أرشيف المقالات

الأدب والفن في أسبوع

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
اتهام الأدباء: كان الاتهام في هذا الشهر بمجلة الهلال من نصيب الأدباء، فقد كتب الأستاذ طه خطاب طه بعنوان (أتهم الأدباء) فوجه إليهم أربع تهم: 1 - تمرغهم في أحضان السياسة الحزبية وتقلبهم مع الوزارات مما انحدر بأدبهم إلى درك التنابذ والتراشق بألفاظ الشتم والسباب. 2 - الأنانية والاحتكار والقضاء على روح الطموح عند الأدباء الناشئين خشية المنافسة في الصيت والكسب. 3 - استغلال الشهرة في نشر المقالات الهزيلة وإذاعة الأدب الهش الذي خلا من العمق وإعمال الفكر. 4 - الانحدار بأخلاق الجمهور إلى المنحدر المائل، بنشر الصور المثيرة والقصص المغرية. وأنا أخاف الأستاذ طه في بعض هذه التهم، وأوافقه في بعض، فاشتغال الأدباء بالسياسة الحزبية لا يعيب أدبهم، ولو نالهم رشاش من إسفاف الأحزاب عندنا، وهو لون من جهاد الأقلام على أي حال، على أن الأدباء ليسوا جميعاً مشتغلين بالسياسة بل أكثرهم منصرفون عنها، أما المتلونون مع الوزارات فما هم بالعدد ولا بالنوع الذي يؤبه له، فلا ينبغي أن يوصم بفعلهم مجموع الأدباء؛ وأما التراشق بالشتائم فقد كان في أوائل هذا الجيل مستشرياً في الأدب البحت أكثر مما هو في السياسة اليوم وقبل اليوم، بل هو يكاد ينعدم الآن بين خواص الأدباء. وأؤخر التهمة الثانية لطول الكلام عليها، كما كان يفعل أسلافنا من الأزهريين في الشروح والحواشي، فأقول إن التهمة الثالثة صحيحة لاصقة.

فإن كبار الكتاب قد استغلوا حقاً رواج أسمائهم فأجازوا بها الهدر وجعلوه مقالات تنشر ويؤجر عليها. ولكن التهمة يا سيد طه، هشة.

فالذين ينشرون الصور المثيرة والقصص المغرية قوم تميزهم من الأدباء ثرواتهم التي أصابوها من هذا الذي تعيبه! ثم أعود إلى التهمة الثانية، وهي المسألة العويصة في هذه لقضية، إذ تختلط فيها الحقائق بالتهم الباطلة، يقول الشبان إن الأدباء الكبار يحتكرون سوق الأدب حتى إنهم لا يمكنونا من عرض بضاعتنا، ويقول الكبار أنا لا نحتكر وإنما يقبل علينا الناس، وقد تعبنا حتى وصلنا إلى هذه المنزلة.
وتسأل الشبان إيضاحاً فيقولون إن الأدباء الكبار يشرفون على النشر ونقدم لهم فلا ينشرون لنا ويؤثرون علينا الأسماء المشهورة.
وهذا حق يقارنه حق آخر: إن كثيراً من الناشئين يريدون أن يزاولوا الأدب بالإنتاج فحسب.

أي من غير درس ولا تحصيل ولا تخرج! أما إيثار الأسماء المشهورة فهو ضعف بشري عام مصدره الرغبة في الرواج، وهو في الأدب وفي غيره، وهو عند غيرنا كما هو عندنا، والسبيل إلى التغلب عليه هو جهاد الناشئين الشاق الدائب.
على إنه مما ييسر عليهم هذا السبيل إن هؤلاء الذين اغتروا بشهرتهم قد بدأت عروشهم تهتز لعكوفهم على لذة الكتابة الهينة اللينة وثملهم بما يصيبون منها.
ولكن المعضلة يا سيدي اللبيب الفطن هي: من يحل محلهم؟ أو بعبارة أخرى هل هناك ثوار يقدرون على البناء إن قدروا على التقوبض؟ إخواني الشبان، لقد غضب بعضكم مني لأقل من هذا، وستتم بهذا غضبتكم، ولكني أقول لكم مخلصاً صريحاً: إنكم عزل فتسلحوا بالجد لتكسبوا المعركة، كما تسلح وكسبها شيوخنا في شبابهم إذ أجلوا شيوخهم عن الميدان. وقد ترى أن ندع لغة السلاح والقتال ونتكلم بروح المودة نحو الأساتذة والآباء فنقول: تزودوا أيها الشباب لتأخذوا أماكنكم بجوار آبائكم، لتحسنوا خلافتهم وقيادة جيلكم. دفاع عن الكسل: ظهر في هذا الأسبوع مقالان في الدفاع عن الكسل لكاتبين كبيرين هما الأستاذ عباس محمود العقاد والفيلسوف الصيني (لن يوتانج) الأول في مجلة (الهلال) والثاني في (المختار من ريدرز دايجست). ولعل ذلك الدفاع من فعل هذا الحر الذي يغري بالكسل، وإن كان لم يمنع من النشاط في الدفاع عنه! دافع الأستاذ العقاد عن الكسل، فكان من أحسن ما جاء في دفاعه قوله: (وإذا كان الأخيار في هذه الدنيا هم القلة النادرة وكان الأشرار فيها هم الكثرة الغالبة، فهل يكون ترك الأعمال في جملته إلا تركاً للخير القليل والشر الكثير؟ وهل يكون الكسل إلا (عملاً) يرجح فيه الكسب على الخسارة، ويربى فيه الاطمئنان والآمان على الخوف والبلاء؟ (قال الأستاذ يدعي النشاط: إن العصفور المبكر يلتقط الدودة قبل إخوانه.

