int(1350) array(0) { }

أرشيف المقالات

السيرة الحسنة كتاب مفتوح

مدة قراءة المادة : 21 دقائق .
السيرة الحسنة كتاب مفتوح

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
من الوسائل الهامة في الدعوة إلى الإسلام وجذب الناس للتمسك بتعاليمه وأحكامه: السِّيرةُ الحسنة، والأخلاق الفاضلة، التي يتحلى بها من يعظ ويخطب ويحاضر، وبهذه الوسيلة يكسب قلوب الناس ويحملهم على التمسك بما يدعو إليه ويحث عليه، وإن كان كلامه وقوله قليلاً، وإن كانت خطبه قصيرة ودروسه بسيطة؛ لأن النفوس مجبولة على التأثُّر بالفعل والسلوك والقدوة أبلغ من التأثر بالقول والكلام، وهذا ما يُسمى في كتب أصول الدعوة "بالتبليغ بالسلوك والسيرة الحسنة"، ومن آثار هذه الدعوة ما يلي:
• أن من يتأثر بها من المدعوِّين يكون أعظم ثباتًا، وأكثر تمسُّكًا وأعظم محبة؛ لأنه شاهد ما لم يشاهده غيره، ورأى تطبيقًا عمليًّا للدِّين من خلال السيرة الحسنة، والأخلاق الفاضلة والآداب الزكية التي يتخلَّق بها الداعي أو الواعظ، ومن ذلك تعلم انتشار الإسلام في ربوع الأرض من خلال أخلاق التجار المسلمين، وتعاملهم الحسن وبعدهم عن الغشِّ والخيانة والكذب في بَيعهم وشرائهم وسماحتِهم في القول[1].
 
• أن الدعوة بالسِّيرة الحسنة كما قال بعض العلماء[2] هي كتاب مفتوح يقرأ الناس فيه معاني الإسلام وآدابه وأحكامه، وبعبارة أخرى: هي عرض لمعاني الإسلام وتوجيهاته وآدابه من خلال أخلاق الواعظ والخطيب.
 
• من فوائد السيرة الحسنة: أن يَعْلم الخطيبُ أنَّ سيرته الحسنة وتطبيقَه لِما يدعو إليه، ويَأْمر به يَكون سببًا في انشِراح الصَّدْر، وقُرَّة العين، وزِيادة العلم، وقد قيل: "ومَن عَمِل بما علِم، أورَثَه الله علم ما لَم يعلَمْ، ولو اقتصَر على تلاوة الآيات والأحاديث، فسيَجِد لموعظته حلاوةً وتأثيرًا واضحًا فيمن يدعوهم[3].
 
• في الدعوة بالسيرة الحسنة والأخلاق الفاضلة والتطبيق العملي للإسلام ردٌّ على المشكِّكين والحاقدين من أتباع المِلَل والعلمانيِّين وغيرهم في أن المسلمين يُحسنون القول والكلام ولا يطبِّقون ما يقولون من الإسلام[4]، وأن ذلك يعد من الأدلة على بطلان ما يدعون إليه من معاني الإسلام - بزعمهم - فإذا حقَّق الداعي ما يدعو إليه وطبق ما يحث عليه، وابتعد عما ينهى عنه من الأخلاق السيئة، فقد حقَّق القدوة الحسنة، فلا عليه بعد ذلك إن تكلَّم فيه المُغرِضون أو الحاقِدون لأن الله سيَنصُره ويؤيِّدُه ويبيِّض صورته ويجعل له العقبى ولو بعد حين.
 
