كلمة مختصرة عن الدعاء
مدة
قراءة المادة :
14 دقائق
.
كلمة مختصرة عن الدعاءالحمد لله سميع الدعاء، مجيب النداء، جزيل العطاء، أحمده سبحانه حمدًا يملأ الأرض والسماء وما بينهما وما بعدهما مما يشاء، وصلى الله وسلم علي عبده ورسوله محمد خير البريات وأشرف من تضرع إلى الله بصالح الدعوات، وعلى آله وأصحابه الذين كانوا يدعون ربهم خوفًا وطمعًا ويسارعون في الخيرات.
أما بعد:
فلا شك أن هذه الحياة مملوءة بدواعي القلق وأسباب النكد ومجالب الهموم المتنوعة، والتي لا يسلم منها عظيم لعظمه، ولا غني لماله، ولا ذو جاهٍ لجاهه، فضلًا من الجاهل الظلوم أو الضعيف المظلوم والبائس المحروم، وصدق الله إذ يقول: ﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ﴾ [الأنبياء: 35]، ولكن المؤمن الحق هو الذي يستيقن أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، فكل شي بقدر ممن له الخلق والأمر؛ ولحكمة قد تخفى علينا وقد تظهر: ﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [التوبة: 51]، ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [الحديد: 22، 23]، ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ [الشورى: 30].
فعندما تشتد الكروب، وتتنوع الخطوب، وتستحكم حلقات المحن، يعلم المؤمن أن ذلك بقدر من رب الأرض والسماء القادر وحده على كشف الضراء ورفع البلاء ودفع كيد الأعداء، فيفزع إلى ربه منيبًا تائبًا راغبًا راهبًا، يفر منه إليه ويشكو ما حل به عليه، يلوذ به فيما ويعوذ به مما يحاذره: ﴿ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ﴾ [القصص: 24]، ﴿ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 83]، ﴿ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ﴾ [القمر: 10]، ﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 87]، يعرض الحال، ويثني بالمقال، ويسترحم ذا الكرم والجلال، لاعتقاده الجازم أنه تعالى مصدر كل خير، وموصل كل برٍّ والقادر على كشف كل ضرٍّ، وصرف كل شر، وأنه تعالى قريب من داعيه وسميع لعبده إذ يناجيه؛ كما قال تعالى: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186]، وقال: ﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ ﴾ [النمل: 62]؛ فهو الواحد القادر على ذلك.
إخوة الإسلام: فإيمان العبد بأن ربه تعالى هو المتولي لكل أموره، والمطلع على جميع أحواله، وأنه سبحانه لطيف بعباده، وأنه سبحانه أرحم بعبده من كل أحد، وأرحم ما يكون بعبده عن الشدة والضيق خصوصًا عند يقين العبد بقرب ربه منه، وحسن ظنه به، ويقينه بإجابته لدعائه مع صدق الاضطرار إليه، وحسن الإقبال عليه، وكمال الأدب معه والذل له؛ فإنه سبحانه يكون مع عبده الذي هذه حاله معية خاصة، فإضافة إلى أنه يرى حاله ويسمع مقاله، فإنه يجيبه إذا دعا، ويرحمه إذا شكا، ويأخذ بيده إذا كبا، ويعينه إذا احتاج، ويمده إذا ضعف، ويؤمنه إذا خاف، وينصره إذا ظلم، ويهديه إذا تشعبت السبل، ويوفقه لسديد المقال وصالح الأعمال، ويلطف به في كل حال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ﴾ [النحل: 128].
فهنيئًا لمن كان على الدوام بين يدي ربه متضرعًا وله خاضعًا، وإلى مغفرته وجنته مسارعًا بشكره على النعماء ويصبر له عند مر القضاء، ويذكره سائر الآناء، وفقنا الله وإياكم لذلك، وجنبنا أسباب المهالك.
فإيمانٌ هذا شأنه قد حسنت آثاره وطابت ثماره لا يدع صاحبه نهبا للوساوس وعرضه للمخاوف، ولا يجعله يتيه في بيداء اليأس من روح الله أو يلج في ظلمة القنوط من رحمة الله، بل يكون نورًا يخرج الله به صاحبه من كل ظلمة، وينجيه به من كل هلكة، ويثبته به عند كل مصيبة، ويهديه عند تشعب السبل واشتباه الأمور: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحديد: 28]، ﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾ [البقرة: 257].
ولذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يربي أصحابه رضي الله عنهم بقوله وفعله وحاله على أن تكون حياتهم كلها ذكرًا لله تعالى، وافتقارً إليه واستكانةً له، وذلًّا بين يديه؛ ليكونوا على الدوام موصولين بالله متطلعين إلى جوده وعفوه وإحسانه منتظرين لطفه ورحمته، ينزلون حوائجهم بالله، ولا ينتظرون المدد من أحد سواه في كل الأحوال من السراء والرخاء أو الشدة والضراء.
وكم في السنة النبوية من التوجيهات الكريمة التي تجعل المسلم موصولًا بربه في كل آنائه وسائر لحظاته! ففي مناسبة ذكر وعند كل نوم أو يقظة أو سكون أو حركة ونحو ذلك دعاء واتجاه إلى الله تعالى، وكتب الدعوات والأذكار التي جمعها وصنفها أهل العلم بالسنة حافلة بذلك على التفضيل.
وكم أرشد - صلى الله عليه وسلم - أمته إلى دعوات المصطفين الأخيار والصالحين الأبرار الواردة في القرآن المتضمنة بجميع الثناء وجوامع الدعاء التي يسأل فيها أولئك الأخيار أفنان الحاجات وعظيم الهبات ممن خزائنه ملأى و يداه سحاء الليل والنهار لا تغيضها نفقه، ففازوا في الدنيا والآخرة بأجل المطالب وأعلى المراتب! قال - صلى الله عليه وسلم -: «الدعاء هو العبادة»، وقال: «ليس شيء أكرم على الله من الدعاء»، وقال: «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أن الله لا يستجيب دعاءً من قلب غافل لاهٍ»، وقال: «ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعه رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال؛ إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها»، وقال: «دعوة أخي ذي النون إذ دعا بها وهو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، لم يدع بها مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له»، وكان من دعائه - صلى الله عليه وسلم -: «إني أسألك الهدى والسداد»، ومن دعائه: «اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى»، وعلم - صلى الله عليه وسلم - رجلًا أن يقول في صلاته: «رب اغفر لي وارحمني وارزقني واهدني وعافني»، وقال: «فإنها تجمع لك خيري الدنيا والآخرة»، وعلم الصديق رضي الله عنه أن يقول في صلاته: «اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة منك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم»، وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «سلو الله من فضله؛ فإنه يحب أن يسأل»، وقوله: «من لم يسأل الله يغضب عليه»، وقوله: «لا يرد القدر إلا الدعاء»، وقوله: «عليكم عباد الله بالدعاء؛ فإنه ينفع مما نزل ومما لم ينزل»، وقوله: «من فتح له منكم باب الدعاء وكمال التضرع إلى ربكم في جميع أحوالكم؛ فإنه عبادة لرب العالمين وسنة مأثورة عن الخيرة المصطفين من الأنبياء والمرسلين، ووسيلة من وسائل الصالحين المهتدين، وسلاح مبارك من أسلحة المؤمنين، يحفظ الله به النعماء، ويصرف به البلاء، ويدفع به الضراء والبأساء وكيد الأعداء».
فاسألوا ربكم تبارك وتعالى حاجاتكم كلها؛ اسألوه صلا ح القلوب، وستر العيوب، ودفع الخطوب، اسألوه العفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدنيا والآخرة، اسألوه المزيد من توفيقه وهداه، والإعانة على كل ما يحبه ويرضاه، وعليكم بالجوامع من الدعاء؛ فإن نبيكم - صلى الله عليه وسلم - كان يستجيب الجوامع من الدعاء ويدع ما سوى ذلك، وكان أكثر دعائه: « اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنه، وقنا عذاب النار».
وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا أهمه أمر فزع إلى ربه، فدعا ورفع رأسه إلى السماء ينتظر إجابة الدعاء، ويستنزل النصر الأعداء، وينتظر تنفيس الكرب بعد الدعاء، وكم له - صلى الله عليه وسلم - من الدعوات عند الكروب ونوازل الخطوب يستنجد بها علام الغيوب! فكان - صلى الله عليه وسلم - يقول إذا غزا: «اللهم أنت عضدي ونصري، بك أحول، وبك أصول، وبك أقاتل»، وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا خاف قومًا قال: «اللهم إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم»، فإذا لقي العدو قال: «اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم»، ودعا يوم الأحزاب على المشركين فقال: «اللهم منزل الكتاب سريع الحساب، اللهم اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم».
وقنت - صلى الله عليه وسلم - في فرائض الصلوات ـ خصوصًا الفجر ـ شهرًا يدعو للمؤمنين ويلعن الكافرين، ويسأل الله النجاة لضعفة المسلمين الذين بين أظهر الكافرين، ومن الدعاء المأثور عن عمر من ذلك: «اللهم اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، وألف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم، والعن الكفرة من أهل الكتاب والمشركين الذين يصدون عن سبيلك، ويكذبون رسلك، ويقاتلون أوليائك، اللهم خالف بين كلمتهم وزلزلهم وزلزل أقدامهم، وأنزل بهم بأسك الذي لا ترده عن القوم المجرمين»، وكان يقول: «اللهم انج فلانًا وفلانًا»، من المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلًا.
معاشر المسلمين: ادعوا الله مخلصين له الدين ومتأسين بنبيكم محمد - صلى الله عليه وسلم - وسلفكم الصالحين تنفيس الكرب ومغفرة الذنب، وأن يكف عنا كيد الأعداء، وأن يعافينا من حال أهل البلاء، وأن لا يؤاخذنا بفعل السفهاء.
وادعوا الله مخلصين، واستكينوا بين يديه متضرعين، وافتتحوا الدعاء بحمد الله والثناء عليه بما هو أهله، ثم الصلاة والسلام على نبيه - صلى الله عليه وسلم -، ثم تخيروا من الدعاء أعجبه إليكم مما يناسب الحل ويقتضيه المقام، وعليكم بالأدعية المأثورة فإنها أجمع للخير وأحرى بسرعة الإجابة، وليكرر أحدكم الدعوة ثلاثًا؛ فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يعجبه أن يدعو ثلاثًا، ونادوا الله وناجوه باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعى به أجاب، وأحراه ما كانت به كلمة التوحيد مثل: (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين)، (لا إله إلا الله العظيم الحليم)، أو اشتمل على جملة من صفات الكمال ونعوت الجلال مثل: آية الكرسي، وفواتح سورة الحديد، وأواخر سورة الحشر، وسورة الإخلاص، وألحُّو على الله بالدعاء؛ فإنه سبحانه يحب أن يسأل، ويحب الملحين في الدعاء، وهو تعالى جواد حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفرًا خائبتين.
وإذا سأل أحدكم ربه فليعزم المسألة وليعظم الرغبة، ولا يقل ارحمني إن شئت أو اللهم إن شئت فأعطني؛ فإن الله لا مستكره له يتعاظمه شيء أعطاه.
واعلموا أنه يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم ولا قطيعة رحم ما لم يستعجل يقول: قد دعوت وقد دعوت فلم أرى يستجيب فيستحر عند ذلك ويدع الدعاء.
عباد الله: تحروا بدعائكم أوقات الإجابة والأحوال التي يستجيب الله لأهلها، واحذروا موانعها ما استطعتم؛ فقد جاء في السنة أن الدعاء أسمع ما يكون جوف الليل الآخر ودبر الصلوات المكتوبات، وأنه لا يرد بين الأذان والإقامة وعند نزول الغيث وحال لقاء العدو، وأن في كل ليلة وفي كل جمعه ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله تعالى فيها من خيري الدنيا والآخرة، وأن أقرب مما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا فيه من الدعاء، فقَمِنٌ أن يستجاب لكم، فاتخذوا من الأدعية المأثورة وسيلة لبلوغ الآمال، واقرنوها بصالح الأعمال، واحذروا من الكسب الحرام، وتوبوا مما أسلفتم من الآثام، وأصلحوا فيما تستقبلون من الأيام، يعطي الله كل واحد منكم من الخير فوق ما يتمناه، ويؤمنه مما يحذره ويخشاه، ويحل عليه رضاه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.