معركة صبيان
مدة
قراءة المادة :
6 دقائق
.
للأستاذ نجاتي صدقي
كانت المواصلات بين أحياء القدس العربية اليهودية منقطعة انقطاعاً تاماً. وإذا ما تخطت سيارة من سيارات الطرفين الحدود فمعنى ذلك أنها موفدة؛ (مهمة) لا عودة لها بعد أن يتم لها إنجازها. إلا أن هناك نوعاً من سيارات الشحن اليهودية كان يحق لها أن تخترق أحياء القدس العربية على شكل قوافل أربع مرات في اليوم، هي سيارات (البوتاس). والسيارات هذه تابعة لشركة البوتاس التي تقع معاملها على ضفة الأردن الغربية، في بلدة (كاليه) اليهودية الصناعية، وهي تستخرج ملحه البوتاس من رواسب البحر الميت، ثم تعبئه في أكياس وترسله إلى القدس في سيارات شحن ضخمة، حيث تتولى وكالة لها تصدير هذه المادة الكيماوية الهامة إلى خارج فلسطين. ففي بدء الحوادث كانت سيارات البوتاس تسير بحماية عدد من البوليس.
ثم جعلت مقدمة كل سيارة مصفحة بالفولاذ لا يظهر منها سوى ثلاث كوات، إحداها أمام السائق اليهودي، واثنتان عن يمينه وعن يساره.
ثم صارت مصفحات الجيش ترافق هذه السيارات.
ثم أخذ فريق من الجند بكامل معداته يصحبها في طريقها الممتد من أريحا إلى وادي موسى، إلى قرية العازرية، إلى باب الأسباط في القدس فمحلة وادي الجوز، فباب الساهرة، فالشيخ جراح، فالأحياء اليهودية. وكانت هذه السيارات تتعرض في كل سفرة إلى استقبال حار من العرب، لكنه عديم الجدوى، لأن الرصاص كان يستكين في الأكياس أو يتدحرج على أضلاع المصفحات حاني الرأس منكسر الخاطر!.
. وذات يوم عقد جماعة من صبيان وادي الجوز وباب الساهرة اجتماعاً سرياً في حديقة المتحف الفلسطيني بالقدس، وكان موضوعه رسم خطة للاشتباك مع سيارات البوتاس في معركة!.
. قال حسن، وهو أجير بقال: أنني ارتأى أن نرش الطريق بالمسامير!.
. فهزأ منه صحبه قائلين أن عجلات هذه السيارات من المطاط المسكوب لا المنفوخ. فقال سليم، وهو صبي ميكانيكي: أنني ارتأى أن نسد الطريق بالحجارة، وحين يخرج القوم من سياراتهم لإزالة ما نضعه من عوائق أمطرناهم بوابل من الحجارة!.
. فاستخف الأولاد رأيه قائلين سيتولى الجند إزالة الحجارة ويذهب مجهودنا سدى.
. فقال شكري، وهو تلميذ في الصف الثاني الابتدائي: أنني ارتأى أن نغتنم فرصة مرور السيارات من هذه الناحية ونقفز عليها ونثيرها ضجة تلقى الهلع في قلوب السائقين، فيضطرب حبل توازنهم، ويصدم بعضهم بعضاً!.
. فضحك زملاؤه من اقتراحه هذا قائلين: وماذا يحل بنا في هذا الصدام ونحن ممتطون ظهور هذه السيارات؟!.
. فقال عبد، وهو أجير فران: أنني ارتأى أن نضع قشاً في طريق السيارات ومتى اقتربت منها أضرمنا فيها النيران.
وسأتولى إحضار القش من الفرن أثناء غياب معلمي!.
. فقال له المجتمعون: كلامك هذا غير موزون، أتظن أن هذه السيارات هي أرغفة خبز وأنها ستنتظرك حتى تشعل فيها النيران؟ ثم ما هي كميات القش التي ستحضرها من الفرن؟.
. فقال موسى، وهو أبن أحد الجنود العرب الذين اشتركوا في الحرب العالمية الثانية: أنني ارتأى يا أولاد أن نقذف السيارات بالزجاجات المحرقة!.
. فدهش الصبية وقالوا بصوت واحد: وما هي هذه الزجاجات؟ قال: أنا أصنعها. قالوا: وكيف تصنعها؟.
. قال: أحضر زجاجات (كازوزة) فارغة، وأملأها بنزيناً.
ثم أخرق سدادة كل زجاجة وأضع فيها فتيلاً يمتد إلى البنزين.
وأشعل الفتيل وأقذف الزجاجة الهدف، فتنكسر ويلتهب البنزين!. فأعجب الصبية بهذه الفكرة الجبارة وأقروها، ثم وزعوا فيما بينهم إحضار المواد اللازمة.
فأجير البقال تبرع بالزجاجات الفارغة، وأجير الميكانيكي تبرع بالبنزين، وغيرهم تبرع بالفتيل والكبريت. ورسمت الخطة.
وهي أن ينتشر الصبية على سور المتحف الفلسطيني، وعندما تمر السيارات البوتاس بهذا السور يصرخ موسى: (عليهم)!.
.
فيقذفون الزجاجات دفعة واحدة، وينتهي الأمر. وهكذا كان.
إذ بينما كانت تسير السيارات في حمولتها بالقرب من سور المتحف الفلسطيني قذفها الصبية بزجاجات البنزين، فسقط بعضها في الطريق واشتعل، وسقط غيرها على جوابن السيارات والتهب.
وسقط غيرها على أسطحه غرف السواقين واحترق. ولما رأى من داخل السيارات أن النار تشتعل هنا وهناك قفزوا منها ظانين أنهم وقعوا في شرك مرعب.
وفي هذه اللحظة تقدمت بعض مصفحات الجيش لإنقاذ الموقف، وضرب المشاة طوقاً حول مكان الحادث، وراح غيرهم يبحث عن المهاجمين في حديقة المتحف الفلسطيني فوجدوهم مستلقين في نواويس رومانية قديمة.
. واكتفى الضابط باعتقال موسى، فوضعه في مصفحة وسار به مع القافلة متجهاً نحو الأحياء اليهودية، وكان كلما مر به على جمع من اليهود أمره بأن يطل عليهم من الكوة.
ثم يأخذ أذنه بين إصبعيه قائلاً: إذا عدت إلى ارتكاب مثل هذه قبضت عليك ثانية وأنزلتك في هذه الأحياء.
.
ثم أعاده إلى أهله. وفي صباح اليوم التالي رؤى الصبية مجتمعين في مكان ما في القدس، وقد أغرقوا رؤوسهم في جريدة صباحية يفتشون فيها عن أنباء معركتهم.
. نجاتي صدقي