إن حاجة الداعي أو الخطيب أو الواعظ إلى التخلُّق بآداب الإسلام وتطبيق ما يقوله أشدَّ الحاجة في زماننا هذا لكثرة النقاد وتسخير الإعلام والأقلام لتشويه صورة الإسلام الناصعة البيضاء في أذهان الناس، وإن الواجب على الداعي من الاتصاف بالحق والعمل به والصبر عليه والدعوة بالحسنى والموعظة الحسنة أكثر من أي زمان مضى، وقد جاءت الآثار النبوية والأقوال والآثار من العلماء الربانيين والمُصلِحين تبين ما للدعوة بالسيرة من الآثار الجليلة الحميدة، وما يتبع ذلك من التأثير على أخلاق الناس وجذبهم إلى الإسلام، وفي السيرة النبوية - على صاحبها أفضل الصلاة والسلام - جملة من ذلك نشير إليها ونذكرها ليتَّخذها الداعي زادًا له في الدعوة، وليتجمل بها ويَستضيء بأنوارها عسى أن يفلح وينجح في السير على الهدى النبوي:
• في صحيح البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها: "فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجف بوادره حتى دخل على خديجة فقال: ((زمِّلوني زمِّلوني)) فزمَّلوه حتى ذهب عنه الرَّوع، ثمَّ قال لخديجة: ((أي خديجة! ما لي؟)) وأخبَرَها الخبر، قال: ((لقد خشيتُ على نفسي)) قالت له خديجة: "كلا، أبشر؛ فوالله لا يخزيك الله أبدًا؛ والله إنك لتصل الرحم، وتَصدُق الحديثَ، وتَحمل الكَلَّ، وتُكسبُ المَعدومَ، وتَقري الضيف، وتُعين على نوائب الحق".
 
فقد استدلَّت خديجة رضي الله عنها على صدق ما يَحمله من عقائد، وما يدعو إليه من حقائق ومبادئ، بما كان يتخلق به من آداب وأخلاق وفضائل، ومن جملتها صلة الرحم والصِّدق في الحديث مع الناس، والصِّدق في القول، والتعامل، وإعانة المُحتاجين، وإقراء الضيف وإكرامه، والسَّعي في نصرة المظلوم وقمع الظالم، ونحو ذلك من الأخلاق، وقد تأثر بأخلاق الرسول المكرم صلى الله عليه وسلم وآدابه السامية واستجاب لدعوته فور إعلانه للنبوة والدخول في الإسلام عدد من الصحابة الكرام، بل إن البعض استجاب له قبل أن يعرف مبادئ الإسلام، وإنما نظر إلى سلوك النبي صلى الله عليه وسلم وما كان يُذاع عنه قبل البعثة وبعدها من أخلاق كريمة؛ كالأمانة والصبر والعفو والسماحة، ومنهم على سبيل المثال: الطفيل بن عمرو[5].
 
• ومن السيرة أيضًا ما جاء من حديث أبي هريرة قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، أعطني، فإنك لا تُعطي من مالك ولا من مال أبيك، وأغلظ للنبي صلى الله عليه وسلم، فوثب أصحابه فقالوا: يا عدوَّ الله، تقول هذا لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فقال: ((عزمتُ عليكم لما أمسكتم))، فدعاه فدخل بيته فأعطاه فقال: ((أرضيتَ؟)) قال: لا، ثم أعطاه أيضًا، فقال: ((أرضيتَ؟)) قال: لا، ثم أعطاه الثالثة، فقال: ((أرضيتَ؟)) قال: نعم، قال: فاخرُج إلى أصحابي فأَخبِرهم أنك قد رضيت؛ فإن في قلوبهم عليك شيئًا، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتدرون ما مثلي ومثل هذا الأعرابي؟ مثل رجل في فلاة من الأرض، معه زاده وراحلته فنفَرت راحلته فاتبعها الناس، فما زادوها إلا نفورًا، فقال: دعوني فإني أعلم بناقتي منكم، فعمد إلى قمام الأرض - يعني: الحشيش - فجعل يقول لها: هوي هوي، حتى رجعت، فأناخها، فحمل عليها زاده ثم استوى على متنها، فلو تركتُكُم حين قال ما قال فقتلتموه، دخل النار، فما زلت حتى فعلت ما فعلت وقال ما قال))؛ أمثال الحديث لأبي الشيخ الأصبهاني (ص: 301)، وأخرجه أبو داود والنسائي في رواية أخرى ضعَّفها الشيخ الألباني.
 
• وفي السيرة أيضًا موقف الرسول مع المشركين؛ فقد كانوا يتركون ودائعهم عند الرسول صلى الله عليه وسلم ليَحفظها لهم، وقد عُرِفَ الرسول بصدقه وأمانته قبل البعثة بين أهل مكَّة، فكان يُلقَّب بالصادق الأمين، وحينما هاجر الرسول من مكة إلى المدينة، ترك علي بن أبي طالب رضي الله عنه ليُعطي المشركين ودائعهم وأماناتهم التي تركوها عنده[6].
 