فأجابه التلميذ قليل الإدعاء: ولكن الدودة المبكرة هي التي تموت في منقار ذلك العصفور). وقد ذكرني قول الأستاذ الكبير (فحسبي الآن أن أرضى بالدفاع عن الكسل كلما أفرطت الحركة من غير بركة، كما تفرط في هذا الزمان) بما كتبته في الأسبوع الماضي عن نشاط كثير من الناس في تأليف الكتب، وذكرت ما سمعته مرة من أحد (الناشطين) في التأليف، وقد قلت له: إني أراك تنفق أكثر وقتك في زيارة دور النشر للحث على إنجاز طبع كتاب أو لعرض كتاب آخر، فمتى تؤلف هذه الكتب؟ قال في استهانة يطل من ثناياها الزهو: إنني أفرغ من الكتاب في ليلة واحدة! ألا ليت هؤلاء المؤلفين، وأمثالهم في غير التأليف، يسكنون فما من حركاتهم من بركة.
أما الكاتب الصيني فقد جاء في المقال الذي أقتطفه (المختار) من كتاب له، فصل عنوانه (فن الكسل) بدأه بقوله (الثقافة بنت الفراغ والراحة.
وأهل الصين يرون إن أحسن الناس ممارسة للكسل هو أحسنهم ثقافة، ويبدو لهم إن هناك تناقضاً بين كثرة العمل والحكمة) وأحسبه يقصد بممارسة الكسل إراحة الذهن ليهضم على مهل وليسلمن الكد فيقوى على التفكير السليم وهو يرى إن من الفن الجميل أن تعرف كيف تدع الأعمال فلا تنجزها، وأن تعرف كيف تصرف وجهك عن كل شيء لا ضرورة له. ويقول (لن يوتانج) إن رذائل أهل أمريكا هي عند أهل الصين: قدرتهم على العمل، ودقتهم في أدائهم، وشدة حرصهم على النجاح، ثم يوازن كسل الصينيين بنشاط الأمريكيين موازنة غريبة ظريفة، لأنه يخالف فيها المقررات الاجتماعية المتفق عليها، فالأمريكي يرى أن (مقاربة الإتقان ليست بكافية، أما الصيني فهي عنده كافية كل الكفاية.
لأنه يعتقد إن القدرة على العمل لا تدع لأحد فراغاً يروح فيه عن نفسه؛ وإنها ترهقه بحرصه على إتقان الشيء الذي يعمله وضرب مثلاً محرر مجلة أمريكية يقتل نفسه حرصاً على أن لا تظهر فيه أخطاء مطبعية، أما الصيني الحكيم فيسره أن يتيح لقرأه أن يستمتعوا بالرضى عن أنفسهم حين يعثرون على بضعة أخطاء يهتدون إليها بأنفسهم، وأعظم من ذلك إن المجلة الصينية تستطيع أن تبدأ في نشر قصة مسلسلة، ثم لا تكاد تبلغ منتصف القصة حتى تسقطها من حسابها.
ولو حدث مثل ذلك في أمريكا لكان بلاء ماحقاً على المحرر). فهل لأستاذنا رئيس تحرير الرسالة أن يخفف من (أمريكيته) في الحرص على خلو الرسالة من الأخطاء المطبعية.

