من عقبات الدعوة: الفتور
مدة
قراءة المادة :
9 دقائق
.
من عقبات الدعوةالفتور
من العقبات التي تواجه الدعاة: الاسترخاء والفتور والقعود عن الدعوة..
وبعد النصر - غالباً - يتعرض الدعاة لنوع جديد من العقبات، وهو الاسترخاء والفتور والقعود عن الدعوة والجهاد، فالداعية الذي استطاع تخطي العقبات السابقة من أذى وإعراض، كان يجابه أعداء الله وهو مستجمع كل طاقاته، وتحدى الباطل ولم تلن له قناة رغم كثرة الضغوط والشدائد، ونجح في ذلك، حتى إذا أذن الله بزوال بعض الشدة، حدث نوع من الاسترخاء، لتهدأ الأعصاب ويتجدد النشاط، فهنا تظهر عقبة لم تكن في الحسبان، حين تستروح النفس هذا اللون من الهدوء، وتأنس له وتستلم، وبل تستنيم، خاصة إذا صاحبه رخاء وشيء من ترف العيش، أو المغانم أو العودة إلى الوطن والأهل، عندئذ يصير ذلك الاسترخاء بداية القعود، بدلا من أن يكون وسيلة لتجديد النشاط والقوة لمواصلة السير في طريق الدعوة والجهاد[1].
وقد نفر النبي صلى الله عليه وسلم عن القعود عن الجهاد، وحذر من تركه، والإخلاد إلى الدنيا ومتعها[2]، خاصة عند من تعلم فنون القتال وأجادها، وحصلت له أهلية الدفاع عن دين الله، ونكاية العدو، وتأهل لوظيفة الجهاد، فإن تركه له يعد تفريطا منه في القيام بما تعين عليه[3]، ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((من علم الرمي ثم تركه، فليس منا، أو قد عصى))[4].
ومنعاً لهذه العقبة الكؤود أن تعيق طريق الدعاة المجاهدين، أو تتغلغل داخل نفوسهم على حين غفلة منهم، أرسل النبي صلى الله عليه وسلم - بعد الفتح مباشرة - السرايا لإزالة معالم الوثنية حول مكة، ثم أرسل سرية خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى بني جذيمة، وبعد ذلك استنفر المؤمنين ومن أسلم من أهل مكة، للقاء هوازن وثقيف، ليعلم جنود الله أن المجاهد لا يضع سلاحه أبدا - ما دام قادرا - بل يعاود الكرَّة بعد الكرَّة على الأعداء، فالدعوة في حاجة دائمة إلى كل جهد وطاقة.
ولتخطي هذه العقبة، ولئلا يميل المسلمون إلى الدعة والركون، منع النبي صلى الله عليه وسلم المهاجرين من العودة إلى مكة واستيطانها بعد فتحها، والإقامة بها بعد الهجرة منها، وأباح لهم إذا وصلوها لحج أو عمرة أو غير ذلك، أن يقيموا بعد فراغهم ثلاثة أيام، ولا يزيدوا على الثلاثة[5]، فقال: ((للمهاجر إقامة ثلاث بعد الصدور[6] بمكة))[7].
فمنع المهاجر من المكث بمكة مدة تزيد عن حاجته، لأنها هاجر منها في سبيل الله ونصرة رسوله صلى الله عليه وسلم، ورخص له (أن يقيم بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا، وما زاد على الثلاث، فمفسدته راجحة، فمنع منه، بخلاف مفسدة الثلاث، فإنها مرجوحة ومغمورة بمصلحتها، فإن فطام النفوس على مألوفاتها بالكلية من أشق الأمور عليها، فأعطيت بعض الشيء، ليسهل عليها ترك الباقي)[8].
وكان صلى الله عليه وسلم يدعو الله تعالى أن يتمم لهم هجرتهم، ويثبتهم على الحق، فيقول: ((اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم))[9]، كما يرثي ويحزن لمن مات منهم بمكة بعد الهجرة منها، كسعد بن خولة رضي الله عنه[10]، لأجل موته بالأرض التي هاجر منها، وكان يكره موته بها[11].