وبالرغم مِن المَوقِف العصيب الذي كان يحيط بصاحب الدعوة، وقد كان من المُمكن لولا عناية الله وحفظه أن يتمكَّن منه المشركون فيَقتلوه، ولكنه آثرَ رد الودائع إلى أهلِها، وقد يكون مندوحة للداعي في ذلك ترك الودائع وشأنها ليسلم الداعي وينجو من موت محقَّق، لكن أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يُعطينا درسًا عمليًّا في السيرة الحسنة والالتزام بما يدعو إليه الداعي ويحث عليه ويُجاهد من أجله.
 
وفي الحقيقة فإن السيرة النبوية هي التطبيق العملي للإسلام، ولذا فعلى الداعي أن يَدرس السيرة النبوية دراسة جيدة، ويُحاول قدر المستطاع أن يطبِّق ما يقرأ ويعمل بها، فما من عمل أو حالة يمر بها الواعظ، وما من موقف يراه في مسيرته الدعوية إلا وفي سيرة المصطفى الكريم ما هو قريب منه أو شبيه به، ولذا قالت الصدِّيقة رضي الله عنها في وصف أخلاق النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: ((كان خلُقه القرآن)).
 
وتعتمد السيرة الحسنة على ركيزتَين أساسيتين، إن أحسن الواعظ أو الخطيب التخلُّق بهما كان له أبلغ الأثر فيمَن يدعوهم وينصحهم للحق، وإن أخفقَ في ذلك فلا يلومنَّ الناس في عدم محبَّته والانصياع لقوله والتأثُّر بخُطبتِه أو وعظِه، بل عليه أن يرجع إلى نفسه ويلومها على تقصيرها فهي أحقُّ باللوم، والركيزتان هما:
أولاً - الخلُق الحسن:
والقرآن الكريم تحدَّث في سورِه وآياته عن الأخلاق وأنواعها وصفاتها، ودورها في تهذيب السلوك وتقويم الفرد، وما يترتَّب عليها من الأجر والثواب، ودورها في التأثير في المدعوين؛ كالصِّدق، والتواضُع، وخفْضِ الجَناح، والقول الليِّن، وترك المراء والجدال وبذاءة اللسان، وترك الشحِّ والبُخلِ، والوفاءِ بالعهد، والأمانة، وترك الحسد والبغضاء ونحوها، ومن الأخلاق الحميدة التي يَحتاجها الواعظ دومًا في مسيرته الدعوية: الصبر والحلم، وهما ألصق به لكونه داعيًا ومُرشِدًا ومربيًا، فلا يليق به أن يتعجَّل أو يضجَر أو يرد السوء بمثله، وإلا نفرت منه النفوس، ومن ذلك: قول الصَّديقة وقد سألتِ الصدِّيقة بنتَ الصدِّيق السيدة عائشة رضي الله عنها: كيف كان خلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهله؟ قالت: "كان أحسن الناس خُلُقًا؛ لم يكن فاحشًا ولا متفحِّشًا، ولا صخَّابًا في الأسواق، ولا يَجزي بالسيئة السيئة، ولكن يَعفو ويصفح"، وقد كان صلى الله عليه وسلم نموذجًا يُحتَذى به في الخلق مع نفسه، ومع زوجاته، ومع جيرانه، ومع ضُعفاء المسلمين، ومع جهَلتِهم، بل حتى مع الكافر.
 
وحاجة الداعي أو الواعظ إلى الصبر على الأذى لأنه لا بدَّ أن يواجه المنغِّصات والمضايَقات قولاً وفعلاً، فإن لم يَصبر ويعفو عمَّن أساء إليه - بل رد بمثله - كان ما يفسد أكثر مما يُصلح وأعطى القدوة السيئة في التعامل مع الآخرين، وأعطى الفرصة لأعداء الإسلام للإساءة إليه ولما يحمله.
 
