنهم من يرى الممثل في الذروة، ومنهم من يراه في الحضيض.
فأما في (السينما) فالمتفرجون جميعاً يرون الممثل دائماً في درجة إتقانه القصوى، تلك الدرجة التي سجلتها له (الكاميرا) وهو في أحسن حالاته.
ومثل هذا يقال في الغناء، فإن المغني يظل يمارس تجاربه حتى يستوفي، ثم يسجل صوته وهو في أوج اكتماله وازدهاره. وفي مناسبة هذا الحديث عن الغناء يقول المعترضون على (السينما) إنها لا تنقل إليك صوت المغني على طبيعته وإنما تنقل إليك صوتاً آخر يقرب أو يبعد عن ذلك الصوت الطبيعي، فإذا سمعت المغني عينه، وسمعت صوته مسجلاً من بعد، أدركت الفرق واضحاً كل الوضوح، وربما كان ذلك الصوت المسجل خيراً من الصوت على طبيعته، ولكنه على أية حال تزييف وتبديل. والذين ينتصرون (للسينما) يجيبون عن هذا بأن الأمر لا يعدو إحدى اثنتين، فإما أن يكون العيب عيب الآلات التي لم تبلغ حد الكمال حتى اليوم في نقل الأصوات ولا ريب أنها بالغته بفضل ما يجري فيها من تحسين وإتقان حتى تؤدي كل صوت على حقيقته.
وإما أن هذا التغيير الذي نلحظه في نقل الأصوات تغيير مقصود، يراد به معالجة ما عسى أن يكون في صوت المغني من قصور.
فالآلة السينمائية تهدف إلى أن تقدم الأصوات قوية صافية مصقولة، فهي تحتفظ بجوهر الصوت، ولكنها تعالج ضعفه، حتى تصل به إلى الغاية الفنية الموجودة. وإذا كان الفن الرفيع هو الفن الصادق في نقل الحياة فلا ينال من رفعة الفن أن يعمل على تجميل ما ينقله من ظواهر الحياة، ووفقاً لهذا نبتت فكرة المناظر السينمائية الملونة، فذلك تجميل للمناظر الطبيعية يكفل الخلابة وحسن التأثير. ومما يعاب على (السينما) ما يسمى (الفوتوجنيك) أي القابلية للتصوير السينمائي، فلقد يظفر وجه بإعجاب (الكاميرا) فتسجله رائعاً يسحر الأعين.

ولقد تغضب (الكاميرا) على وجه، فلا تبدو فيه وسامة ولا فتون.
ومن أعجب العجب أن تسيطر على هذا هذا المنح والحرمان آلة صماء! والعيب في ذلك أنه يحد من المواهب الفنية التي تتوافر لوجوه لا توهب منحة (الفوتوجنيك) وإن كانت هذه الوجوه في حقيقتها وافية الملاحة والجمال؛ موفورة الحظ من حسن التقويم. والرد على هذا عند من ينتصر (للسينما) أن العصر الحاضر يركن إلى المخترعات الدقيقة الحساسة يستجلى بها الدقائق.

وفي مجالات العلوم والفنون والآداب تتخذ آلات خاصة للكشف عن الحقائق المستورة التي لا تنالها الأعين ولا تدركها الإفهام.
وقد بات واضحاً أن هذه الحواس الخمس المعرفة لم تعد كافية في استجلاءه الأشياء، والحكم على جوهرها الأصيل، وما الجمال إلا حقيقة من حقائق الحياة الكبرى، فلا ضير علينا إن استعنا بالآلات البصيرة الكاشفة لاكتناه أسرار الجمال.
ولعل هذه (الكاميرا) أنفذ بصراً بما يكمن من المفاتن، وما يدق من القسمات، فهي تكشف لنا عنها، وتقرب منالها من العيون. ومهما يكن من قول يساق لنصرة (السينما) أو للدفاع عن المسرح، فلا أثر لذلك كله في حكم الزمن وطابع العصر.
فما أشبه أحكام الأزمنة وطوابع العصور بأقدار تجرى، لا يملك ردها أحد! ومما لا مرية فيه أن (السينما) ماضية في طريقها، تحمل راية عصر الآلة الذي نعيش فيه، ولا منجاة لنا منه بشقشقة الألسن ومنطق العقول. فإذا شاء عشاق المسرح، الأوفياء لعهده، أن يخدموه وأن يطيلوا من عمره، وأن يفسحوا له الميدان الفني يؤدى فيه رسالته، فلا سبيل لهم إلا أن ينأوا بالمسرح قدر ما يستطيعون عن المجال الحيوي (للسينما)، حتى لا ينافسها في نطاق عملها الذي تؤديه في قوة وجبروت.
وكلما عملنا على أن نجعل لكل فن مجالاً خاصاً به، وأمضينا كل فن في طريقه؛ كان لنا أن نأمن مغبة التنازع والاضطراب. وقد نشأت (السينما) في عهدها الأول صامتة، فتركت للمسرح روعة الحوار، وأنس الحديث، واختصت بسرعة الحركة والإشارة، والوفاء بالمشاهد وبالمناظر، فكان (للسينما) فن خاص بها، وللمسرح فن خاص به.

فأما الآن وقد نطقت (السينما) وغلبت المسرح على أمره فيما كان من خاصة شأنه فقد وجب أن ننحو بالمسرح نحواً جديداً يجنبه عنف ذلك الفن الآلي القادر فنخص المسرح بموضوعات تخلو من عناصر الموضوعات السينمائية التي تعتمد على سرعة الحركة، وكثرة الأشخاص، ووفرة المواقف والمناظر، وفخامة الملابس والأشياء المعروضة.

ولتكن مناظر المسرح ومواقفه وملابسه أقرب شيء إلى الرمز حتى لا ينافس (السينما) في مجال هي صاحبة الغلبة فيه على أية حال. وعلينا أخيراً أن نؤمن بأن المسرح ليس إلا مظهراً للفن، وأن الفن جوهر يتطور مظهره ويتغير؛ فهو بالأمس مسرح، وهو اليوم (سينما) وقد يكون في الغد القريب أو البعيد شيئاً غير (السينما) وغير المسرح جميعاً.

فلنكفكف من غلوائنا في تقدير المظاهر، ما دام الفن في جوهره بخير. محمود تيمور

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