ولا يستثني نفسه صلى الله عليه وسلم مما أمر أصحابه به، ويضرب المثل لأمته في أن مصلحته حيث تؤتي الدعوة ثمارها الخصبة، فيبدأ بنفسه ويعزم على عدم البقاء بمكة[12]، رغم حبه الشديد لذلك، فقد رؤي صلى الله عليه وسلم على ناقته بالحزَْورَة[13] يقول: ((والله، إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلي.
والله، لولا أني أخرجت منك، ما خرجت))[14].
وكان عمر رضي الله عنه، إذا أتى مكة قضى نسكه، ثم قال: (لست بدار مكث ولا إقامة)[15]، وكذلك كان (أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم يحجون، ثم يرجعون ويعتمرون، ولا يجاورون)[16].
[1] بتصرف، طريق الدعوة: مصطفى مشهور ص 56.
[2] سبق ذكر بعض الأحاديث الدالة على ذلك راجع ص 77- 78.
[3] بتصرف، نزهة المتقين شرح رياض الصالحين 2 / 926.
[4] صحيح مسلم كتاب الإمارة باب فضل الرمي والحث عليه، وذم من علمه ثم نسيه 2 / 1522 ح 1919.
[5] بتصرف، صحيح مسلم بشرح النووي 9 / 122.
[6] الصدور: أي الصدر من منى.
صحيح مسلم بشرح النووي 9 / 122.
[7] صحيح مسلم كتاب الحج باب جواز الإقامة بمكة للمهاجر منها بعد فراغ والحج والعمرة ثلاثة أيام بلا زيادة 2 / 985 ح 1352.
[8] أعلام الموقعين عن رب العالمين 2 / 166.
[9] جزء من حديث طويل رواه البخاري في صحيحه كتاب الجنائز باب رثى النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن خولة 2/ 82.
وذكر أنه في حجة الوداع، وسنن الترمذي كتاب الوصايا باب ما جاء في الوصية بالثلث 4/ 430 ح 2116، وذكر أنه في عام الفتح، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وسنن ابن ماجه كتاب الوصايا باب الوصية بالثلث 2/ 903 ح 2708 دون أن يذكر مكة ،وقد رجح الحافظ ابن حجر أنه في حجة الوداع.
انظر فتح الباري 5/ 363 ح 2742.
ولعله الأرجح لأن سعد بن خولة توفي في حجة الوداع.
والله أعلم.
[10] سعد بن خولة القرشي العامري، من بني مالك بن حسل وقيل: من خلفائهم من البدريين، مرض بمكة وتوفي في حجة الوداع، بتصرف، الإصابة 2/ 24.
[11] بتصرف، تحفة الحوذي 6/ 303.
[12] كقوله للأنصار: (( كلا إني عبد الله ورسوله، هاجرت إلى الله وإليكم...)) سبق تخريجه ص 125.
[13] هي ما يعرف اليوم باسم القُشاشيّة، وهو مرتفع مقابل المسعى من مطلع الشمس، كان ولا يزال سوقا من أسواق مكة، وهي تل مرتفع ظهرها معمور بشوارع تجارية.
بتصرف، معجم المعالم الجغرافية ص 98.
[14] سنن الترمذي كتاب المناقب باب في فضل مكة 5/ 722 ح 3925، وقال: هذا حديث حسن غريب صحيح، وسنن النسائي كتاب المناسك باب فضل مكة، 2/ 1037 ح 3108 واللفظ له، و المصنف: عبد الرزاق، 5/ 27 ح 8868، وقد صححه الشيخ الألباني في صحيح ابن ماجه 2/ 197 ح 2529.
[15] المصنف: عبد الرزاق 5/ 21 ح 8844.
[16] المرجع السابق ح 8845.