ثانيًا - مطابقة الفعل والعمل للقول:
عن أبي زيدٍ أُسامةَ بن زيد بن حارثة رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقولُ: ((يُؤْتى بالرَّجُل يوم القيامة، فيُلْقى في النار، فتَنْدلق أَقْتاب بَطنِه، فيَدور بها كما يدورُ الحِمارُ في الرَّحا، فيَجتمع إليه أهلُ النار، فيقولون: يا فلان، ما لَك؟ ألَم تَكُ تأمرُ بالمعروف وتَنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، كنت آمرُ بالمعروف ولا آتيه، وأَنْهى عن المُنكَر وآتيه))، وما كان هذا الوعيد الشديد والبيان والنذير والوعيد إلا لأن الأثر الذي يترتب على من يَنصحهم ويُرشدهم ذاك الواعظ أو الخطيب له أبلغ الأثر السيئ، بل ربما حملهم على النفور من تعاليم الإسلام الحنيف، بل والعمل بمخالفته إمعانًا في كره الخطيب أو الواعظ، فهل تنبَّهْنا لخُطورة ذلك.
 
وبعض الخطباء والوعاظ - أصلحهم الله - يَنعقِد أو يظن أنه إذا أتى بأداة الخطابة والوعْظ من حسنِ البيان، وفَصاحة القول والكلام، وقوة الأداء والأسلوب، والظهور بمظهر جيِّد، فقد بَرِئتْ ذمَّتُه، وأتى بما هو واجب عليه من الإرشاد والنُّصح، فلا عليه بعد ذلك إن خالف ما يقوله أو عمل بخلاف ما يأمر به، أو أتى ما نهى عنه في خطبه ولو بعد ساعة من نزوله مِن المنبر، وليعلم هذا وأمثاله أنه عالة على الإسلام، بل أحيانًا يعدُّ مِن أعدائه الجهَلة، ولو جلس في بيته على هذه الحال خير له، وليعلم أيضًا أن الواعظ "مهما بلغ من قوَّة الإلقاء ونصاعة الأُسْلوب، فإنَّه لن يستطيع أن يُقنِع أحدًا بفِكْرِه، أو أن يستميل القلوبَ لدعوته ما لم يكن مُخْلِصًا في دعوته، نقيًّا في سيرته، بل إنَّه مع ذلك لا يستطيع أن يَسْلَم من غمز النَّاس به في سُلوكه"[7]، ومن أجل ذلك حذَّرَنا المولى من مُخالفة الفعل للقول والعمل فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الصف: 2، 3].
 
فليَحمل الواعظ نفسه على العمل والتطبيق، وإن وقَع في غفلة أو خطأ فليُسارع إلى إصلاحه فإنه مثل غيره من البشر، فذلك أدعى إلى قبول كلامه ونصحِه بدلاً من التمادي والطغيان.
 
عدة الواعظ في حسن السيرة:
فإن هناك عدة وأسلحة يحتاجها الواعظ في دعوته تُعينه على أداء مهمَّتِه على الوجه الأكمل وتحسِّن سيرته، بل وتحثُّه على الخير ولزوم الهدى، بل وتُحبِّبه وتشوِّقه إلى تحقيق الهدف الأسمى الذي يسعى إليه، وهو مرضاة الله وابتغاء الدار الآخرة، وهذه العدة يحتاجها الواعظ في جميع أحواله وظروفه، وخاصة عندما يقع في أخطاء، أو تلتبس عليه الأمور أو يضيق به الحال، أو يتخلى عنه أقرب الناس إليه، وتلك العدة هي:
التقوى:
وهي - باختصار -: "فعل المأمور وترْك المحظور، والصبر على المقدور"، والواعظ لا بد له من الاهتمام بمعاني التقوى؛ مثل: الإيمان بالله واليوم الآخر، وتقوية ذلك في نفسه، وأن يعلم أنه سيُجازى على عمله من خير أو شرٍّ، وأنه يُحاسب على مثاقيل الذرِّ من العمل، وأن الله وعد الصادقين والعاملين بالثواب الحسن في الدنيا والآخرة؛ ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً...
[النحل: 97].
 