ويأخذ بالحكمة الصينية في ذلك.
على أن لا يكون هذا في باب (الأدب والفن في أسبوع)!! فوسوس الشيطان في صدري، لأصطنع (فن الكسل) فلا أكتب هذا الأسبوع ولا أعني نفسي بجمع الرحيق من هنا وهناك، وأقضي الوقت فيما يوحيه إلي ذلك (الفن الجميل) ولكني لم أستطب ذلك لأسباب أهمها شعوري باللذة من انتظام العمل الذي تستريح إليه نفسي.
ومن هنا أدركت إن المسألة ليست مسألة حكمة أو قانون يوضع للجميع، وإنما ذلك يتبع الأمزجة والطبائع، فالكسل الذي يتمتع به الصيني لا يحب الأمريكي الخلود إليه لأنه يتمتع بالحركة الدائبة.
بل يختلف أفراد الأمة بل الأسرة الواحدة في الميول والنزعات، وكما تعمل عوامل البيئات في اختلاط الأجناس والأمم، تعمل مفرزات الغدد في اختلاف الأفراد. النهوض بالمسرح: أثيرت مسألة المسرح المصري في الأيام الأخيرة، إذ أبدى بعض رجاله والمهتمين به ألمهم وجزعهم مما وصل إليه، وعملت بعض الهيئات الفنية على الدعوة إلى النهوض به؛ فقد كتب الأستاذ يوسف وهبي بك نقيب الممثلين في مجلة (دنيا الفن) مقالاً بعنوان (المسرح المصري يحتضر) قال فيه إن حالة المسرح المصري اليوم هي بلا شك حالة النزع، وألقى تبعة تدهوره على الحكومة لأنها أهملت إعانة الفرق المسرحية، وقصرت عنايتها على الفرقة المصرية التي وصفها بأنها (أشبه بمؤامرة على الفن المسرحي المصري). وأعلن اتحاد الفنيين المصريين دعوته إلى مؤتمر للمسرح المصري يعقد في القاهرة في منتصف سبتمبر القادم، تشترك فيه الهيئات الحكومية وكبار المشجعين للفنون الجميلة والمشتغلين بها في مصر والعالم العربي. والواقع إن المسرح في مصر يكاد يلفظ أنفاسه الأخيرة، فقد انفضت فرقه ولم يبق إلا الفرقة المصرية التي ترعاها وزارة الشؤون الاجتماعية، وهذه الفرقة تضم صفوة الممثلين والممثلات في مصر، والحكومة تسخو عليها، وهي مع ذلك تتعثر في خطواتها، ويظهر إنها قد استمرأت التواني والتثاقل في ظلال الحكومة فجعلت تعيش الزمن الطويل على بضعة روايات قد حفظ الممثلون أدوارهم فيها ومل الجمهور مشاهدتها، وهي هي في الشتاء وفي الصيف، فقد لاحقته بها في مصيف رأس البر ثم في الإسكندرية، فكان من الطبيعي ما منيت به من الإخفاق وفي يوم الأحد تضمن برنامج الإذاعة تمثيل الفرقة المصرية رواية لويس الحادي عشر بمسرح الهمبرا بالإسكندرية، فإذا بنا نسمع بالموعد المحدد لهذه السهرة تمثيلية (الموت يأخذ إجازة) وهي من (مسجلات) الفرقة أيضاً، وإذا بنا نسمع صوتاً في أثناء الفصل الثاني يرتفع قائلاً: (عاوزين نسحر!) وهذا يدل على ضيق النظارة بالتمثيل وقد يضاف إليه حر المكان الذي لا يطيقه الوافدون من شاطئ البحر.

وقد انقطع التمثيل فترة، ثم استؤنف! والذي نراه من أسباب هذه الأزمة المسرحية: 1 - ضعف حركة التأليف المسرحي، فأكثر الروايات التي تعرض إما مترجمة أو مقتبسة، والجمهور متعطش إلى المسرحيات القوية العديدة التي يرى فيها صورة نفسه. 2 - إهمال الفرق الأهلية الذي أدى إلى قعودها عن العمل فأنعدمت المنافسة بين المسارح. 3 - عدم وجود المسارح الملائمة وخاصة في الصيف، وهذه القاهرة العظيمة ليست فيها مسرح صيفي واحد وحبذا لو أنشئ هذا المسرح الصيفي وبجانبه آخر شتوي على أرض ثكنات قصر النيل التي اختلفت الآراء فيما يشغلها. 4 - ارتفاع أسعار دخول المسارح الذي صرف الناس عنها إلى (السينما). وإقالة المسرح من عثرته إنما تكون بتلافي أسبابها، وترى من الأسباب المتقدمة إن أكبر جهد في إزالتها إنما يرجى من الحكومة، وما دامت الدولة تعترف بأن المسرح الراقي من وسائل التثقيف والتنوير فلا بد أن تبذل ما في وسعها لأحيائه وتمكينه من تأدية رسالته.
وهي تنفق الكثير في استقدام الفرق الإيطالية والفرنسية والإنجليزية للتمثيل بالأوبرا لفائدة الطبقات العالية، فحق سائر الشعب عليها أن تيسر له موارد هذا الفن، فتحقق (تكافؤ الفرص) في التثقيف العام كما تعمل على تحقيقه في التعليم المدرسي. (العباس)

شارك الخبر

المرئيات-١