وهذا العلم والعمل على تقوية معاني التقوى يؤدِّي إلى تقبل النفس للأخلاق الفاضلة الزكية؛ مثل: التواضع والسخاء والعفو، وكلما رسخت التقوى ومعانيها الجليلة في النفس والقلب ازدادت تلك الأخلاق وأحبها من كل قلبه؛ لأنه يجد لها الحلاوة والأثر الطيِّب، فلا تجد الواعظ حريصًا شَرِهًا على الدنيا والمال، بل تجده مُستغنيًا عن الخَلقِ، مُرتاح البال، مطمئن القلب، لا يشرف بقلبه على الناس؛ لأنه يعلم أن الفضل والرزق والعطاء والمنع بيد الله، ولا تجد الواعظ متكبرًا متعاليًا على عباد الله بعلمه أو بجماله أو ببيانه؛ لأنه عرف قدر نفسه، وأنه أُخرج من بطن أمه لا يعلم شيئًا؛ ﴿ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [النحل: 78]، وعرف قدر ربه وما يستحقُّ مِن الإجلال والتعظيم والعبادة والمحبة، فلذا تجده متواضعًا حريصًا على إيصال النفع لهم، ولكنه تواضع من غير ذلة، بل ثقة بالله وطمأنينة به، وهكذا الكلام في بقية الأخلاق الفاضلة.
 
إن هدف الواعظ هو هداية الناس إلى الحق، وإخراجهم مما هم فيه من جهالة وغفلة، ومن أجل تحقيق هذا الهدف الأسمى والغاية العظمى يَبذل ما في وسعه من مرضاة الله وابتغاء الدار الآخرة، ويتخلَّق بأخلاق الرسول المكرم ويطبق ما يتلوه من آيات الكتاب الكريم من الآيات التي تحثُّ على التمسُّك بالخير وتوابعه، ويَنزجِر عن الشر وتوابعه، بل إنه يجد حلاوة إيمانية ولذَّة هي ثمرة ما يقوم به من العمل الصالح والدعوة إلى الهدى، وهذه الحلاوة يزداد إشراقها ونورها كلما قويتْ مادتها في القلب، والمؤمن لا يشبع من خير حتى يكون مُنتهاه الجنة؛ كما جاء في الأثر.
 
الطاعات وأنواعها:
والأعمال الصالحة المفروضة ونوافل العبادات من صلاة وصوم وعمرة وصدقة لها أبلغ الأثر في السيرة الحسنة؛ فهي تُزكِّي النفس وتهذِّب الوجدان، وتسهِّل عليه اكتساب الأخلاق الفاضلة، والتخلِّي عن الخبيث والسيِّئ منها، فأداء الصلاة في أوقاتها والمحافظة عليها مع الجماعة ونوافلها - مثل صلاة الضحى والوتر والقيام والتهجُّد - تَمنحه الصبر والثبات والقوة والعزيمة؛ ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ﴾ [العنكبوت: 45]، وأداء الحج والعمرة والطواف بالبيت والدعاء والذكر، وفي الحقيقة هذه تربية عملية تؤثر في النفس والقلب أيما تأثير، وتروِّض المسلم على العمل الصالح حتى يُحبه ويشتاق إليه، ويفطمه عن سوء الأخلاق وسيئها كالشحِّ والبُخلِ؛ ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ ﴾ [المعارج: 19 - 22]، والجلوس للذِّكر بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس في الحقيقة غذاء روحي يمدُّ المسلم بطاقة قوية، ويَشحذ همَّته، ويُقوِّي عزيمتَه على فعل الخير والاستمرار عليه، وقد كان أحد العلماء يقول: "هذه غدوتي، ولو لم أتغدَّ سقطت قوتي" أو نحوه، وفي تلاوة كتاب الله وقرآنه وتدبُّر معانيه والتغلْغُل في مقاصده ومراميه، وإقامة حدوده، السعادة الحقَّة، "بل تقلب المحنة في حقه إلى مِنْحة، والبليَّة إلى عطيَّة، وتجعل المرء يعيش في سعادة غامرة، وبَهجة عامرة، وإن كان قليل الثروة والمال، بل وإنْ كان فاقدًا لهما، وليس في ذلك أيُّ خيال أو مبالغة - وإنْ كان في عصرنا مَن لا يصدق تخيُّله؛ لأنه عنده من المحال - وقد نُقِلَ عن أئمة الهدى من المتأخرين، فضلاً عن الأولين، ما يَدُلُّ على السعادة الحقَّة، التي يَشعرون بها في الخلوات، بل في المُلمَّات، ودخول السجن، وطول القيام في الظلمات فيه؛ يقول شيخ الإسلام لَمَّا دخل السجن وتلا قوله تعالى: ﴿ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ ﴾ [الحديد: 13]، ويقول في محبسه الأخير: "اللهمَّ أعنِّي على ذكْرِك"[8].
 
القدوة الحسنة: وأفضل القدوة الحسنة في الأخلاق وفضائل الأمور سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أمرنا الله أن نتأسَّى به ونقتدي بهدْيه، ونتمسَّك بسنَّته ونهجه، ونسلك دربه وطريقته؛ ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ﴾ [الأحزاب: 21]، ثم سنَّة مَن بعده مِن الخلفاء الراشدين، والعلماء العاملين، من الصحابة الأخيار والتابعين الأبرار، رضي الله عنهم أجمعين، فعلى الواعظ أن يتمعَّن في سيِرهِم وأحوالهم في زُهدِهم وورعِهم، وعبادتهم ورغبتهم، وصبرهم وجهادهم، وفي سائر أمورِهم، ويُحاول أن يَتشبّهَ بهم قد المُستطاع فإن التشبُّه بالكرام فلاح ونجاح.



[1] وهذا لا يقلل من أهمية القول والكلام، بل إن القول هو الأصل في التبليغ كما هو معلوم.


[2] الدكتور عبدالكريم زيدان في كتاب: "أصول الدعوة"، وقد كتب جملة عن أهمية السيرة الحسنة في نهاية الكتاب، وفي الحقيقة فهذا البحث هو شرح لهذه الجملة؛ انظر: فصل السيرة الحسنة (ص: 482) طبعة حديثة، الطبعة التاسعة، سنة 1423 - 2002.


[3] من بحث لي بعنوان: "خطيب لا يطبِّق ما يقول" نشر على موقع الألوكة.


[4] الغرب ينظر إلى الإسلام من خلال تصرفات أتباعه ومن ثم يَحكمون على الإسلام، وهذه نظرة خاطئة، فالإسلام هو دين الأنبياء جميعًا، وما أحسن مقولة القائل عندما رأى المسلمين: "رأيت مسلمين ولم أرَ إسلامًا"، وعندما ذهب إلى ديار غيرهم ورأى بعض ما يطابق تعاليم الإسلام قال: "رأيت إسلامًا ولم أرَ مُسلمين".


[5] قال في بيان سبب إسلامه: "فغدوت إلى المسجد فإذا رسول الله قائم يُصلي عند الكعبة، قال فقمت قريبًا منه فأبى الله إلا أن يُسمعني بعض قوله، قال: فسمعت كلامًا حسنًا، قال: فقلت في نفسي: واثُكلَ أمي؛ إني لرجل لبيب شاعر ما يَخفى عليَّ الحسن من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول؟ فإن كان الذي يأتي به حسنًا قبلتُه، وإن كان قبيحًا تركته، فمكثت حتى انصرف رسول الله إلى بيته فاتَّبعته حتى إذا دخل بيته دخلت عليه فقلت: يا محمد، إن قومك قالوا لي كذا وكذا للذي قالوا لي، فوالله ما برحوا يُخوِّفنني أمرك حتى سددتُ أذني بكرسف لئلا أسمع قولك، ثم أبى الله إلا أن يُسمعَنيه، فسمعتُ قولاً حسنًا، فاعرِض عليَّ أمرك، فعرض عليَّ الإسلام وتلا عليَّ القرآن، فوالله ما سمعت قولاً قطُّ أحسن ولا أمرًا أعدل منه، وقال: فأسلمت وشهدت شهادة الحق".


[6] انظر: "روضة الأنوار في سيرة النبي المختار"؛ لفضيلة الشيخ صفي الرحمن المباركفوري (ص: 145) وفيه تفاصيل الرحلة المباركة والهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم.


[7] من مقال بعنوان: "سيرة الداعية أهم أسلحته في الدعوة"؛ د.
كمال تمام.


[8] من بحث: "القول المؤثر في أنواع التدبُّر" بقلم: مرشد الحيالي، والقول لشيخ الإسلام ابن تيمة في محبسِه الأخير، وانظر: "الجواب الكافي" (ص: 129)، و"مدارج السالكين" (3 / 259)، "الوابل الصيب" (ص: 110).

شارك المقال


Warning: Undefined array key "codAds" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/a920adceac475d2e17f193a32cdaa1b563fd6f5b_0.file.footer.tpl.php on line 33

Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/a920adceac475d2e17f193a32cdaa1b563fd6f5b_0.file.footer.tpl.php on line 33
ساهم - قرآن ٣